د. محمد أبو الفتوح غنيم - قراءة لكتاب "دنشواي.. أصل الحكاية والجلاد" تأليف المستشار والأديب بهاء المري

حادثة دنشواي، مرَّ عليها أكثر من مائة وستة عشر عاماً، لكنها جديرة أن تُذكر دائماً، ويُكتب عنها، وتتدارسها الأجيال، ليس من قبيل أنها حادثة وطنية ألهبت الشعور الوطني وأذكت نار الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي في مصر (1882-1952) فحسب، بل من قبيل كونها حادثة إنسانية قبل أن تكون وطنية أو تاريخية أو سياسية أو اجتماعية.حادثة حملت قضية تهم الانسان في أي بلد، ومن الممكن أن يحدث مثلها في أي زمن، فإن كان ظاهرها قضية صراع بين قوات احتلال ظالم غاشم وفلاحين بسطاء مغلوب على أمرهم، فإن جوهرها الصراع بين الشر بسطوته والخير بإمكاناته المحدودة، والصراع بينالظلم المستأسد والعدل الذي يجاهد أن يرفع رأسه، وبين القوة الغاشمة المتسلحة بالسلطة والضعف الإنساني الذي لا يملك ما يدافع به عن نفسه، وهي صراعات مستمرة استمرار وجود الإنسان، واستمرار حياة المجتمعات على ظهر الأرض.

الكتاب، الصادر عن دار الاهرام للإصدارات القانونية، للمستشار والأديب بهاء المري، هو ملف وسجل توثيقي شامل للحادثة، ولكل ما يتعلق بها مما قبلها ومما بعدها، بتفاصيلها ودقائقها،من جذورها وحتى ذؤابات أفرعها،لم يترك للقارىء فرصة للاستفسار عن شيء أو عن شخص، فغالباً ما سيجدالإجابة عن استفساره في المتن أو في الهامش.راعى فيه الحيادية، والنقل الأمين، الخالي من أن يأخذ القارىء إلى منطقة ما أو رأي ما، كل هذا في أسلوب بسيط وواضح وخال من التعقيد، وبمنهجية علمية قائمة على دراسة جذور ومسببات الحادثة، وما اكتنفها، وما حدث فيها، وما نتج عنها من تشكيل المحاكمة والتجهيز لها، وما تم في المحاكمة من مرافعات الإدعاء، ومحاولات الدفاع، واستجوابات الشهود، وما تلاها وأعقبها من أحكام، وحيثيات هذه الأحكام، ثم تنفيذ الأحكام وطريقة تنفيذها الغريبة، ثم مردود الحادثة على المستويين المحلي والعالمي، وإلقاء الضوء على جلاد دنشواي، وهو محامي الادعاء ابراهيم بك الهلباوي، الذي ساهم بنصيب وافر في الاحكام الجائرة التي حكمت بها المحكمة والتي تشكلت من ثلاثة اعضاء مصريين وأربعة من الانجليز.

ولعل المحاكمة وما حدث فيها كان هو بؤرة العمل وعمود الخيمة منه، وفيها نكتشف ساحةمفتوحة على مصراعيها للإدّعاء، يصول ويجول ويلقي بالاتهامات والإدعاءات،وموقف مختَزل ومتخاذِل من الدفاع، وغياب صوت المتهمين أو بالأحرى تغييبه، الذي لم يأخذ من زمن المحاكمة سوى ثلاثين دقيقة فقط، هذا الصوت المهمش المكبوت، يسمح لنا المؤلف أن نسمع بعضاً منه عندما توصل إلى نتائج محاولة محمودةللاستماع إلى شهداء على الحادثة ومتهمين فيها، وهي محاولةالمحامي بالنقض محمود كامل بعد أربعين عاماً من الحادثة عام 1946، عندما زار القرية وسجل روايات بعض أهلها وكانت منهم أم محمد التي اصابها طلق ناري وكانت صوتها شرارة اندفاع الاهالي للاشتباك مع الضباط الانجليز.

ومنها نقف على شهادة أحدهم، وهو محمد على عزب، أحد المتهمين، وتكشف شهادته عن روح نقية تنشد السلامة والسلام، ولا ترضى بالتعدي والاعتداء، روح البسطاء الطيبين من أهل القرية، المطحونين تحت لفح الشمس من الصباح إلى المساء، الآمنيين الذين رُوّعوا، وتبرزاندفاعهم لتلبية استغاثة أم محمد المفجوعة في قوت أسرتها وخلاصة كدهم طوال العام، يقول: "سمعنا الأهالي تقول للانجليز:"النار طارت في الجرن ما تضربوش سلاح" وطلعتأم محمد زوجة محمد عبد النبي المؤذن، تصوَّت وتقول: "يا غلتي"! فضربها أحد الضباط الانجليز "رش"، وهنا جاء شيخ الخفر وقال: "دهده؟ دول بيضربوا نار، هو دا يصح! هي دي أصول؟! وبعدين طار رش تاني، واتلمت الأهالي وبدأت في تحديق الطوب، لكني لم أر أحداً يستعمل العصي في ضرب الانجليز؟" لقد رُوِّع هؤلاء الآمنون وما قاموا به لم يكن سوى دفاعاً عن أنفسهم وعن قوتهم وما يملكون.

من مشاهد تنفيذ الأحكام، وقفت كثيراً عند الأقوال الأخيرة، للشهداء أو المجلودين، والتي كانت في حاجة إلى أن نقف عندها كثيراً لا أن يتم نقلها نقلاً عابراً، منهاما قاله: زهران لعشماوي مستبطئاً تنفيذ الحكم وحبل المشنقة: شهّل يا أخي شهّل. وكأنه يتعجل وداع هذه الدنيا الظالمة، التي لم ير فيها سعادةً ولا هناءة ولا رفِقاً، ولا سعةً ولا حناناً ولا عدلا، يتعجل وداع هذا العالم الدميم الجائر القاسي، واستقبال رحمة الله الواسعة وجنة المأوى حيث النعيم المقيم. كلمات قليلة لكنها كانت تقول الكثير، وتقول ما لا يقال، أو أنها قالت ما لا يُسمع، ولعلها كانت الإلهام الذي أوحى إلى الشاعر صلاح عبد الصبور لكتابة رائعته "شنق زهران" بعد عشرات السنين من الحادثة.

وتكشف المحاكمة عن موقف شجاع نبيل للأومباشي زقزوق الذي صاحب الضباط الأنجليز في رحلتي الصيد، وشهادته في المحكمة، هذا الموقف الذي خرج به على مسرح الأحداث في بضعة دقائق، إلا إنها كانت كفيلة أن تجعله من أكثر المواقف المضيئة في المحاكمة وفي الحادثة كلها، فعلى الرغم من أنه كان من رجال الحكومة، وعلى الرغممما قد يكون تعرض له من ضغوط، وتهديدات بما سوف يقع عليه من تضييق أو تجريم وعقاب، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، إلا إنه كان شجاعاً صلباً، ومتمسكاً بشهادة الحق، وأصرّ على أن الضباط أطلقوا النار على الجمهور مرتين بعد أن أصابوا المرأة. وعندما سأله أحد القضاة الانجليز: "إن كان يخشى أن يقول هذا"، أجاب بصلابة:"لا يستطيع أحد في الدنيا أن يخيفني، والحق هو الحق"، فأمرته المحكمة بالجلوس فوراً".

صحيح إنه دفع ثمن رجولته، وموقفه الشجاع هذا، فقد حُكم عليه بعد أيام من شهادته هذه في محكمة أمام مجلس تأديب، بالسجن سنتين، وخمسين جلدة،فلا شك أنه تحملها صابراً ومحتسباً؛ لينال جزاء موقفه الصادق هذا في الآخرة؛ ولينال على مر التاريخ كل التقدير والإجلال، وكان في موقفه،على بساطته، أعظم وأجل من غيرهمن بكوات وبشوات مصريين شاركوا في المحاكمة أو لم يشاركوا فيها. ويمكن مقارنة عظمة موقفه هذا بخسة ونذالة موقف ابراهيمبك الهلباوي، البالون الكبير المنفوخ بالهواء، والذي فُرِّغ من هوائه بيديه لا بيد غيره، الذيوصف الفلاحين في ادعائه قائلًا: "هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت وأساؤوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عامًا ونحن معهم بكل إخلاص واستقامة".

والشيء بالشيء يذكر فلا نستطيع أن نخرج من هذه المواقف دون أن نقارن بين موقف "برنانرد شو" الكاتب الأيرلندي الشهير، ذلك الموقف الانساني التاريخي النبيل، والذي بدا فيه مصرياً أكثر من كثير من المصريين، وموقف أعضاء المحكمة من المصريين وهم: الهلباوي المدعي العام ورئيس المحكمة بطرس غالي، وعضو المحكمة فتحي زغلول، ومحمد يوسف محامي الدفاع، انجليزيين أكثر من الإنجليز أنفسهم.

الشيء الذي يثير التساؤل هو موقف هيئة الدفاع، المتخاذل، الذي يبدو أنه قبل الدفاع وهو محرج، وكأن الأولى به أن يكون مع الادعاءلا في موضع الدفاع، ويكفي ما عبر عنه أحدهم وهو محمد يوسف بك، حين قال عن أهل دنشواي المتهمين في القضية: "فئةٌ من خِشاش الفلاحين اعتدوا على سادة البلاد واصحابها فعوقبوا بما استحقوا".

وهكذا يكشف لنا الكتاب عن الكثير والكثير من أصل الحكاية، كما كشف لنا عن أبطال وطنيين، في حاجة إلى أن تعرفهم الأجيال، وتتعلم منهم، ومن وظنيتهم، ونضالهم، وعطائهم، من هؤلاء: أحمد حلمي (الذي يسمى موقف سيارات محطة مصر باسمه)، وابراهيم الورداني الذي تغنى الشعب له ليلة اعدامه (قولوا لعين الشمس ما تحماشي ..أحسن غزال البر صابح ماشي).

ولعل نهاية الهلباوي، جلاد دنشواي، وهو اللقب الذي خلعه عليه الشاعر حافظ ابراهيم، ومن بعده الصحافة الوطنية وسائر الشعب المصري،هذه النهاية المأساوية،يمكن أن نخرج منها بحكمة لا تقل عما يمكن أن نخرج به من الحادثة، وقد أفرد له المؤلف جزءاً في نهاية الكتاب، وجلع هذا اللقب الذي التصق به يشاركاسم دنشواي في عنوان الكتاب، فقد نشاة دينية أزهرية وتعليمية، إلى محاولة اثبات الذات، والبحث عن الثروة والطموح، والصعودفي عالم المحاماة والوصول إلى القمة فيه، ثم جاءت الحادثة وقبوله أن يقوم مقام المدعي العام في القضية، ومرافعاته التي كانت تيمبل بكفة الميزان إلى اتهام الفلاحين المغلوب على أمرهم،واستغلال لسانه وبيانه في إلصاق التهم بهم، والتنديد بما قاموا به، فكانت السقطة التي هوت به من علٍ، والموقف الذي ما بعده ليس بمثل ما قبله، كان هذا الموقف، المعادي لابناء وطنه، المناصر للمعتدين المحتلين، والمؤيد للظلم،هو الذي قضى عليه أدبياً ونفسياً وتسبب في عزله اجتماعياً، وربما إفلاسة اقتصادياً فيما بعد، هذا الموقف الذي لم يغفره له شعبه رغم استغفاره إياهم.

هذه كانت قراءة انطباعية عابرة لكتاب "دنشواي .. أصل الحكاية والجلاد" للمستشار والأديب بهاء المري. الكتاب يقع في 233 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن مقدمة عن قرية دنشواي، وظروف الاحتلال الانجليزي لمصر، وانتفاضات المصريين ضد الانجليز وارهاصات إنشاء المحكمة المخصوصة، ثم ظروف وملابسات حادثة دنشواي والمحاكمة، وصدى المأساة محلياً ودولياً، ثم شهود من أهلها بعد مرور أربعين سنة من الحادثة، وصدى الحادثة على المستوى السياسي وفي الصحافة وصداها لدى شعرء الفصحى والعافية وفي الموروث الشعبي، ثم يختم الكتاب بالجزء الخاص بجلاد دنشواي الهلباوي والذي قضت عليه الحادثة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى