أخبرني رئيس تحرير الصحيفة بشكل مستعجل أنّ الموعد الأسبوعي للقصة القصيرة التي أنشرها في الصحيفة قد حان, وأنه يتعيّن عليّ أن أمدّه بعمل خلال ساعات. قلت له إنّني لم أجد موضوعا طريفا يمكن أن يعجب القرّاء. فقال لي :" يا أخانا اكتب أيّ شيء. الجميع يعرفون أنكم , معشر الكتاب, تكذبون. فاكتب أيّ كذبة ودع القراء يستمتعون بها. ودعنا نحن نأكل خبزنا. اكتب لنا أيّ نصّ ولا تكثر من التفلسف وإضاعة الوقت." ثمّ سمعته يكمل الحديث مع جليسه في المكتب والسمّاعة في يده:" حتى الكذب أصبح له ثمن يا صديقي." وسمعت صوتا آخر يردّ:" بل هو الذي يدرّ المال ويضخّم الحسابات." وسمعت قهقهة عالية.
وكالعادة. ذهبت لإحضار ورقة بيضاء يمكنها أن تحتضن كذبي. وامتشقت قلما لا يُشقّ له غبار في الكذب الصّريح والمين البيّن. ودخلت مكتبي الضيّق ذا النّافذة الوحيدة الضيّقة التي لا تسمح للكلام بالفرار مهما كان الجوّ في الغرفة المغلقة بإحكام. ولذلك السبب أغلقت الباب على نفسي. وأحسست أنّ الحرارة قد تجاوزت الخمسين في الظلّ. وحدّثت نفسي بأن الكذب مع الحرارة أفضل لأنّه كذب مطبوخ ومهيّأ بشكل مموّه. وبدأ العرق يتصبب من كلّ جسدي. وتحوّل الهواء الحار إلى سدّادات طائرة يحملها الهواء الساخن الرّاكد فتمنعني من التنفس.
قلت في نفسي : " الآن يمكنني أن أكذب وأدّعي أنّه بالحرارة وحدها تصحّ الأبدان ويقوى العزم. وينتصر المرء على جميع من يناصبه العداوة." ولم يبق لي بعد إحضار القلم الكسول والورق الأبيض النّقي إلاّ دعوة الحروف لنشرع في أداء الواجب المقدّس. ناديت على كلّ الحروف من الألف إلى الياء. فأقبلت طائعة. وناديت على الحركات فلم تتأخّر منها حركة واحدة وجاءت القصيرة والطويلة وجاء معها العدم المستدير الذي يسمونه سكونا.
نزلت الحروف من مخابئها العلويّة كما ينزل المطر مدرارا. وانتظمت في صفوف أمامي ونفخ كبيرها في البوق فحيّتني كعادتها وهي تستعدّ لتنفيذ الواجب..
طلبت من حروفي الانضباط والالتزام بالواجب ورجوت (لأشتري بعضا من عاطفتها) تنفيذ المطلوب بكلّ دقة. وقلت لها:" نفذي الأوامر ولا تنشغلي بالحقيقة والكذب. وإذا كان لا بدّ من الاحتجاج فليكن لك ذلك بعد التنفيذ وليس قبله. "
ومنذ بداية الحكاية فاحت رائحة الكذب من كلّ حرف في الجملة. وبدت العلاقات بين الكلمات مهترئة مهدّدة بالانفصام. طبقت الحروف أمري ووصفتني بالخالق والمبدع والمضحّي. ولو لا أنّ البطولة كانت من لوازم الشخصية الرئيسية في القصّة, لوصفتني الحروف والكلمات بأنّني بطل الأبطال.
تواضعت بعض الشيء وطلبت منها أن تهتم بالقصّة وأن تدع كيل المديح للكاتب إلى فرصة أخرى. فكان لي ذلك...
أنا لست بطلا ولا مبدعا ولا حتى بائع فقوس. ومع ذلك كله فقد عمّت الرائحة الجوّ داخل المكتب المغلق بإحكام. وازدادت حرارة المكتب. ومرّت بذهني فكرة جميلة حاولت اقتناصها بسرعة. ولذلك صحت في الطابور مسديا أوامري:" قائد فذّ يتفرّق عنه جنده. يعود من أقصى الصحراء الكبرى. ويحقق نصرا لأمته ...ووو...وووو ...ووو... إلى العمل أيتها الحروف. إلى العمل قبل ان تفرّ الأفكار من رأسي."
ونظرت إلى صفوف الحروف فوجدت البعض يضع أصابعه في أنفه. فاستشعرت الخطر. إنّه التمرّد يا قارئي...
صاح في أذني رئيس التحرير:" لا تكلّم القارئ... الصحيفة هي التي تتواصل معه."
عدت إلى حروفي غاضبا من رئيس التحرير ومن الحروف. وبدأت أتهم بياض الورقة. فقد بدا لي قد بالغ في الصفاء حتى عاد ينبئ باستحالة أن يستقبل كذبي الصريح.
ومن باب الاحتياط, توقفت عن الحكي لبعض الوقت وزويت ما بين حاجبيّ. ثمّ صحت في الحروف التي دبّت فيها الحركة طالبا الهدوء والانضباط. فعادت الصفوف إلى استوائها الأوّل. وعمّ الصمت. ورفعت لي الحروف التحية مرّة أخرى. ولكنّي شممت فيها رائحة المؤامرة, رائحة الكذب. ومن باب الاحتياط أيضا, ناديت على الألف واللام والباء والياء والّضّاد. فأقبلت سريعة ووقفت أمامي على الورقة البيضاء في طابور مستو. وسميتها "البياض".
أوهمتها بمناصب رفيعة في كتيبة الحروف. وفي النهاية أقنعتها بأن الإبداع جنون وأدخلتها إلى مقهى المدمنين وسقيتها ما تيسر من خبال الكراسي الوثيرة. وأصبحت معي وهي ليست معي.
قلت لباقي الحروف:" استعدي لكتابة جملة بسيطة تدلّ على قدرة البطل القصصي العجيبة على عبور الصّحارى في قيظ الصيف ودون ماء وفي غياب أيّ دليل.
دارت الحروف حول الكاف والذّال والباء ثمّ ضجّت:" لا ... لا . هذا كذب."
لويت أعناقها وصفعتها على مؤخّراتها حرفا حرفا. وركلتها. فخافت منّي ومن تصميمي على عقابها.
انكتبت جملة ذليلة تعيسة بائسة من تلقاء نفسها:" وعبر الكاتب الصحراء الكبرى من شمالها إلى جنوبها في نصف يوم وكانت الحرارة تقارب الستين درجة في الظلّ فما بالك بها في الشمس. ولم يكن معه دليل "
وصاحت جماهير الحروف الرابضة في الشمس :" كذب . كذب ... هذا مستحيل."
صحت فيها بأعلى صوتي:" لا يهمكم الكذب والصّدق. ولست أنت من محكمة في صدق الكلام وكذبه. هيّا اكتبي. " وجعلت أسرد الأحداث. وأزوق الأمكنة والأزمنة. وصورت ستائر ألف ليلة وليلة حول الحريم. وشدّدت على القدرة الخارقة للبطل القصصي الذي لم يكن يمتنع عليه في الأرض ولا في البحر أمر.
غدا يكلمني رئيس التحرير ويشكرني. ويصفني بالكاتب الذي لا يشق له غبار في الكذب. ونضحك. وأحاول أن أقنعه بأنه ليس كذبا كالذي نعرفه. وإنما هو كذب أبيض إذا ما وضع على ورق أبيض فأنّه لا يرى له أثر.
"يا أيها الجنود... إلى الحبر سيروا. وإلى الورق دورا." لكن الحروف ألقت بمحابرها في وجهي. وجلست على الورقة بشكل لا يدلّ إلا على التمرّد والعصيان والرفض. إنها نذر الانقلاب تتجسد.
لم يكن أمامي من الحلول إلاّ التهدئة للحفاظ على الورقة. فقد احتلتها الحروف وأخشى أن تشعل فيها نارا حتّى عندما لا يكون الألف حاضرا فيمكن للنار أن تشتعل بالخطأ.
قلت في نفسي:" البياض يطفئ الحريق. وإذا عصوني فسأعمل البياض. فأطفئ نارهم.
صحت مرة أخرى بعنف:" اكتبوا إنه بطل وجوّاب آفاق وكاتب نحرير لا يمحى لي مداد."
لكنّ الحروف لوحت لي برؤوسها رافضة مؤكّدة أنها لن تفعل.
وأنا ماذا أفعل؟؟؟
أنا أكذب كذبا حلالا أرتزق به من الصحيفة ومديرها. أنا أكذب لأنّني لا أعيش بلا كذب.
تجمعت الحروف في كلمات ثم تجمعت الكلمات في جمل. ثم ائتلفت فكانت نصوصا. وكانت تلعنني وتسبني. وهي تسير على الورقة البيضاء تدنسها بأحذيتها وتحاول تمزيقها.
دعوت الألف واللام والباء والياء والضّاد وأمرتها أن تكتب "البياض".
وكان البياض. البياض الذي يئد الحروف ويخنقها.
وقبل دقائق من إنهاء القصّة, اضطربت الحروف على سطح الورقة وتسلقت القلم وقتلت الألف واللام والباء والياء والضّاد. وقتلت البياض. ثمّ سارت إلى يدي العزلاء. ثمّ بلغت رقبتي. إنها تطبق عليّ. إنها تتكاثر بلا حدّ... تتكاثر...
" ألو... يا رئيس التحرير إنّ الحروف تخنقني. إنهّا تطبق على عنقي..."
"ألو... ألو... إني لا أسمعك..."
" الحروف تطب.....ق ...ع.... ر.."
" آه فهمت فهمت... اكتب أيّ شيء نملأ به الفراغ. لا يهم لا يهم...أيّ شيء..."
في الصباح, وفي الصفحة الأولى من الصحيفة الثقافية المرموقة, وبالخطّ العريض: "مثقف يكذب على الورق واللغة فأصابته لعنة الأدب. ولقد وجد مخنوقا بحبال المعاني في بيته. وقد تدلت جثته من سقف نصّ مشروع لم يُكمله. . والتحقيقات اللسانيّة ترجّح أنّه وقع ضحيّة الغازات الخانقة الناتجة عن الاستعمال المكثف للأساليب البلاغيّة."
واعترف الكاتب المقتول بأنه كان ضحيّة انقلاب الحروف عليه. وقبل الدّفن قال إنّه لا يزال متمسكا بشرعيّة سلطته. وأنه مازال يسدي أوامره إلى الحروف والكلمات لتكتب للصحيفة ما تشاء.
قال رئيس التحرير: هذا رزق ساقه الله إلى الصحيفة. رحم الله كاتبنا.. لقد كان كذّابا."
توفيق بن حنيش 10 سبتمبر 2022
وكالعادة. ذهبت لإحضار ورقة بيضاء يمكنها أن تحتضن كذبي. وامتشقت قلما لا يُشقّ له غبار في الكذب الصّريح والمين البيّن. ودخلت مكتبي الضيّق ذا النّافذة الوحيدة الضيّقة التي لا تسمح للكلام بالفرار مهما كان الجوّ في الغرفة المغلقة بإحكام. ولذلك السبب أغلقت الباب على نفسي. وأحسست أنّ الحرارة قد تجاوزت الخمسين في الظلّ. وحدّثت نفسي بأن الكذب مع الحرارة أفضل لأنّه كذب مطبوخ ومهيّأ بشكل مموّه. وبدأ العرق يتصبب من كلّ جسدي. وتحوّل الهواء الحار إلى سدّادات طائرة يحملها الهواء الساخن الرّاكد فتمنعني من التنفس.
قلت في نفسي : " الآن يمكنني أن أكذب وأدّعي أنّه بالحرارة وحدها تصحّ الأبدان ويقوى العزم. وينتصر المرء على جميع من يناصبه العداوة." ولم يبق لي بعد إحضار القلم الكسول والورق الأبيض النّقي إلاّ دعوة الحروف لنشرع في أداء الواجب المقدّس. ناديت على كلّ الحروف من الألف إلى الياء. فأقبلت طائعة. وناديت على الحركات فلم تتأخّر منها حركة واحدة وجاءت القصيرة والطويلة وجاء معها العدم المستدير الذي يسمونه سكونا.
نزلت الحروف من مخابئها العلويّة كما ينزل المطر مدرارا. وانتظمت في صفوف أمامي ونفخ كبيرها في البوق فحيّتني كعادتها وهي تستعدّ لتنفيذ الواجب..
طلبت من حروفي الانضباط والالتزام بالواجب ورجوت (لأشتري بعضا من عاطفتها) تنفيذ المطلوب بكلّ دقة. وقلت لها:" نفذي الأوامر ولا تنشغلي بالحقيقة والكذب. وإذا كان لا بدّ من الاحتجاج فليكن لك ذلك بعد التنفيذ وليس قبله. "
ومنذ بداية الحكاية فاحت رائحة الكذب من كلّ حرف في الجملة. وبدت العلاقات بين الكلمات مهترئة مهدّدة بالانفصام. طبقت الحروف أمري ووصفتني بالخالق والمبدع والمضحّي. ولو لا أنّ البطولة كانت من لوازم الشخصية الرئيسية في القصّة, لوصفتني الحروف والكلمات بأنّني بطل الأبطال.
تواضعت بعض الشيء وطلبت منها أن تهتم بالقصّة وأن تدع كيل المديح للكاتب إلى فرصة أخرى. فكان لي ذلك...
أنا لست بطلا ولا مبدعا ولا حتى بائع فقوس. ومع ذلك كله فقد عمّت الرائحة الجوّ داخل المكتب المغلق بإحكام. وازدادت حرارة المكتب. ومرّت بذهني فكرة جميلة حاولت اقتناصها بسرعة. ولذلك صحت في الطابور مسديا أوامري:" قائد فذّ يتفرّق عنه جنده. يعود من أقصى الصحراء الكبرى. ويحقق نصرا لأمته ...ووو...وووو ...ووو... إلى العمل أيتها الحروف. إلى العمل قبل ان تفرّ الأفكار من رأسي."
ونظرت إلى صفوف الحروف فوجدت البعض يضع أصابعه في أنفه. فاستشعرت الخطر. إنّه التمرّد يا قارئي...
صاح في أذني رئيس التحرير:" لا تكلّم القارئ... الصحيفة هي التي تتواصل معه."
عدت إلى حروفي غاضبا من رئيس التحرير ومن الحروف. وبدأت أتهم بياض الورقة. فقد بدا لي قد بالغ في الصفاء حتى عاد ينبئ باستحالة أن يستقبل كذبي الصريح.
ومن باب الاحتياط, توقفت عن الحكي لبعض الوقت وزويت ما بين حاجبيّ. ثمّ صحت في الحروف التي دبّت فيها الحركة طالبا الهدوء والانضباط. فعادت الصفوف إلى استوائها الأوّل. وعمّ الصمت. ورفعت لي الحروف التحية مرّة أخرى. ولكنّي شممت فيها رائحة المؤامرة, رائحة الكذب. ومن باب الاحتياط أيضا, ناديت على الألف واللام والباء والياء والّضّاد. فأقبلت سريعة ووقفت أمامي على الورقة البيضاء في طابور مستو. وسميتها "البياض".
أوهمتها بمناصب رفيعة في كتيبة الحروف. وفي النهاية أقنعتها بأن الإبداع جنون وأدخلتها إلى مقهى المدمنين وسقيتها ما تيسر من خبال الكراسي الوثيرة. وأصبحت معي وهي ليست معي.
قلت لباقي الحروف:" استعدي لكتابة جملة بسيطة تدلّ على قدرة البطل القصصي العجيبة على عبور الصّحارى في قيظ الصيف ودون ماء وفي غياب أيّ دليل.
دارت الحروف حول الكاف والذّال والباء ثمّ ضجّت:" لا ... لا . هذا كذب."
لويت أعناقها وصفعتها على مؤخّراتها حرفا حرفا. وركلتها. فخافت منّي ومن تصميمي على عقابها.
انكتبت جملة ذليلة تعيسة بائسة من تلقاء نفسها:" وعبر الكاتب الصحراء الكبرى من شمالها إلى جنوبها في نصف يوم وكانت الحرارة تقارب الستين درجة في الظلّ فما بالك بها في الشمس. ولم يكن معه دليل "
وصاحت جماهير الحروف الرابضة في الشمس :" كذب . كذب ... هذا مستحيل."
صحت فيها بأعلى صوتي:" لا يهمكم الكذب والصّدق. ولست أنت من محكمة في صدق الكلام وكذبه. هيّا اكتبي. " وجعلت أسرد الأحداث. وأزوق الأمكنة والأزمنة. وصورت ستائر ألف ليلة وليلة حول الحريم. وشدّدت على القدرة الخارقة للبطل القصصي الذي لم يكن يمتنع عليه في الأرض ولا في البحر أمر.
غدا يكلمني رئيس التحرير ويشكرني. ويصفني بالكاتب الذي لا يشق له غبار في الكذب. ونضحك. وأحاول أن أقنعه بأنه ليس كذبا كالذي نعرفه. وإنما هو كذب أبيض إذا ما وضع على ورق أبيض فأنّه لا يرى له أثر.
"يا أيها الجنود... إلى الحبر سيروا. وإلى الورق دورا." لكن الحروف ألقت بمحابرها في وجهي. وجلست على الورقة بشكل لا يدلّ إلا على التمرّد والعصيان والرفض. إنها نذر الانقلاب تتجسد.
لم يكن أمامي من الحلول إلاّ التهدئة للحفاظ على الورقة. فقد احتلتها الحروف وأخشى أن تشعل فيها نارا حتّى عندما لا يكون الألف حاضرا فيمكن للنار أن تشتعل بالخطأ.
قلت في نفسي:" البياض يطفئ الحريق. وإذا عصوني فسأعمل البياض. فأطفئ نارهم.
صحت مرة أخرى بعنف:" اكتبوا إنه بطل وجوّاب آفاق وكاتب نحرير لا يمحى لي مداد."
لكنّ الحروف لوحت لي برؤوسها رافضة مؤكّدة أنها لن تفعل.
وأنا ماذا أفعل؟؟؟
أنا أكذب كذبا حلالا أرتزق به من الصحيفة ومديرها. أنا أكذب لأنّني لا أعيش بلا كذب.
تجمعت الحروف في كلمات ثم تجمعت الكلمات في جمل. ثم ائتلفت فكانت نصوصا. وكانت تلعنني وتسبني. وهي تسير على الورقة البيضاء تدنسها بأحذيتها وتحاول تمزيقها.
دعوت الألف واللام والباء والياء والضّاد وأمرتها أن تكتب "البياض".
وكان البياض. البياض الذي يئد الحروف ويخنقها.
وقبل دقائق من إنهاء القصّة, اضطربت الحروف على سطح الورقة وتسلقت القلم وقتلت الألف واللام والباء والياء والضّاد. وقتلت البياض. ثمّ سارت إلى يدي العزلاء. ثمّ بلغت رقبتي. إنها تطبق عليّ. إنها تتكاثر بلا حدّ... تتكاثر...
" ألو... يا رئيس التحرير إنّ الحروف تخنقني. إنهّا تطبق على عنقي..."
"ألو... ألو... إني لا أسمعك..."
" الحروف تطب.....ق ...ع.... ر.."
" آه فهمت فهمت... اكتب أيّ شيء نملأ به الفراغ. لا يهم لا يهم...أيّ شيء..."
في الصباح, وفي الصفحة الأولى من الصحيفة الثقافية المرموقة, وبالخطّ العريض: "مثقف يكذب على الورق واللغة فأصابته لعنة الأدب. ولقد وجد مخنوقا بحبال المعاني في بيته. وقد تدلت جثته من سقف نصّ مشروع لم يُكمله. . والتحقيقات اللسانيّة ترجّح أنّه وقع ضحيّة الغازات الخانقة الناتجة عن الاستعمال المكثف للأساليب البلاغيّة."
واعترف الكاتب المقتول بأنه كان ضحيّة انقلاب الحروف عليه. وقبل الدّفن قال إنّه لا يزال متمسكا بشرعيّة سلطته. وأنه مازال يسدي أوامره إلى الحروف والكلمات لتكتب للصحيفة ما تشاء.
قال رئيس التحرير: هذا رزق ساقه الله إلى الصحيفة. رحم الله كاتبنا.. لقد كان كذّابا."
توفيق بن حنيش 10 سبتمبر 2022