مريم قوش - برقية مطر.. قصة قصيرة

في قرية الميرمية والأعشاب المرصوفة على خاصرة الجدار ، أرى خالا أزرق يتموج من ورائه وطن، أنظر خلفي للشرق، بينما الحافلة تشق طريقها للغرب.

وأنا لي قلبٌ متعلقٌ بالشرق، لي قلب يعشق الشمس وهي تتخمرُ في عين الجبل، مولعٌ بتأمل انفصام الضوء عن بؤبؤ الجبل، وتوديعه آخر خيطان الشروق.. أختلس النظر خلفي للشرق وعيناي تفيضان بالدمع، هناك على (السلك) منديلٌ صغير علقته حبيبة لحبيب لم يعد، هناك عتبةٌ لبيتٍ كان يُسمّى قصيدتنا لم ندونها بعد، كانت هناك نافورة من غناء لم تدر كساقية، وكانت هناك يدي تركتها على الجدار.. لتدلك على آخر مواجع الإياب، حينما ستعبر كالطيور، ستراها ملوءة بالحُب والحَب تلوِّح الغائبين..
في أول زيارة لي لهذه القرية المائية النائية الحدودية كنت أحمل الكاميرا، أصور تلالها المنكبة على خاصرة الحدود، هناك تولد الأشياء وتُختصر مسمياتها، وتُكتنز المعرفة بمدلولاتها.
: لا تصوري شيئا، نحن على الحدود.. أغلقي الهاتف..
: نحن أولى بنزق التراب، وأولى بجمر البداية وأجدر بالرماد... نحن الحدود
كنت أمد عين الكاميرا لأصور، فألتقط جمر النجوم ، وألملم ما نُثر من ثوب السماء خرزة خرزة،
كانت السماء دانية كأقرب ما تكون، وكانت الروح أقصر ما يمكن يكون، بدأتُ أفقد جاذبية الأشياء، كانت المكنونات تفقد مسمياتها، والأسماء تتحرر من معانيها، ووحدي .. يا وحدك أتعبد في أديرة العنادل.
كنت أسألك والكاميرا منشغلة عني بالتوثيق
: لماذا تبدو لوحةُ الأفقِ قريبة؟
: تشبثي بالحنين والشغف، ستبدو أقرب!
: لماذا تظهر مفاتيح الروح أبعد ما تكون؟
: كلا، بل الروح أخف من الودق!
قلت له: أفلِتْ يدي، لأقطف النجم
: تمهلي، لابد أن نترجمَ العشب أولا!
أفلتَّ يدي، وقعت من يدي الكاميرا، فلا أنا نلتُ من كؤوس الشمس خمرًا، ولا أنا مغروزة في معاجم الأرض، لقد صرتُ كائنًا هوائيًا يدوّن رسائله للطير على الريح، صرتُ شقًا من اللهب يفسر برتقالَهُ!
هناك .. اليوم..
تقطع الحافلة مسرعةً.. وقلبي متشبثٌ بالشرق، لماذا أخذتَ الشرق وشمسه وكؤوسه، سأشكوك للشجر، لبندول القمر، لأرصفة الغجر!
سأشكوك للشعر، وأقول
يا سيدي ربّ القصيدْ
عجز الهواء عن النشيدْ
يا سيدي، ناء الهواء فشُيّع
الصبحُ الشهيد
تقطع الحافلة طريقها، تاركة الشرق، وأنا لا أزال أشبهك أجهلُ أسماء الشجر والعشب والزهور، منذ سنين أنادي الشجر العملاق يا أبي، منذ سنين أنادي أحراش الزيتون يا أمي يا أم القيامة.
فلماذا تحاسبني، وتقول لي
: يا هذه! لقد تركتِ الوادي أميّا
: أنت أميّ لأن تفسير الماء يشبه الماء!
قبل سنين كتبت
فقهني، فقهني بأسماء الشجر لأكتب لك ولها، وعنك وعنها!
قلت هازئا كعادتك: "اكتبي وجع الصفصاف، ولا تتوقفي، اكتبي ما تشائين، وكيف تشائين، وأينما تشائين، فإليّ مصير ما تكتبين".
فأين أنت؟
وقد انتهت كل مصائري لكل النهايات دونك؟
تقطع الحافلة الثرثارة أصوات القرية، وما أزال مثلي أميةً في قرية الشجر والطير أجهل كواشين المسميات وأشباههها، وما أزال مثلك أخلع نعليّ أمام قداسة الشجر، كلما عبرت واديها لألتقط شيئا من رذاذ العشب.
تعبر القافلة، وما يزال قلبي طفلا
يشعل الأيام بالحنين والشغف، أحاول أن أشغل نفسي عن نفسي بثرثرتي الموجودات لأنسلخ عن كل حلولي بكأس الشفق، ولا أستطيع..
تتجه الحافلة البيضاء كعربةٍ جائعة للغرب، والشمس خلفنا ذئبة جائعةٌ تلتهم عين التلال والحدود ..
ومثلك مضيتُ.. أحاول أن أفهرس آخر اسم دونتُه لعشبةٍ فستقيةٍ في ثغر يمامة سميتها: برقية مطر.. برقية مطر

مريم قوش / فلسطين



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى