أمين الزاوي - هل تعليم الإنجليزية للسياحة وتعليم الفرنسية للإنتاج الثقافي؟

لا يوجد هناك كاتب عربي واحد يكتب بالإنجليزية استطاع أن يحقق اختراقاً ثقافياً وأدبياً عالمياً (أ ف ب)


يجري جدل كبير في الجزائر منذ أن أعلن رسمياً إقرار تدريس الإنجليزية ابتداء من السنة الثالثة ابتدائي وانطلاقاً من الموسم الدراسي 2022-2023، جدل ساخن في صيف أسخن وبتوابل وطنية وهوياتية ودينية وتاريخية ذاكراتية.
من الرابح من هذا القرار ومن الخاسر، لغوياً وثقافياً وسياسياً؟
علينا وبكل هدوء ومن دون ضجيج أيديولوجي وعنتريات "وطنياتية" منتهية الصلاحية تعيش خارج المجال الحيوي للتاريخ بل وضده، أن نتساءل: هل أسهم تدريس اللغة الإنجليزية في فتح المجال الثقافي أمام الشعوب العربية وأمام نخبها التي سبقت الجزائر في هذه التجربة وهي البلدان التي بدأت تدريس هذه اللغة منذ أكثر من قرن من الزمن، بل إن بعض هذه الدول تعتبر اللغة الإنجليزية لغة وطنية كما هي الحال في السودان مثلاً؟
وإذا أردنا البحث بشكل أعمق عن الجواب عن هذا التساؤل علينا أن نطرح السؤال المكمل التالي: من هم الكتاب العرب من الروائيين والشعراء الذين أنتجتهم هذه المدرسة التي تدرس هذه اللغة منذ الابتدائي وبعضها منذ الحضانة واستطاعوا أن يوصلوا صورة بلدانهم عبر هذه اللغة وبإبداع وتميز؟ وهل هناك إنتاج ثقافي وأدبي وسينمائي متميز بهذه اللغة في هذه البلدان؟
وقبل هذا وذاك علينا أن ندرك جيداً، وأنا متأكد من ذلك، وأتمنى ألا أكون متشائماً، بأن الجزائر وهي تقبل على تجربة تدريس اللغة الإنجليزية بدءاً من السنة الثالثة ابتدائي لن تختلف في طرق تدريس هذه اللغة عن البلدان العربية. وبعد بضع سنوات من التجربة سنسمع عبارات "الأسى" و"التأسف" من السياسيين عن هذا الاختيار المستعجل الذي أجهض التجربة، آنذاك يكون الوقت قد فات، ولن ينفع البكاء ولا التأسف ولا حتى الاعتذار.
سيتعلم الجزائريون الإنجليزية على الطريقة العربية، وربما ستكون التجربة الجزائرية أتعس من ذلك بكثير نظراً إلى هذا التسرع السياسوي والأيديولوجي الذي يطبع هذا القرار التربوي الخطير وغياب كل مؤشرات النجاح من كل النواحي من البرامج إلى الكفاءات التربوية، إلى غياب الرؤية المستقبلية عن علاقة تدريس هذه اللغة باللغات الأخرى الموجودة في المدرسة كالعربية والأمازيغية والفرنسية؟
حين نتساءل عن حصيلة ما قدمه المبدعون العرب في باب الأدب أو في باب الثقافة بشكل عام باللغة الإنجليزية في البلدان العربية التي تدرسها منذ قرن، فإننا وبكل وضوح نقول، لا يوجد هناك كاتب عربي واحد يكتب بالإنجليزية استطاع أن يحقق اختراقاً ثقافياً وأدبياً عالمياً. وأقول كاتباً عربياً وليس من العالم الإسلامي أو الأفريقي جنوب الصحراء، إذ أستثني المفكر إدوارد سعيد الذي يعد مواطناً أميركياً وعاش حياته كلها في هذا البلد.
كل ما أنتجه الكتاب العرب من نصوص جميلة أنتجوها بلغتهم وهذا ليس عيباً، لكن معظمها ظل أدباً محلياً، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن حضور الثقافة الإنجليزية لدى النخب المبدعة والمنتمية إلى هذه المجتمعات التي تدرس هذه اللغة منذ الحضانة.
تتأكد محلية هذا الأدب بشكل واضح في طبيعة مستوى التأثير الذي تخلفه هذه الكتابات في العالم الآخر حين تترجم إلى لغات العالم الكبرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإسبانية، علينا أن نصارح أنفسنا من دون كذب على الذات ومن دون جلد الذات أيضاً، فما يترجم من الروايات العربية لا يلقى الصدى المرجو، ويمكننا التأكد من ذلك بالبحث والتساؤل عن أثر ومصير ترجمات الروايات العربية الحاصلة على الجوائز الأدبية المحترمة والوازنة مادياً وإعلامياً في البلدان العربية.
مع أن كل هذه الروايات الفائزة ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، وهذا شيء مهم ونبيل، إلا أننا لم نسمع عن رواية عربية واحدة من تلك التي حصلت على مثل هذا التتويج أن فازت بجوائز عالمية أخرى تزيد من مكانتها محلياً بعد ترجمتها، لم نسمع عن أي رواية عربية أصبحت "بيست سيللر" (Best Seller) لدى قراء اللغة المترجم إليها، كما هو الأمر مع الأدب الروسي أو الصيني أو الكوري أو الياباني أو التركي حين تتم ترجمته إلى الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً.
أنا متأكد لو أن الطيب صالح، مثلاً، كتب روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" باللغة الإنجليزية مباشرة وهي لغة وطنية في السودان، لأصبحت رواية عالمية بامتياز توضع إلى جانب روايات همنغواي وفولكنر ودوس باسوس وهرمن هيسه وبروست وألبير كامو وغيرهم، هذا لا يعني أبداً أن هذه الرواية لم تحظ باستقبال مهم بعد ترجمتها، لكن لو كانت كتبت أساساً باللغة الإنجليزية لكانت قوة حضورها مضاعفة، وربما كان الطيب صالح أول كاتب عربي يحظى بنوبل للآداب. ربما.
يبدو لي، وأتمنى أن أكون مخطئاً، أن هناك خللاً ما في علاقة اللغة الإنجليزية بتكوين النخب العربية والمواطن العربي بشكل عام، فالعربي يتعلم اللغة الإنجليزية لا للتثقف بها والاستفادة المباشرة من خيراتها الفكرية والإبداعية، بل يتعلمها من أجل الحياة اليومية، كالذهاب إلى "ماكدونالدز" أو حجز الفندق أو السؤال عن شارع أو تدبير الأمر في مصرف وما إلى ذلك، فالعرب بشكل عام يتعلمون الإنجليزية للسياحة، وهم لا يقرأون بها مباشرة الأدب والفكر وما إلى ذلك، إلا القلة القليلة من الذين ربما يعيشون في الخارج وبعض أبناء الطبقات الأرستقراطية والبورجوازية، وحتى في المهاجر هناك قلة قليلة تقرأ بها، فما يقرأه العرب من الإنجليزية يقرأونه مترجماً وفي كثير من المرات هي ترجمات فيها كثير من النقص أو القص.
نعود إلى واقع الفرنسية في شمال أفريقيا، إن واقع هذه اللغة في الجزائر وفي بلدان شمال أفريقيا وبالأساس المغرب وتونس، واقع مغاير لما هي عليه الإنجليزية في البلدان العربية في المشرق وتدريسها يختلف تماماً عن تدريس اللغة الإنجليزية، فتدريس هذه اللغة هو تعليم ثقافي وليس سياحي.
إن علاقة الجزائري والمغربي والتونسي باللغة الفرنسية ليست علاقة لغة الأسفار والفنادق والمعاملات البنكية بل هي لغة القراءة الثقافية الطبيعية، يقرأ بها المواطن البسيط الخيرات الإبداعية والفكرية التي تكتب بها وأهم من ذلك ما يترجم إليها من إبداع عالمي، يقرأ بها في بلده الأم الجريدة الوطنية والرواية والشعر والدراسات التاريخية والأدبية والفكرية وحتى الدينية.
إن ما تثيره كتابات كثير من الكتاب باللغة الفرنسية من اهتمام ومتابعة وقراءة وإعجاب شريحة عريضة من القراء العاديين في الجزائر والمغرب وتونس يؤكد أن وجودها الثقافي يختلف عن وجود اللغة الإنجليزية في البلدان العربية والمغاربية أيضاً.
إن المدرسة في عهد الدولة الوطنية في البلدان المغاربية أو ما قبلها التي درست اللغة الفرنسية، أنتجت لنا نخباً ثقافية بل أجيالاً من الكتاب استطاعوا أن يحققوا مقاعد لهم في الصفوف الأولى للمبدعين العالميين بهذه اللغة، فآسيا جبار ومحمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري ومالك حداد (من الجيل الأول) ورشيد بوجدرة وعبداللطيف اللعبي والطاهر بنجلون وعبدالوهاب مؤدب ورشيد ميموني وهالة باجي (الجيل الثاني) والطاهر جاووت وياسمينة خضرا وبوعلام صنصال ومليكة مقدم ومايسة باي (الجيل الثالث) وكمال داود وعبدالله الطايع ومصطفى بن فوضيل والمهدي أشرشور وعدلان مدي ونينا بوراوي وكوثر عظيمي (الجيل الرابع)، ومع كل جيل تحقق الكتابة موقعاً عالمياً ومن خلال الفرنسية تسافر هذه الكتابة إلى اللغات الأخرى، وهي كتابات ليست مقطوعة عن واقعها ومجتمعها فلها قراؤها في البلد الأم كما تجدها في بلدان غربية كثيرة وربما بالإعجاب ذاته.
من هذا المنطلق وبناء على هذه النتيجة أعتقد بأن اللغة الفرنسية بالنسبة إلى المغاربيين هي لغة الانفتاح الثقافي ومن خلالها تسعى النخب إلى الإسهام في المشاركة في إنتاج الخيرات الجمالية، أما اللغة الإنجليزية بالنسبة إلى العرب، فهي لغة السياحة في معظم الأحيان وليست للإبداع الثقافي والأدبي، حتى الآن في الأقل.
عودة إلى الجدل القائم في الجزائر حول تدريس اللغة الإنجليزية التي يرى بعضهم أنها معركة ضد الفرنسية وأنها البداية لاستبدال الفرنسية بالإنجليزية أقول، لا لغة تعوض لغة أخرى والمعارك الأيديولوجية التي حطبها اللغات تعود في المقام الأول بالمأساة على تشكيل النخب الوطنية.
شخصياً، أستغرب هذا الاحتفاء الزائد، بالطبل والمزمار، بقرار تدريس اللغة الإنجليزية في الجزائر، وكأن المدرسة الجزائرية تكتشف هذه اللغة للمرة الأولى! مع العلم أن اللغة الإنجليزية تدرس في مدارسنا منذ نصف قرن وأكثر، لغة يتعلمها التلميذ الجزائري سبع سنوات ما بين مرحلتي المتوسط والثانوي، ويتابع دراستها في الجامعة أيضاً في معظم تخصصات العلوم الإنسانية والدقيقة، وأتصور أن لغة تدرس بهذا الحجم الزمني يمكنها وبشكل طبيعي أن تخرج طالباً يتكلم بها ويقضي بها شؤونه ويمكنه لاحقاً أن يتعامل بها في المخابر العلمية العالية وهو ما أثبته كثير من أبنائنا الذين التحقوا بمخابر عالمية دقيقة في الطب والعلوم الفلكية والفيزيائية والرياضيات والتكنولوجية وغيرها في أوروبا وأميركا. ويمكن لهذا الطالب أيضاً أن يكون كاتباً إبداعياً وثقافياً بها.
في تصوري الخاص إن التهريج الأيديولوجي حول تدريس اللغة الإنجليزية في الجزائر هو تهريج ليس المقصود منه "محاربة الفرنسية"، لغة المستعمر كما يردد بعضهم، بل الغرض الأول منه قطع الطريق أمام تعميم تعليم اللغة الأمازيغية، فلن تخسر الفرنسية أي شيء في هذه المعركة الأيديولوجية البعيدة من كل مقاربة تربوية صادقة، إنما بقرار تدريس اللغة الإنجليزية بدءاً من السنة الثالثة ابتدائي أصبح من المستحيل الآن التفكير في تدريس لغة رابعة هي اللغة الأمازيغية التي من دون شك هي الضحية في هذه المعركة الأيديولوجية اللغوية.


أمين الزاوي
المقال الأسبوعي المنشور بأندبندت اللندنية الخميس 8 سبتمبر 2022.


Ma chronique hebdomadaire publiée dans INDEPENDENT londonien du jeudi 8 septembre 2022.
Le lien: https://www.independentarabia.com/.../%D9%87%D9%84-%D8%AA...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى