د. سيد شعبان - يغزل جدائلها القمر!

لم تصلني إلا بعد فترة طويلة ،لقد كتبها وهو يودع كل أصحابه،لم يجد أحدا غيري يعهد إليه بأسراره،لم يشأ أن يغادر وكل هذه الأحمال على كتفه،أراد أن يتخفف منها،البوح كثيرا ما يخفف التعب النفسي،بل أحيانا يكون علاجا لآلام الجسد،أخبرتني أختي الكبرى : كان ثابت القلب،لكنه كان يمس جدران البيوت التى أحبها،يذهب كل يوم إلى أحدها فيطيل المكث عنده قرابة الساعة،الدموع يذرفها دون توقف،ثم بعد ينصرف،احتار الناس في أمره،البعض قال: به لوثة ؛وهل يعقل أن يفعل هذا رجل سوي؟!
بل تخلص من أشيائه، وهب كل ما يملك لمن يعلم إنهم أبناء أصحاب تلك البيوت التى أحبها ذات يوم،يا للمفاجأة ؛ لقد أسال الفقراء قدمه ،أحقا هو المسيح كان يطوف بنا ؟!
الوجه تعهده العين،طيب القلب،هذا ما هاتفتني به أختي!
ثم ختمت حديثها :لقد ارتدى يوم غادرنا ثوبا جديدا،حمل معه ورقة وقلما وترك كل الأشياء،وقف قبالة المسجد القبلي،وأخبر من كان بالزاوية : أنا لا أريد أن احتفظ بوثيقة لي ،كل الأشياء ما عدت بحاجة إليها ،أنا مرتحل،هكذا بكل هدوء غادرنا، كانت تحبه،لم تجد فيه غير أبيها الذى كان يحنو علينا إذ نحن صغار،تكفل بنا، يقدم لنا العون ،الآن شعرت باليتم!
يا لقسوة الناس ،أهكذا مع أول شائعة يلتهم السباع لحوم الأطهار؟
تواترت الأنباء أن الجرذان عاثت في الحارة فسادا،صارت لها مقارض،من يا ترى يلقمها حجرا؟
تلك كانت الجملة الأولى من رسالته التى جاءت إلي متأخرة إنها مرسلة إلى بعد عام ونيف!
ربما حرص من أوصاه بها أن تصل بعد مرور هذا الوقت،الأصوات الزاعقة بدأت تصاب بالخرس،كل من رماه بحجر انتفخت بطنه،لقد أظهر الرجل كرامة،أنبأني بهذا صديق لي كان يتخفى هناك،الأسواق تسكنها الغربان،يا للهول ،لم يعد بالنهر غير تلك المياه الآسنة!
على كل أزمعت السفر إلى هناك،لكن الخوف يساورني،ربما لا أجد أحدا هناك،وهل ياترى ستنال من جسدي ثعالب الخرابة؟
بدأت الهواجس تتملكني،أتحسس جسدي المتقرح،لقد أصابني بعض ألم،لا ضير لقد مست بيدها على تلك الجراح،هل كانت بعضا منه،لقد زوجني غاليته،الحمد لله،لكنها الآن ترفض عودتي،فيما مضى ألحت كثيرا أن نعود،اشتاقت إليه كثيرا،انتحبت الليالي أليس هو أباها؟
أخبرتها يجب أن نرحل من هنا،ربما نلتقيه هناك،أعلم أنه يحب أن يكون مجاورا للبيت!
بلغت بها السعادة حد الطرب،ابتسمت،وهل سنتخلص مثله من كل الأشياء،لن نغادر دون البطاقتين ركب السفينة عند الضفة قبالة الشيخ صفوان،سنركب الطائرة، أسرعت وبدلت ثيابها،وضعت بعض عطر ،غلفت المكان بزينة حلوة،لقد جلاها القمر إذ أبانت عن جديلة تخطر مثل مهرة ،دب الهوى في قلبي،شعرت كأنما أنا هناك حيث يحلو للحبيب أن يكون،وها أنا أمسكت بالورقة والقلم.
من نافذة الطائرة رأيت النهر حزينا،الفراغ يصدر لحنا كئيبا،كان هنا لنا وطن،مسحت دمعتي، غدا يحلو اللقاء،وهل ترى القمر يمنع ضوءه،هناك ستغسل جدائلها، بيديك تضع الزعفران،ابتسمت ، أخبرنا أن المدينة تلوح في الأفق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى