… إذ وجدتني حرّاً , طليقاً , مُتفرّداً , جامحاً , متمرّداً , غير مشاعٍ ولا تابعٍ ولا مُتعدّد..!!
كنت أُدوّر العالمَ بإصبعي مثل كرة , وفجأةً تسلّلت إليَّ من بين سطور قصَّتك المشؤومة , وهمستَ لي بكلماتِك الشيطانيّة:
” ما أمرَّ أن تبقى عازباً .. أن تكون مريضاً وحدك, خلال أسابيع, وأنْ تتأمَّلَ من قلبِ سريرك الغرفة القفر…”.
كيف بربك جئت بفيضِ كلماتك التي سمَّمت لي روحي , وعصفتْ بطمأنينتي، تلك اللحظة بالذات التي رافقت إحباطاتي الهائلة بأن ليسَ ثمَّة ما يُعوَّل عليه في هذه البلاد لمدةِ قرنٍ من الزمان …هزائمُ تتْرى , وتطامنٌ عجيب , وقهرٌ غريب , وكبتٌ عظيم , ونساءٌ عابثات بالقلوب والرَّغبات , تكاد الغُددُ تتفتَّق من فيضِ ما تُفرز من المياه الثقيلة التي تُغشي الأبصار، وتُهلك الأجساد , وليس ثمَّة غيري: أعزب ووحيد في شقتي محفوفاً بالكتب والهواجس , وكلمات أمّي وهي تأزُّ في رأسي , وتبتزُّ عواطفي الضعيفة كلّ حين :
” أرجوك … دعني أرى ذُريَّتك قبل أن أموت…!
اللعنةُ عليك يا كافكا…!!
إذْ جعلتني أتبعُ تلك الأحرف الجهنَّمية التي اشتعلت أمامي فجأة ذات ليلةٍ , فقلبتْ لي وحدانيتي العظيمة إلى ستّ شظايا وقلبٍ كسيف:
” ما أمرّ أن تبقى عازباً ..ألا تصعد أبداً الدرج الذي يضيقُ بك وبإمرأتك ..أن تسكن غُرفةً لا يتَّصل البابُ الأيمنُ فيها , والباب الأيسر إلا بشقق الغرباء .. . أن ترجع مساءً وعشاؤك في يدك … أن تُعجب بأبناء الآخرين دون أن تستطيع إلاّ قولاً واحداً : ليس لي أبناء”
وها أنذا أفرُّ من بين أربعة أطفال يتصايحون ليل نهار , وامرأةٍ مُتحفّزة, و بقايا كائنٍ على وشك الانهيار.. هو أنا..!
كانت أفكاري صافية تذهب بعيدا نحو الكواكب والمجرّات, والتأمُّل في الخَلق, والكائنات الخارقة التي ترقُبنا من عَلٍ كمختبرٍ صغيرٍ , وكنتُ قاب قوسين أو أدنى من الإشراق الهائل للنفس والقبض على السّر , غير أنني الآن غارقٌ في التفكير بالثقوب السوداء التي جذبتني إلى بُؤرتها , فصارت تأكلُ الأخضر والأصفر , وتُهلك الزرع والحرث , وتجعل الجيبَ بلقعاً , والنفسُ ذليلة , و ها هو الجسد هالك لا محالة من تواصل الشُغل , وتأمين القوت , ودفع الفواتير المُتناسلة , والركض خلف مشافي الأمراض والولادات , وتهاني الطهور والعرسان , وتعازي الأموات , وسُوق الخضار , والحلّاق , و ربًّما أيضا مراكز الشرطة والسجون لفكّ أُسر العفاريت الذين يعيثون فساداً في الحيّ بين الضحى والليل…!
اللعنة عليّ أيضاً…!
فمن المؤكد أنني ارتكبت ذات حقبة من حَيواتي السابقة مُوبقات تعيى عن الوصف , وحسدتُ نفسي على الأربعين عاماً التي قضيتها هانئاً , وادعاً, أليفاً, تتلبَّسني الطمأنينة أنَّى حللت, حتى فتحت ذلك الكتاب المُرنّخ بالسُّمّ بقوة ألف عقرب , فسرى في البدن والنفس , و جعلني أركضُ نحو أمّي مُوافقاً على أول أنثى تطلع إليّ من أول الدّرب حتى أكمل نصف ديني الذي – في الحقيقة- لم أكن أملك نصفه الباقي..!
اللعنةُ عليكم يا رفاقي السفلة …!
فأنتم أيضاً مصدر التَّحريض الذي كان يطنُّ في دماغي مثل خليّة نحلٍ , وها إنَّ كلماتكم الموبوءة قد صادفتْ تماماً ما قاله ذلك الألماني المجنون في أقصوصته , وشكوى أمي المزمنة , وفيض الصُلبِ والترائب…!
آهٍ ما أمّر نقاشاتكم الزائفة ,أنتم السابقون إلى الخديعة الكبرى و تودّون لو يتّبعكم اللاحقون , إذ الخنوع تاج يُكلّل لكم الرؤوس , والعبودية البليدة تشوّه النفوس , دوما أتذكر تنظيراتكم المُضلِّلة :
” أخانا الأعزب …لو أنَّك فقط تذوق طعم الاستقرار, ورؤية الأهل الذين يملؤون الدار , والطبيخ الشهي لما لذَّ وطاب, والباه الذي تكسب على فِعْله الحَسَناتْ وعظيم اللذاتْ…! “
أخانا التائه الوحيد… نحن الذي سبقناك إلى القفص الرغيد الذي يضمن راحة البال وطمأنينة الحال .. ليست الحرية أن تبقى طليقاً ترتعُ بل أن تختار وتخضع … تعال إلى العُشّ الذَّهبي ..واتّبع خُطانا إنّا لك من الناصحين…!
أصبح البحث عن الكتاب الرجيم بالنسبة إليّ هاجساً لا يجعلني أنعم بالهدوء ,ولا أعرف طعماً للأحلام , فقررتُ أن أمسح البيتَ طولاً وعرضاً, وأنقّب في كلّ زاويةٍ , وفوق كلّ رفّ حتى أعثر عليه , وأتخلص من لعنته التي تُطاردني , وصرت أفكر بمجموعة من الخِطط, والأفكار الحانقة التي سأنتقم بها من صفحاته حال ما أعثر عليه :
سأتسلى أولاً بتمزيقها ببطء , ورميها في النيران حتى تصير نسياً منسياً , أو بالضبط سأفصلُ كلّ حرف عن أخيه , وأذروها جميعا إلى الرياح حتى لا تجتمع من جديد, ولو تكفلت بها مردةُ سليمان…
آهٍ كم أرغب بأن أشوي جلد الكتاب شيَّاً , وأستمتعُ بفرقعته بكلّ ساديَّة…!
تمنيتُ أيضاً أن ألتقي كافكا شخصياً على هيئة صرصور، وأهرسه بقدمي بعد أن أشبعه شتماً , ولا أدري إلى الآن من أين جاء لنا ذلك اللعين بحكمته القاتلة :
” ما أمرّ أن تبقى عازبا..”
تذكرت وأنا أذرع غرف البيت مثل مأفون قالباً عاليه إلى الحضيض بأنَّني كنتُ في لحظة نشوةٍ نادرة , أيام العسل الأولى قد أهديته لأحد أصدقائي العُزَّاب, ولم أره بعد كلّ هذه السنوات مع ما جرى لي من قدوم الأفواه الفاغرة التي تُذهب عقل كلّ حليم , وكيف بُدّلت من بعد علم أميَّاً لا أكادُ أفقهُ قولاً , وها إنّي أجرُّ خطواتي باتجاه بيت صديقي حتى أستعيد منه ذلك الكتاب, لعلي أخلصه من سوء العاقبة والمصير…
وصلت البيت وطرقت الباب لأسمع الجواب ,وكما يحدثُ في المُصادفات التي يُدبُّرها لنا القدر , أطلَّ صديقي القديم , الأعزب الصامد , وللحظة خيم صمتٌ بيننا بسبب دهشة اللقاء بعد طول الغياب , فرحتُ في داخلي أدبّجُ له الكلمات دون أن تخرج من حلقي:
صديقي المُتمرد , المتوحّد لك الغبطة على الحريّة التي تتمرغُ في نعيمها..!
طوبى لك نهار الانطلاق اللذيذ ..وستار الليل دون رقيب أو حسيب..!
هنيئاً لك الهدوء والسكينة وراحة البال وقلة السؤال…!
ليتقدّس الرب الذي نجَّاك من التجربة ومن همزات الشرير..!
لم أكن قد انطلقت بعد في خُطبتي العظيمة , حتى انعقد منّي اللسان , وسمعتُ فجأةً أصوات صراخٍ وزعيقٍ وصفيرٍ جاء دفعةً واحدةً مثل قدوم قطار هائج , ورأيتُ امرأة عجفاء تُطلّ من خلف الباب وأطفالاً يتعربشون بها , ولم أكد أفهم من الأمر شيئاً حتى أفاقني صوت صاحبي الغريب , وهو يكاد يتميَّز من الغيظ , و يلقي إلي بحملٍ ثقيلٍ يكسرُ الظهر , و يتطاير كالشرر :
أنت من جديد … آآآآآآآآآآخ ….اللعنة عليك يا صديقي …
اللعنة عليــــك
يحيى القيسي
* نشرت في اغسطس 2006
كنت أُدوّر العالمَ بإصبعي مثل كرة , وفجأةً تسلّلت إليَّ من بين سطور قصَّتك المشؤومة , وهمستَ لي بكلماتِك الشيطانيّة:
” ما أمرَّ أن تبقى عازباً .. أن تكون مريضاً وحدك, خلال أسابيع, وأنْ تتأمَّلَ من قلبِ سريرك الغرفة القفر…”.
كيف بربك جئت بفيضِ كلماتك التي سمَّمت لي روحي , وعصفتْ بطمأنينتي، تلك اللحظة بالذات التي رافقت إحباطاتي الهائلة بأن ليسَ ثمَّة ما يُعوَّل عليه في هذه البلاد لمدةِ قرنٍ من الزمان …هزائمُ تتْرى , وتطامنٌ عجيب , وقهرٌ غريب , وكبتٌ عظيم , ونساءٌ عابثات بالقلوب والرَّغبات , تكاد الغُددُ تتفتَّق من فيضِ ما تُفرز من المياه الثقيلة التي تُغشي الأبصار، وتُهلك الأجساد , وليس ثمَّة غيري: أعزب ووحيد في شقتي محفوفاً بالكتب والهواجس , وكلمات أمّي وهي تأزُّ في رأسي , وتبتزُّ عواطفي الضعيفة كلّ حين :
” أرجوك … دعني أرى ذُريَّتك قبل أن أموت…!
اللعنةُ عليك يا كافكا…!!
إذْ جعلتني أتبعُ تلك الأحرف الجهنَّمية التي اشتعلت أمامي فجأة ذات ليلةٍ , فقلبتْ لي وحدانيتي العظيمة إلى ستّ شظايا وقلبٍ كسيف:
” ما أمرّ أن تبقى عازباً ..ألا تصعد أبداً الدرج الذي يضيقُ بك وبإمرأتك ..أن تسكن غُرفةً لا يتَّصل البابُ الأيمنُ فيها , والباب الأيسر إلا بشقق الغرباء .. . أن ترجع مساءً وعشاؤك في يدك … أن تُعجب بأبناء الآخرين دون أن تستطيع إلاّ قولاً واحداً : ليس لي أبناء”
وها أنذا أفرُّ من بين أربعة أطفال يتصايحون ليل نهار , وامرأةٍ مُتحفّزة, و بقايا كائنٍ على وشك الانهيار.. هو أنا..!
كانت أفكاري صافية تذهب بعيدا نحو الكواكب والمجرّات, والتأمُّل في الخَلق, والكائنات الخارقة التي ترقُبنا من عَلٍ كمختبرٍ صغيرٍ , وكنتُ قاب قوسين أو أدنى من الإشراق الهائل للنفس والقبض على السّر , غير أنني الآن غارقٌ في التفكير بالثقوب السوداء التي جذبتني إلى بُؤرتها , فصارت تأكلُ الأخضر والأصفر , وتُهلك الزرع والحرث , وتجعل الجيبَ بلقعاً , والنفسُ ذليلة , و ها هو الجسد هالك لا محالة من تواصل الشُغل , وتأمين القوت , ودفع الفواتير المُتناسلة , والركض خلف مشافي الأمراض والولادات , وتهاني الطهور والعرسان , وتعازي الأموات , وسُوق الخضار , والحلّاق , و ربًّما أيضا مراكز الشرطة والسجون لفكّ أُسر العفاريت الذين يعيثون فساداً في الحيّ بين الضحى والليل…!
اللعنة عليّ أيضاً…!
فمن المؤكد أنني ارتكبت ذات حقبة من حَيواتي السابقة مُوبقات تعيى عن الوصف , وحسدتُ نفسي على الأربعين عاماً التي قضيتها هانئاً , وادعاً, أليفاً, تتلبَّسني الطمأنينة أنَّى حللت, حتى فتحت ذلك الكتاب المُرنّخ بالسُّمّ بقوة ألف عقرب , فسرى في البدن والنفس , و جعلني أركضُ نحو أمّي مُوافقاً على أول أنثى تطلع إليّ من أول الدّرب حتى أكمل نصف ديني الذي – في الحقيقة- لم أكن أملك نصفه الباقي..!
اللعنةُ عليكم يا رفاقي السفلة …!
فأنتم أيضاً مصدر التَّحريض الذي كان يطنُّ في دماغي مثل خليّة نحلٍ , وها إنَّ كلماتكم الموبوءة قد صادفتْ تماماً ما قاله ذلك الألماني المجنون في أقصوصته , وشكوى أمي المزمنة , وفيض الصُلبِ والترائب…!
آهٍ ما أمّر نقاشاتكم الزائفة ,أنتم السابقون إلى الخديعة الكبرى و تودّون لو يتّبعكم اللاحقون , إذ الخنوع تاج يُكلّل لكم الرؤوس , والعبودية البليدة تشوّه النفوس , دوما أتذكر تنظيراتكم المُضلِّلة :
” أخانا الأعزب …لو أنَّك فقط تذوق طعم الاستقرار, ورؤية الأهل الذين يملؤون الدار , والطبيخ الشهي لما لذَّ وطاب, والباه الذي تكسب على فِعْله الحَسَناتْ وعظيم اللذاتْ…! “
أخانا التائه الوحيد… نحن الذي سبقناك إلى القفص الرغيد الذي يضمن راحة البال وطمأنينة الحال .. ليست الحرية أن تبقى طليقاً ترتعُ بل أن تختار وتخضع … تعال إلى العُشّ الذَّهبي ..واتّبع خُطانا إنّا لك من الناصحين…!
أصبح البحث عن الكتاب الرجيم بالنسبة إليّ هاجساً لا يجعلني أنعم بالهدوء ,ولا أعرف طعماً للأحلام , فقررتُ أن أمسح البيتَ طولاً وعرضاً, وأنقّب في كلّ زاويةٍ , وفوق كلّ رفّ حتى أعثر عليه , وأتخلص من لعنته التي تُطاردني , وصرت أفكر بمجموعة من الخِطط, والأفكار الحانقة التي سأنتقم بها من صفحاته حال ما أعثر عليه :
سأتسلى أولاً بتمزيقها ببطء , ورميها في النيران حتى تصير نسياً منسياً , أو بالضبط سأفصلُ كلّ حرف عن أخيه , وأذروها جميعا إلى الرياح حتى لا تجتمع من جديد, ولو تكفلت بها مردةُ سليمان…
آهٍ كم أرغب بأن أشوي جلد الكتاب شيَّاً , وأستمتعُ بفرقعته بكلّ ساديَّة…!
تمنيتُ أيضاً أن ألتقي كافكا شخصياً على هيئة صرصور، وأهرسه بقدمي بعد أن أشبعه شتماً , ولا أدري إلى الآن من أين جاء لنا ذلك اللعين بحكمته القاتلة :
” ما أمرّ أن تبقى عازبا..”
تذكرت وأنا أذرع غرف البيت مثل مأفون قالباً عاليه إلى الحضيض بأنَّني كنتُ في لحظة نشوةٍ نادرة , أيام العسل الأولى قد أهديته لأحد أصدقائي العُزَّاب, ولم أره بعد كلّ هذه السنوات مع ما جرى لي من قدوم الأفواه الفاغرة التي تُذهب عقل كلّ حليم , وكيف بُدّلت من بعد علم أميَّاً لا أكادُ أفقهُ قولاً , وها إنّي أجرُّ خطواتي باتجاه بيت صديقي حتى أستعيد منه ذلك الكتاب, لعلي أخلصه من سوء العاقبة والمصير…
وصلت البيت وطرقت الباب لأسمع الجواب ,وكما يحدثُ في المُصادفات التي يُدبُّرها لنا القدر , أطلَّ صديقي القديم , الأعزب الصامد , وللحظة خيم صمتٌ بيننا بسبب دهشة اللقاء بعد طول الغياب , فرحتُ في داخلي أدبّجُ له الكلمات دون أن تخرج من حلقي:
صديقي المُتمرد , المتوحّد لك الغبطة على الحريّة التي تتمرغُ في نعيمها..!
طوبى لك نهار الانطلاق اللذيذ ..وستار الليل دون رقيب أو حسيب..!
هنيئاً لك الهدوء والسكينة وراحة البال وقلة السؤال…!
ليتقدّس الرب الذي نجَّاك من التجربة ومن همزات الشرير..!
لم أكن قد انطلقت بعد في خُطبتي العظيمة , حتى انعقد منّي اللسان , وسمعتُ فجأةً أصوات صراخٍ وزعيقٍ وصفيرٍ جاء دفعةً واحدةً مثل قدوم قطار هائج , ورأيتُ امرأة عجفاء تُطلّ من خلف الباب وأطفالاً يتعربشون بها , ولم أكد أفهم من الأمر شيئاً حتى أفاقني صوت صاحبي الغريب , وهو يكاد يتميَّز من الغيظ , و يلقي إلي بحملٍ ثقيلٍ يكسرُ الظهر , و يتطاير كالشرر :
أنت من جديد … آآآآآآآآآآخ ….اللعنة عليك يا صديقي …
اللعنة عليــــك
يحيى القيسي
* نشرت في اغسطس 2006
كافكا…اللعنة عليك..! - ثقافات
(ثقافات) كافكا........اللعنة عليك قصة قصيرة يحيى القيسي* ... إذ وجدتني حرّاً , طليقاً , مُتفر
thaqafat.com