طلعت قديح - تأمل البرق في مقام "أنا"...

"أنا" . . .
من شعر "دم التفّاح" للشاعرة رفيقة المرواني


(أنا)

أنا من ألقيت
في البئر
شالي
وأخفيت المصباح
في عيني
.....
أنا من أسقطت
في عتم الماء
صوتي
ومضيت
أتسوّلُ فماً
أغمده في سرة النّبع
علّي أوقظ النور
في أوردتك
.....
أنا التي لم يبرئني
قميصك
من خطايا الشوق
"الجزاف"
وتجرّعت مرارة
حب فقير
بارد
يمضي ليله
وحيداً يتوسَّد
رصيفا بلا ذراع
.....
لست وحدي من آمنت
بالحلم
وصدقت أنَّ الكلام
لحظة الانتشاء
معجزة
وأن اللسان الأخضر
الذي استعصم بالغصن
وأبى أن يعود إليّ
كان في القديم
نبيًّا
.....

أنا من ألقيت
في البئر
شالي
وأخفيت المصباح
في عيني

في النثر فوائح من إحساس أدامه القلم المتواري خلف الضلوع، ونثره الحرف ولو على طرف خيط من ابتسام القول ولثم الخيال.
والأنا في أول النص يتأرجح بين احتمالين؛ تفاخر بالأنا والتزام بكبرياء القدرة وبناء الذات، وأما الآخر فهو إدراك المعاناة والاعتراف بها نمطا في حياة مرهقة، لم تكن إلا اختبارا للبوح الكامن في حبر القلب!
والإلقاء فعل اقتدار يباغت الكلم حتى يصل لمرتبة الإجبار، كقول منه تعالى " وألقي السحرة ساجدين"، وعلى هذا يأتي ذكر "أنا من ألقيت" وصفا لتحد أو بوح منفجر، لشيء في ذات الأنا، في اعتراف لا ريب فيه!
ولأن الاعتراف شاهق، فكان لا بد أن يكون المكان بقدر فعل الاعتراف، فكان "في البئر" والبئر مكان مظلم، لكنه حي، أوليس "وجعلنا من الماء كل شيء حي"! وكأن إلقاء الشال هو إحياء للشال! أكان شالا عبارة عن كينونة متخفية للشاعرة، أهو رمز لكثير من المعاني المتسترة في قصدها، كذكريات أو ذاكرات أو أو . . .. الخ.
ولم ننتظر لنعرف ذلك؛ حين كُشف عن لثام الكلمات،
بقولها:
" وأخفيت المصباح
في عيني"
والإخفاء مسار لتهرب من إحساس الرهبة والتكتم على فعل أو شيء لا يراد إفشاؤه، هي المتحولات من الأحوال ما بين قلب البصيرة وعين التبصر في حال التفكر الذي كان الإلقاء مسعاه.
.....
أنا من أسقطت
في عتم الماء
صوتي
ومضيت
أتسوّلُ فماً
أغمده في سرة النّبع
علّي أوقظ النور
في أوردتك
.....
الانكشاف رويدا رويدا يكون في فاتورة البوح، حتى أن الشاعرة تفكر بغيرها في كينونتها، في المكان والصوت الفعل، في إسقاط الصوت في ظلمة الماء القابع في ملذة البئر، والذي كان التهرب ملاذ التفكر ثم الانفلات من الحالة لتتكون حال جديد كـ " ومضيت" وكأن الحرف يمارس مهنة الاستغناء عن الدور الأول أو الحالة الشعورية الأولى في بوح الألم، لتقول " أتسوّلُ فماً
أغمده في سرة النّبع" وهنا تراوح الحروف مكان التحول إلى مكان الشهوة، ويذهب النص إلى مكان آخر وفكرة أخرى، وعالم من اللذاذة المتأرجحة في الفعل المتحرش، والذي لا يكون الصمت فيه، هي النتيجة المتأملة الرائقة
" علّي أوقظ النور
في أوردتك"
و"سرة النبع" ارتكاب في مسار لن يمكث فيها، بل هو مكان لفعل ما، هو مكان الإذكاء للتدحرج لمكانات أخرى أشد!
ترى؛ أيكون قعر البئر!
.....
أنا التي لم يبرئني
قميصك
من خطايا الشوق
"الجزاف"
وتجرّعت مرارة
حب فقير
بارد
يمضي ليله
وحيداً يتوسَّد
رصيفا بلا ذراع
لا يبحث استخدام التناص إلا من يريد تقوية النص ببلاغة التناص الذي يمارس فيه النص اقتدار البوح والخيال المطعم، وكذا كان " أنا التي لم يبرئني
قميصك
من خطايا الشوق" ولأنها دخول في حالة انكشاف أو تكشف ظاهر بوصفها "حي بارد" "وحيدا" وتكون نتيجة "رصيفا بلا ذراع" أكان للرصيف أذرعه! فالمعنى سائر لخفي القصد وشغف الغموض، وانفتاح الاحتمالات والأسئلة المفتوحة.
.....
لست وحدي من آمنت
بالحلم
وصدقت أنَّ الكلام
لحظة الانتشاء
معجزة
وأن اللسان الأخضر
الذي استعصم بالغصن
وأبى أن يعود إليّ
كان في القديم
نبيًّا
أعارت الشاعرة سماء حرفها اعترافا موشحا مضمخا بضحك البوح، هو الحب الشهوة، ذاك الأقوى من الصمت، وقد باحت بما وراء الحلم، لكنه مختلف القدرة في وصف الحالة، ثمة صعقة كهربائية لامست وصال العاشقين في الحلول المتيم في قولها
" وأن اللسان الأخضر
الذي استعصم بالغصن"
والأخضر خصوبة الانتشاء في تمدد اللسان الذي ينسكب في الغصن؛ وحيًا نبت في آخر النص، بقول يفوح منه اشتهاء جسدين، إلا أن الشاعرة أرادت صقل التجربة بهالة صوفية وخلف ستارها لهب من الرغبة المتوحشة!

الكاتب: طلعت قديح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى