رياض بوبسيط - قراءة نقدية بعنوان: سيكولوجية اللغة وخصوصية الخطاب الشعري في قصيدة (عشتار قلبي) للشاعر الإريتري توفيق قسم الله

عرفت اللغة عند اللسانيين وعلماء اللغة على أنها أصوات يعبر بها القوم عن أغراضهم، وهذا مفهوم تجاوزه عصر الشعر إلى ما هو أعمق من الأغراض والحاجات، ذلك أن معشر الشعراء يرون في اللغة نظاما من المشاعر التي تعبر عن نفسيتهم المليئة بالأحاسيس. فكانت اللغة عندهم طبيبا نفسيا يفجر طاقاتهم المكبوتة، والتي تخرج على شكل خطاب تميزه الخصوصية بلغة النفس وما تأمر به صاحبها أو لنقل شاعرها.
في قصيدة ( عشتار قلبي) للشاعر الارتيري/ توفيق قسم الله كان الخطاب خاصاً بصاحبه رسمته لغة النفس، فهذه الأخيرة نقلت لنا نفسية الشاعر وما تلتطم به من تدفق في أحاسيس الحب والتعلق. فخطابه الخاص بحبيبته والموجه إليها جعلنا نتذكر علم اللغة النفسي وهو يقول لنا بأن اللغة ترجمة لنفسية المتكلم بها، وتصوير لما تخفيه بداخلها، وقصيدة توفيق قسم الله خير شهادة على ذلك.
افتتح الشاعر خطابه الشعري هذا بقوله:
واكتب شعرا
ولكن قلبي
إذا جف مني يراعي
تكلم
وهذا لأن الشاعر بصدد الإدلاء بمشاعره ومصارحة حبيبته بها، وهو يرى في الشعر الوسيلة الوحيدة التي تناسب النفس، فنفسية اللغة يناسبها الشعر. ولغة الشعر تناسب النفس والقلب معا، ذلك القلب الذي قال الشاعر بأنه سيتكلم حينما يجف.
تستمر اللغة ببعدها النفسي في الكشف عن نفسية الشاعر وخصوصية خطابه وذلك عندما يقول:
تألمتُ ..
لكنما هكذا الحب
لا حبَّ إن لم أعانِ
ولم
أتألمْ
وهذا كلام ينبعث من أعماق القلب وجوارحه فالشاعر يرى أن الحب لا معنى له ولا قيمة ان لم يتألم صاحبه أو يتعدب، وهذا إشارة إلى أن نفسية الشاعر لا ترضى بالحب الذي يسهل الحصول عليه. وهنا تبلغ خصوصية الخطاب ذروتها، فالمحبوب هنا شخص خاص ولا بد من حبه بطريقة خاصة لا تشبه الآخرين ولا يستحقها أحدا غيره، عشتار قلبه طبعاً.
تنفجر نفسية الشاعر وتواصل اللغة في كشف مشاعره المنصهرة، والتي لا يقدر على نقلها إلينا إلا لغة تراعي نفسية المتحدث بها، وذلك ينطبق تماما على قسم الله وهو يقول:
وشوقي إليكِ
وقد جاوز الحدَّ
صلى العذاب عليه..
وسلم
إن هذا المقطع يتزين بخصوصيته وخصوصية الموجه إليه، فالشاعر يخاطب حبيبته التي كانت عتبة النص كعنوان ( عشتار قلبي) يجعلنا نفهم من الوهلة الأولى أن القصيدة مليئة بالمشاعر وجوهر النفس، فجوهر النفس هو الحب.
لقد كان شوق الشاعر إلى حبيبته ينطق شعرا فكانت اللغة عند الموعد وهي تستدعي آلية من آليات جمالها، وهي آلية التناص وذلك عندما يقول الشاعر: صلى العذاب عليه وسلم، انفتاحا على قولنا صلى الله عليه وسلم ونحن نقصد نبي الله محمد.
عندما يكون الخطاب منبعثا من النفس التي تصادق عليه وتصادق على مافيه من مشاعر، تثار الحماسة ويتضاعف الإلهام. والحب الصادق في نفسية شاعرنا جعله يكتب أبياتا أخرى، جميل ما يفهم فيها وما لا يفهم. إذ يقول:
وكل الذي فات من بارد العمر
إذ لم يكن فيه وجهك..
أبكي عليه..
وأندمْ
حبيبة الشاعر التي فازت بقلبه ولغته وأسلوبه وحتى بخصوصية الخطابات الشعرية، جعلته هنا يتحسر على كل دقيقة قضاها من عمره وملامح وجهها غير موجودة. هذا العدم الذي جعله يبكي نادما على عمر وصفه بالبارد، ومصطلح بارد لا يعني أن الشاعر بارد المشاعر، بل على العكس تماماً، فهي تتأجج حبا وهياما.
وليكون المقام مناسبا لمقتضى الحال النفسية، كان لا بد على الشاعر أن يوظف ضمير المتكلم ليجعل الخطاب أكثر خصوصية، وذلك ما حدث عندما يقول:
أنا يا فتاتي
عصيٌّ على الحزن
لا كالشواهق..بل.. وأشد
ولكنْ
أمام جلالة عينيك..
هشٌّ ضعيفٌ..
محطمْ
عندما تتكرر مصطلحات الحزن والألم يعتقد معتقد بأن القصيدة من أدب الكآبة، وقد يعتقد آخر أن الشاعر تعرض لخيانة جعلته يحزن من الحب، لكن الشاعر هنا هو فقط يعبر عن نفسيته التي أحبت حبيبته بجنون، والتي لم تكن عرضة للحزن من قبل، ولكنها أمام حبيبته وما تملكه من عيون قد يحزن ويتحطم حبا واعترافا. هذا ولقد كانت اللغة نفسية تصف الوجدان وتوصفه، ومصطلح الجلالة دلالة على المقام الذي فازت به حبيبة الشاعر وما تملكه من خصوصية.
يقول شاعرنا في مقطع آخر:
وحبك صعب
ومن لم يكن بحليم
وكان الهوى عنده قاب موتٍ
فأحرى به
أن يداري
وأحرى به فوق ذلك
ان..
يتحلّم
تعكس اللغة هنا صعوبة الحب كشعور تمارسه النفس، عندما يقول: "حبك صعب". لكن وبما أن المخاطب يحمل الكثير من الخصوصية جعل الشاعر هذه الصعوبة حلما، تجعل من لم يحلم بها قاب قوسين من الموت. وكأن قسم الله يود القول لنا بلغة تعكس إرتفاع درجات الحب عنده، أن الحياة بلا حب تقربه من الموت، أما الحياة من دون حبيبته فهي موت بعينه. هكدا تكلمت ما بين السطور.
يستمر شاعرنا في الخطاب، وهو يقول:
ولم يكفِ ما كان مني
ولا من جنوني
فما زلتُ بي
أتتلمذ حباً
وما زلتُ بي ..
أتعلّمْ
تواصل اللغة في هذا المقطع الاعتراف بنفسية الحب عند قسم الله، نفسية لم تكتف من نفسها ولا من جنون الحب عندها، فهي وكما يصفها الشاعر لا زالت تتلمذ الحب وتتعلمه، وهنا بلغت مقاطعه قمة الجمال والاستثناء، حيث جعلت حبيبته في أعيننا شيئا مقدسا لا يكفيه الحب إلا إذا كان متعلما، فالحب الطائش لا يليق بجلالتها.
ولأن هذا الخطاب الشعري موجه لمن كتب من أجلها الشعر، يقول شاعرنا:
وقلتِ لماذا..
فقلتُ
لأنك عشتار قلبي
وليس كمثلك أنثى
بها أنا دون سواها
أنا عبقريٌّ وملهَمْ
لقد تغيرت بنية الخطاب في هذا المقطع من الخطاب المباشر، إلا الحوار المتبادل بين الشاعر وحبيبته. فكان الحوار خاصا بهما وبعلاقة حبهما التي صورتها لنا سيكولوجية اللغة بتفاصيلها الشعورية الدقيقة. فالشاعر يستمر في خصوصية خطابه وفي خصوصية حبه الذي منحه لحبيبته دون غيرها من النساء، فمثلها من الإناث لا يوجد، ومن دون سواها قسم الله عبقري في الحب وملهم.
يستمر الشاعر في مخاطبة حبيبته فينتقل من الشاعرية والشعورية، إلى المصارحة والقول المباشر، وذلك امتثالاً لقوله:
أقول
بكل اختصار
ومن غير شرحٍ
لأنكِ أنتِ
لأنك أنت
لأنك حبي المعظم
اختصر الشاعر بهذا المقطع خطابه وما يحمله من مشاعر بعيداً عن الشرح، ذلك لأن الشاعر ربما لم يجد لغة يشرح بها حبه، فالحب لا يشرح. ولأن الخطاب بدأ بكل خصوصية كان عليه أن ينتهي أيضا بتلك الخصوصية، فقوله "لأنك حبي المعظم " يوضح أن الحب وكل ما قيل في هذا الخطاب الشعري سيق لأن حبيبته تستحق ذلك وأكثر.
لقد اعتمد الشاعر/ توفيق قسم الله في هذا النص على مصطلحات بسيطة وهادئة، فلم تكن صاخبة صعبة في نطقها ومعانيها، بل كانت مختارة بدقة حتى تتناسب مع سنفونية الحب الشعرية التي نظمها الشاعر على بحر المتقارب، حيث اعتمد في كل مقاطعه على الأصوات الصامتة والتي شكلت لنا ايقاعا شعريا موزونا متوازنا، خاصة حرف الميم الذي كان رويا للقصيدة، والذي كانت المشاعر تتوقف عنده، لتبدأ أنفاسها في مقطع آخر على نفس الإيقاع والوتيرة للتأثير في القارئ و شد انتباهه. وذلك احتراما لمقام الحب، واحتراما للمخاطب الذي كتب من أجله النص، فالحديث إلى حبيبته لا بد أن يكون لطيفا مفعما بالرقة والحب. وعلى هذا كان النص خاصا طوقته لغة سيكولوجية راعت في بنائها نفسية قسم الله ومشاعره التي أحسن البوح بها، فكان بوحه هذا شعرا جميلا، تقطر سطوره بالحب.

الجزائر / رياض بوبسيط


1662650524063.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى