محمود حسانين - العالق ما بين بين.. قصة

مازال عالقا بين ماضً ويوم قادم لحاضر جديد, لا يدري إلى أين الطريق في تيه المجهول, لا يعرف لعالق مثله وجهة ولا مصي, فكثيرًا ما كان يقص حكاية صديقه الشهيد, الذي كان بجواره وفجأة اقتلعته قذيفة ألقت به على بعد ميل متناثرًا لأشلاء, لم يدر يومها كيف اختطفته هذه القذيفة من جواره؟. ولم تصبه هو رغم مجاورته له؟.

ولم يدر يومها كيف يجمع أجزاء هذا البطل؟ الذي لازمه طوال الأيام التي حارب فيها العدو في حرب الاستنزاف, يومها يتذكر جيدا كيف كان في أول النهار يدندن معه وهو في غاية الفرح قائلًا :

– والله يا أخي هننتصر بإذن الله أنا حاسس بالنصر قريب.

يتذكر يومها كيف كان مع رفاقه أول من كان يتقدم الصفوف في أي عملية خاصة تسند إليهم, وكيف كان يمطر كل من يلمحه من العدو بوابل من نيران مدفعه, وحينما التحقا بفرقة العمليات الخاصة, تفوقا في كل التدريبات بجداره, تعرضا للموت بأبشع الطرق في كثير من العمليات, حتى كادا أن يلقيا حتفهما, قـامرا بحياتهم في سبيل الوطن, ومن يومها ولم يفترقا.

كان يقص على اصدقاءه كيف أسندت إليهما هذه المهمة وقبلوها, حتى أتت هذه اللحظة المفجعة وهو ينهار ودموعه تغرقه, يصف الموقف وكيف كان بجواره في هذه المهمة الأخيرة حتى انتشله الموت من جواره.

حينما يتذكر يوم استدعاهما مدير مكتب العمليات الخاصة وأخذ يتأملهما في تمعن ثم قال ببطء:

– إن ملفاتكما يحملا قدرا من الاستثناءات في الترقيات, و هذا نظير مجهودكما الواضح في المهام التي قمتما بها, ومن أجل ذلك تم إسناد إحدى المهام الخطرة لكما, والتي تعتبر شديدة الخصوصية أيضا, فأنتما تعرفان طبيعة الوضع الحرج الذي نحن فيه الآن, والمهمة لا تتحمل أكثر من شخصين للقيام بها وهى أيضا شديدة الخطورة والسرية والدقة المتناهية, ولا تحتمل أن تنكشف سواء نجحتما أو لم تنجحا عدتما أم لم تعودا.

ينهض من مكتبه ويتجه إليهما قائلا:

المهمة تتلخص في اقتحام مناطق بعينها هناك في قلب الصحراء, وزرع عدة قنابل في اثنين من أخطر الأماكن على الجهة الأخرى, وكل التفاصيل ستجدهما في هذا الملف.

أعطاهما ملف به بعض الأوراق لدراسة طبيعة المهمة, وبعدما فرغا منه قاما بحرقه وانطلقا إلى هذا المصير المجهول.

يتذكر يومها وبعد أن أتما مهمتهما وعلى بعد كيلو مترات قليلة دوت الانفجارات, وانطلقت بعدها بثواني مجموعة من السيارات تجوب الصحراء كالمجانين يبحثون عن من تسبب بهذه الانفجارات.

وفي قلب الصحراء تحت حرارة الشمس المحرقة, حيث كان من المفترض أن يذهب إلى تمركز بعض ثكنات لجيش بلد شقيق هناك, وتسليم نفسهم ليقوموا بعد ذلك بإرسالهم إلى مصر, ولكن فجأة تناثرت خلفهم طلقات الرصاص في انهمار عجيب, وثلاث سيارات خلفهم تطاردهم في إصرار وتحدٍ.

احتميا باحدي الكثبان الملية وأخذ هو يحدث صديقه قائلا:

– واضح أنهم أصروا على اللحاق بنا فقم بتعطيلهم.

وفي سرعة المحترفين استدار وفي يده سلاحه, و أخذ يمطر السيارات الثلاثة في عشوائية مقصودة من ما اضطرهم إلى التشتت, فأصيبت إحدى السيارات في إطارها من ما جعلها تنقلب رأسا على عقب, بعدما كانت النسور المصرية تحلق في سماء سيناء.

يهتز جسده بصورة عجيبة حينما يصل إلى تلك اللحظة وينتفض ويصمت, ولا يشعر بنفسه غير بعد فترة قد تستغرق ربع ساعة كاملة, ففي هذه اللحظة الخاطفة كان القدر قد انتشل منه صديق عمره من جواره على حين غفلة, من يومها وهو منهار نفسيًا, من ما جعل رؤساءه يقرروا أن يعفوه من أي عمل في القوات الخاصة بعدما كرموه, وتقاعد بعدها وهو في العقد الرابع من العمر, فهو يعلم أن تلك الحرب العنيفة كانت لها ما لها من ويلات لم تزل صفحات التاريخ لم تفصح عنها بعد.

كم كان يتذكر الدندنات التي كانا يقضيا بها أوقات الراحة, ومن بين دموعه يدندن, وهو عالق ما بين ماضي جريح وحاضر مجهول مع كلمات عمنا نجم.

” يعيش أهل بلدي