حاميد اليوسفي - يامنة

تجاوزت (يامنة) الثمانين سنة. ظهرت زرقة الوشم متقطعة على ذقنها بين التجاعيد التي غطت على بياض وجهها. رغم نحافة جسمها ، وانحناء ظهرها، فقد ظلت تتحرك ببطء وحذر داخل البيت. الأبناء كبروا وهاجروا واستقروا في القرى والمدن البعيدة. منذ خمس سنوات رحل عنها الحسين زوجها. رغم الخلافات الطفيفة التي تظهر من حين لآخر في حديثهما، فقد كانا يشعران بأنهما يؤنسان بعضهما البعض، وهما يستعيدان جزءا من ذكريات شبابهما الجميلة.
الآن تحس بوحدة قاتلة. في الليل لا تسمع غير عواء الذئاب القادم من الجبل المحاذي للبلدة. لولا استقرار ابنها محمد في البيت رفقة زوجته وأبنائه، لوجدت صعوبة في العيش بمفردها، وماتت من الحزن والكمد. عندما يزورها بعض أبنائها وبناتها رفقة الأحفاد، تعود عشرين سنة إلى الوراء، وتشعر بسعادة لا حد لها، وتتمنى مع نفسها لو بقوا معها مدة أطول.
أحسن ما فعله الحسين في أيامه الأخيرة أنه علمها الصلاة. يجلسان في فناء البيت، ويقرأ عليها بعض السور القصيرة، ويطلب منها أن تردد خلفه الجمل التي ينطق بها .تحفظ جملة، وتنسى أخرى. عندما يئس من تعلمها لقراءة هذه السور بشكل صحيح .سأل فقيه القرية فأجاز لها أن تصلي، وتردد ما علق بذهنها، فالله سيغفر لها. لم تجد صعوبة في تقليد طريقته في الوضوء، رغم عدم حفاظها على ترتيب غسل الأعضاء، فأحيانا تغسل وجهها قبل يديها، وأحيانا تقدم رجليها على مسح شعرها.
وجدت في الصلاة خير مؤنس. تجلس بين يدي الله تعالى، وتحكي له عن قناعتها وشكرها، ولا تنسى آلامها ومعاناتها، وما تشعر به من وحدة قاتلة. أحيانا يختلط عليها الأمر، فتتذكر لحظة جميلة من حياتها مر عليها زمن طويل. عندما تتوجه بدعواتها إلى الله، وتنظر إلى الأعلى، تشعر بألم في ظهرها، فلا تطلب مالا ولا جاها. رجاؤها الوحيد أن تموت واقفة، وليس طريحة الفراش.
راقب أحد أحفادها القادم من مدينة بعيدة حركاتها أثناء الصلاة، ولاحظ أنها تسرع في الركوع والسجود لتعود وتجلس معهم. أراد امتحانها ، فسألها بعفوية:
ـ جدتي الحبيبة ما هي السور القرآنية التي قرأتها أثناء أدائك للصلاة؟
نهره والده، وطلب منه أن يسكت. لكن الجدة كان لوقع كلمة حبيبة في نفسها أثر السحر. استغربت كيف نسيت معنى هذه الكلمة كل هذه الأعوام الطويلة. أجابته والابتسامة تعلو شفتيها :
ـ يامنة جدتك الحبيبة تعرف ربي، وربي يعرف جدتك يامنة.

مراكش في 12 يونيو 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى