د. سيد شعبان - جنون..

انتهت حالة الهيجان العصبي التي أسفرت عن جلطة دماغية خفيفة، مضت ساعات الترقب كأنها قطار فقد طريقه.
تعرضت لمثلها من قبل؛ يؤسفني أن هذه الحالة أطارت ببقية خلايا عقلي، ما عدت أميز بين الناس، صرت المجذوب يركض في كل ناحية؛ قالت أمي: إن الفضيحة أن تنكشف لك سوءة؛ وما أدري أن الخرق يتسع على الراتق، كنت كالشارب من ماء البحر
الآن بدت هذه الجملة أشدما أخاف، أمعنت في ارتداء كل الثياب حتى ما لا يصلح، إمعانا في الحذر ربطتها حول جسد بحبال العنزات، يا لها من كلمة!
بلغ بي الهذيان أقصى درجاته، أنا أﻵن على حافة بحر الجنون، أنظر في الماء فأجد وجهي صار كرة من خشب، أذناي أشيه بطبلة الغجر الذين جاءوا بلدتنا؛ نساؤهم يرتدين ثيابا وردية، يضعن قرطا في أنوفهن، شعورهن نافرات في إثارة.
لا داعي لهذه الذكريات التي تدغدغ جسدي، الصمت يتمدد داخلي يلتهم الأمل، لم يعد به ما يكفي ﻷتزود بقية الساعات المؤجلة، أعلم أن الجلطة لها توابع ارتدادية، سياط كريهة تنتظرني عند باب البيت يكمن ثعبان أسود، أشعر بأنني بدأت الآن في نوبة جديدة من الهياج، مسرعا تناولت حبة الدواء الأخيرة، ربما أفقد حياتي في أية لحظة؛ الموت يلتهم من لا يحترسون منه، لعله الخوف الذي جعلني أظل مستيقظا طوال اليوم؛ أصابني هذا باعتلال جسدي، نوبات من البكاء لا تنتهي.
من يطعم العصافير في الصباح؟
ومن سيرث هذا المكان من بعدي، نسيت أن أدون ورقة بمن يمتون إلي بصلة قرابة، على أية حال كانوا سيحملون جسدي إلى القبر، أولعلهم سيلقون بها لتكون طعاما لسباع البر، ربما يقيمون هناك مندبة ويؤجرون نائحة.
ليتني أوصيت بأن أجاور أبي!
علي أن أفتح النافذة لتخرج القطة، بالتأكيد سيهتم بها الجيران؛ هؤلاء لا يبتسمون في وجهي، لعل قلوبهم تلين لهذه المسكينة؛ لكنني أشك في هذا، تغير الناس، يوشك سعار الحياة أن يفنيهم، منذ جئت هذه الشقة وأنا منفي بين جدرانها، برودة في كل زاوية منها، لا يعرفني أحد، يأتي يوم وراء آخر والصدى هو أنيسي، ليتني كنت هناك؛ لكنهم تخلوا عني، يوم مات أبي ساد الظلام، لعله شعور مرضي أحسست به، ومن ساعتها وأنا في عالم الآخرة..
كان علي أن أعيش زمني، لم أتعاط النسيان، تفاصيل الأشياء تسكن بدقة لا توصف في ذلك الجسد المتهدم.
أن أتنفس هواء خاليا من العفونة التي تزكم أنفي، أن أجد الآنية مملوءة بالطعام الذي اشتهيته.
لا شك أن هذا لو وجد طريقه إلى عالمي، لكان أكثر سعادة.
للمرأة التي أحببتها خيال يسري داخلي، فالعطر أنثى مهما تغيرت القارورة، الآخرون يرون جنوني علة دائمة، اتصل بعضهم برجال السراي الصفراء؛ تعجلوا رحيلي إلى المكان الذي يسكنه من يعيشون في أبراج السماء حيث ترتدي العصافير حلل العيد، تطير الأفيال بأجنحة مخملية، تنسج الأشجار حكايات ذات طعم شهي لذيذ.
كل ما قبع في ذاكرتي من أحجية العقل صار مثل بيت عنكبوت تسكنه الهوام التي لا نفع لها.
يزور طيف أبي كل لحظة، يبدو أنه يتعجل مقدمي، تمثل لي الأوهام عالما من بناء حجري، ترتفع طوابقه تتحدث فيها الأبواب بلغة ملأى بالرموز؛ المقصلة تشتهي رقابا تتراقص في أحشائها.
يخرج من رأسي دخان أبيض؛ قال أحد الجيران: إنه مسكون بالجن، طار في الناحية خبري، تلك بلدة لا تخفى فيها الأسرار، يقتات الجوعى والمقهورون حكايات الحساء المخلوط بعرق الذل الذي نبت في أرض السواد أو في علب الصفيح التي تحوط بمدن الملح.
فلا غرابة أن تكون حياتي حالة مجنون عاش مائة عام أو يزيد قليلا منعزلا في قبو تسكنه الأحلام الموءودة.
صوت المذياع يحذر القاطنين في حي المجاورين من أن يمسوا جسدي أو يذكروا اسمي؛ فالعدوى ساكنة في الهواء الذي تنفسته في حالة الصحو التي عرفتها سنوات الربيع الذى التهمه الخريف مبكرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى