يقع ضريح سيدي " دمين" في وسط باحة واسعة، تحيط به القبور من جميع الزوايا. ما إن تدخل المقام، حتى تشم بخورا يصعد من المباخر الفضية، ذلك البخور الذي أرخى على المقام دثارا من الوقار و المهابة؛ فتسري في بدنك القشعريرة. و لكن ما إن ترى الستان الذي يغطي الستر و المقام، حتى ترتع عيناك في حقل أخضر؛ فتسري في قلبك الطمأنينة. إذا رددت بصرك بين أرجاء المكان؛ فسوف تبصر طلاء لبنيا يغطي الجدران، و سوف تبصر مسابح بيضاء تزين الجدران، وقناديل متدلية كثمار يانعة، و سقفا خشبيا عتيقا تزينه النقوش و الزخارف الملونة. في منتصف الضريح سوف تقف طويلا أمام صندوق النذور. سوف ترى عندئذ مكعبا حديديا ضخما يتكئ على أرجل الفولاذ، التي ثبتت في الأرض، بعد أن طرحت عليها قصاع الخرسانة. و سوف تبصر أقفالا صدئة تقبض على قطع الجنزير؛ كي تحكم إغلاق الصندوق في وجوه أصحاب الأيدي العابثة. الضريح مكتظ اليوم برواد و زائرين يدخلون ويخرجون؛ فترى دموعا تسيل، و تسمع فاتحة تقرأ، وتمتمات تنثال، و يخترق أذنيك صوت عريض جهوري يهتف بكلمة اسع؛ فيسارع الناس إلى الخروج؛ ليحل محلهم آخرون. حنجرة قوية، وصوت كطبل يطرقه درويش في ثياب رثة، رجل أشعث الشعر، يتطاير الزبد الأبيض من فمه. إنه الشيخ صديق، وارث الطريقة وخادم الضريح، رجل نسجت حوله الأساطير؛ لم يعرف أحد شيئا عن نسبه أو موطنه. نام الجميع، و في غفلة انشقت الأرض أو فتح رتق في السماء؛ فظهر الرجل، و منذ ذلك اليوم و هو يلازم باب المقام، و لا يبرحه. أمن الشق خرج، أم من الرتق هبط؟! لم يدر أحد. .............................
(٢)
خيول عربية تتبارى في دائرة الرمل الواسعة، و فرسان على صهوات الخيل يلوحون بالشيلان البيضاء، وجموع مبهورة تبعثر الصيحات النابضة بحماس، و مهرة عربية مزينة بالسروج الملونة تقتحم الساحة، و تنهمك في الرقص على انغام المزمار، و باعة احتلوا الطرقات المؤدية إلى الضريح، و على جانبي الطرقات ظهرت أكوام الحمص و الحلاوة. و جر باعة آخرون عربات البطاطا المدخنة، و الترمس و حب العزيز. النساء يتوافدن على فتارين الأساور، و السلاسل، و الحلقان، و أعينهن من خلف البراقع تلتهم زجاجات العطر والطرح الملونة. و الصغار التصقت أعينهم بفرش اللعب و الطراطير. و أصوات الزمامير، و ألوانها أشاعت البهجة في المكان؛ إذ أحدثت أصواتها صخبا مرنما، و تلونت أجسامها البلاستيكية بألوان الطيف السبعة، التي غازلت أعين الأطفال من بعيد؛ فراحوا يتذمرون، و يتعجلون الشراء. جموع هائلة من البشر، و في قلب الزحام اندس حفنة من سارقي البهجة، راحت أيديهم الخفيفة تشرط الجيوب وتخلف الحسرات في القلوب. كما اندس فتيان تعمدوا الاحتكاك بأجساد النساء، و مغازلة بنات كالورد لوّنّ الساحة بأطياف من السحر و الجمال.
(٣)
كان الشيخ صديق على عهده بالباب تلتهم عيناه الواسعتان أمواس المزين المسترسلة في ختان أطفال النجع الصارخين. المزين يجز أطراف القلف، و الدرويش يستقبل المختون لتوه، فيطرح عليه ثوبا فضفاضا، و يتمتم بألفاظ هامسة، وفي نهاية الرقية، يمسح رأس الطفل بأصابعه الغليظة المتشققة؛ و الأمهات يسرعن إلى أطفالهن، و ينزعن ثيابهم المختلطة بالدم، و يستبدلنها بقفاطين بيضاء نظيفة، رسمت علي ظهورها أكف حمراء على هيئة (خمسة وخميسة). المختون يبدو في أوج أبهته، لولا دموعه الغزيرة، و الأمهات يطلقن الزغاريد، و يضعن المقسوم في يد الدرويش، و يغادرن المكان بأطفالهن الباكين.
(٤)
يوم كالعيد، ومع حلول المساء يأبى المولد أن يغرق في الظلام؛ فترسل مصابيح النيون الملونة هالات الضوء؛ فتبهر العيون، و تحول الليل إلى نهار. بجوار الضريح تمايل المداح، و اصطف الحاضرون في صفوف، و راحت ألسنتهم تلهج بذكر اسم الجلال. مداح سكر بخمرة العشق؛ فالتمس حبال المدد الموصول بالسماء، و ارتشف في شغف كؤوس صفاء، و تعنى بحب آل البيت الأطهار. و دراويش كفراشات أحرقها الوجد، تمايلت صفوفهم كأمواج راحت تعلو وتهبط مع ابتهالات المداح المحموم. غاصت ساحة المولد في بحر شفاف من الأنس، و سبحت أرواح الحشود في الملكوت. عيد، و الحشود تخشى انقضاء الليلة الكبيرة العامرة؛ فراحت تستجدي من الليل البقاء، و لكن من فرط المتعة انفرطت حبات الوقت سريعا، فمرت الساعات كدقائق حالمة، و بزغ الفجر الخجول؛ فلملم الباعة بقايا بضائعهم، و غادروا الساحة، و عاد الناس، منتشين بخمرة المولد إلى الدور؛ فأسلموا أبدانهم إلى لذة النوم الطويل.
( ٥)
مع وهج الضحى خرج الفتيان الكسالى بالمواعز و الخراف و النعاج إلى ساحة المولد الفارغة؛ فراحت القطعان تتغذى على بقايا أطعمة الليلة الكبيرة. ولما أغوى الفراغ عقول الرعاة، توجهوا صوب الضريح، قاصدين التلهي بدرويش الباب. سيتوارون- بلا شك- بعيدا، وسيرجمونه بالحصى، و سيغرقون في سيل السباب المنهمر من حنجرة الشيخ صديق، و سيكتمون ضحكاتهم الماجنة، وسيقضون النهار في تعكير صفو الدرويش المستشيط غضبا. دنت جموع الفتيان، و لما صوبوا الحصى، لم يجبهم غير السكون؛ فأصروا على إيقاظ الدرويش النائم المتكور في ثيابه الرثة. أعادوا المحاولة؛ فانهمر الحصى من جديد على جسده، ولما لم تصدر منه أية حركة، سرت رعدة في أوصالهم، و أعادوا الكرة للمرة الثالثة، و لما لم يتحرك، ذهبت بهم الظنون إلى المنتهى، و وقع في خلدهم أن الرجل فارق الحياة؛ فاتجهوا صوب الجسد الهامد، عندئذ لطمتهم الدهشة؛ إذ وجدوا جلبابا رثا محشوا بالقش. و وجدوا عمامة محشوة بالورق، لكنهم لم يجدوا الدرويش نفسه. و نظر الفتيان إلى جوف الضريح؛ فأبصروا صندوق النذور مفتوحا و فارغا، أعادوا النظر؛ فأبصروا المقام عاريا منزوع الزينة. لقد سرق أحدهم كل شيء: المباخر الفضية, و مسابح الجدران، و قناديل السقف، حتى ستر الستان الأخضر، لم يسلم من يد السارق الآثمة. انسل الفتيان، و عادوا إلى النجع بأغنامهم، و راحوا يقصون الخبر على الأهالي الذين صدموا، و باتوا غير مصدقين أن يتحول الشيخ صديق في غمضة عين إلى متهم تحوم حوله الشكوك. و لكن سرعان ما ثبتت إدانته، عندما عاد رجال إلى النجع؛ فأخبروا الأهالي أنهم لمحوا رجلا أشعث في ثياب رثة يهيم على وجهه في الصحراء يجرجر جوالا منتفخا من الخيش. تفرق الناس، و عادوا إلى ديارهم بعد أن خيم الحزن على قلوبهم. مر نهار ونهار، وفي اليوم الثالث خرج الفتيان بمواعزهم ، ولما لجأوا في الظهيرة إلى ظل الضريح؛ ليتقوا شمس الهجير، صعقتهم رؤية الشيخ صديق وقد لزم الباب كما جرت العادة، و حينما تقدم الفتيان نحوه، قاصدين البطش به، تبسم ضاحكا، و أشار إلى الضريح الذي اكتسى من الداخل بحلل زاهية، و الذي تزين بقناديل صافية، ومباخر فضية لامعة، ومسابح كفلق الصبح، و قماش أخضر جديد. عندئذ هدأت ثائرة الفتيان، و نظر بعضهم إلى بعض، ثم سلطوا أعينهم على صندوق النذور الذي أحكم إغلاقه مرة أخرى؛ فنهض الدرويش في صمت، و فتح الأقفال الصدئة بمفاتيح أخرجها من بين طيات ثيابه، و أزاح الغطاء الحديدي بتؤدة؛ فاندهش الفتيان من جديد؛ إذ أبصروا الصندوق ممتلئا بأوراق العملة المتغضنة.
(٢)
خيول عربية تتبارى في دائرة الرمل الواسعة، و فرسان على صهوات الخيل يلوحون بالشيلان البيضاء، وجموع مبهورة تبعثر الصيحات النابضة بحماس، و مهرة عربية مزينة بالسروج الملونة تقتحم الساحة، و تنهمك في الرقص على انغام المزمار، و باعة احتلوا الطرقات المؤدية إلى الضريح، و على جانبي الطرقات ظهرت أكوام الحمص و الحلاوة. و جر باعة آخرون عربات البطاطا المدخنة، و الترمس و حب العزيز. النساء يتوافدن على فتارين الأساور، و السلاسل، و الحلقان، و أعينهن من خلف البراقع تلتهم زجاجات العطر والطرح الملونة. و الصغار التصقت أعينهم بفرش اللعب و الطراطير. و أصوات الزمامير، و ألوانها أشاعت البهجة في المكان؛ إذ أحدثت أصواتها صخبا مرنما، و تلونت أجسامها البلاستيكية بألوان الطيف السبعة، التي غازلت أعين الأطفال من بعيد؛ فراحوا يتذمرون، و يتعجلون الشراء. جموع هائلة من البشر، و في قلب الزحام اندس حفنة من سارقي البهجة، راحت أيديهم الخفيفة تشرط الجيوب وتخلف الحسرات في القلوب. كما اندس فتيان تعمدوا الاحتكاك بأجساد النساء، و مغازلة بنات كالورد لوّنّ الساحة بأطياف من السحر و الجمال.
(٣)
كان الشيخ صديق على عهده بالباب تلتهم عيناه الواسعتان أمواس المزين المسترسلة في ختان أطفال النجع الصارخين. المزين يجز أطراف القلف، و الدرويش يستقبل المختون لتوه، فيطرح عليه ثوبا فضفاضا، و يتمتم بألفاظ هامسة، وفي نهاية الرقية، يمسح رأس الطفل بأصابعه الغليظة المتشققة؛ و الأمهات يسرعن إلى أطفالهن، و ينزعن ثيابهم المختلطة بالدم، و يستبدلنها بقفاطين بيضاء نظيفة، رسمت علي ظهورها أكف حمراء على هيئة (خمسة وخميسة). المختون يبدو في أوج أبهته، لولا دموعه الغزيرة، و الأمهات يطلقن الزغاريد، و يضعن المقسوم في يد الدرويش، و يغادرن المكان بأطفالهن الباكين.
(٤)
يوم كالعيد، ومع حلول المساء يأبى المولد أن يغرق في الظلام؛ فترسل مصابيح النيون الملونة هالات الضوء؛ فتبهر العيون، و تحول الليل إلى نهار. بجوار الضريح تمايل المداح، و اصطف الحاضرون في صفوف، و راحت ألسنتهم تلهج بذكر اسم الجلال. مداح سكر بخمرة العشق؛ فالتمس حبال المدد الموصول بالسماء، و ارتشف في شغف كؤوس صفاء، و تعنى بحب آل البيت الأطهار. و دراويش كفراشات أحرقها الوجد، تمايلت صفوفهم كأمواج راحت تعلو وتهبط مع ابتهالات المداح المحموم. غاصت ساحة المولد في بحر شفاف من الأنس، و سبحت أرواح الحشود في الملكوت. عيد، و الحشود تخشى انقضاء الليلة الكبيرة العامرة؛ فراحت تستجدي من الليل البقاء، و لكن من فرط المتعة انفرطت حبات الوقت سريعا، فمرت الساعات كدقائق حالمة، و بزغ الفجر الخجول؛ فلملم الباعة بقايا بضائعهم، و غادروا الساحة، و عاد الناس، منتشين بخمرة المولد إلى الدور؛ فأسلموا أبدانهم إلى لذة النوم الطويل.
( ٥)
مع وهج الضحى خرج الفتيان الكسالى بالمواعز و الخراف و النعاج إلى ساحة المولد الفارغة؛ فراحت القطعان تتغذى على بقايا أطعمة الليلة الكبيرة. ولما أغوى الفراغ عقول الرعاة، توجهوا صوب الضريح، قاصدين التلهي بدرويش الباب. سيتوارون- بلا شك- بعيدا، وسيرجمونه بالحصى، و سيغرقون في سيل السباب المنهمر من حنجرة الشيخ صديق، و سيكتمون ضحكاتهم الماجنة، وسيقضون النهار في تعكير صفو الدرويش المستشيط غضبا. دنت جموع الفتيان، و لما صوبوا الحصى، لم يجبهم غير السكون؛ فأصروا على إيقاظ الدرويش النائم المتكور في ثيابه الرثة. أعادوا المحاولة؛ فانهمر الحصى من جديد على جسده، ولما لم تصدر منه أية حركة، سرت رعدة في أوصالهم، و أعادوا الكرة للمرة الثالثة، و لما لم يتحرك، ذهبت بهم الظنون إلى المنتهى، و وقع في خلدهم أن الرجل فارق الحياة؛ فاتجهوا صوب الجسد الهامد، عندئذ لطمتهم الدهشة؛ إذ وجدوا جلبابا رثا محشوا بالقش. و وجدوا عمامة محشوة بالورق، لكنهم لم يجدوا الدرويش نفسه. و نظر الفتيان إلى جوف الضريح؛ فأبصروا صندوق النذور مفتوحا و فارغا، أعادوا النظر؛ فأبصروا المقام عاريا منزوع الزينة. لقد سرق أحدهم كل شيء: المباخر الفضية, و مسابح الجدران، و قناديل السقف، حتى ستر الستان الأخضر، لم يسلم من يد السارق الآثمة. انسل الفتيان، و عادوا إلى النجع بأغنامهم، و راحوا يقصون الخبر على الأهالي الذين صدموا، و باتوا غير مصدقين أن يتحول الشيخ صديق في غمضة عين إلى متهم تحوم حوله الشكوك. و لكن سرعان ما ثبتت إدانته، عندما عاد رجال إلى النجع؛ فأخبروا الأهالي أنهم لمحوا رجلا أشعث في ثياب رثة يهيم على وجهه في الصحراء يجرجر جوالا منتفخا من الخيش. تفرق الناس، و عادوا إلى ديارهم بعد أن خيم الحزن على قلوبهم. مر نهار ونهار، وفي اليوم الثالث خرج الفتيان بمواعزهم ، ولما لجأوا في الظهيرة إلى ظل الضريح؛ ليتقوا شمس الهجير، صعقتهم رؤية الشيخ صديق وقد لزم الباب كما جرت العادة، و حينما تقدم الفتيان نحوه، قاصدين البطش به، تبسم ضاحكا، و أشار إلى الضريح الذي اكتسى من الداخل بحلل زاهية، و الذي تزين بقناديل صافية، ومباخر فضية لامعة، ومسابح كفلق الصبح، و قماش أخضر جديد. عندئذ هدأت ثائرة الفتيان، و نظر بعضهم إلى بعض، ثم سلطوا أعينهم على صندوق النذور الذي أحكم إغلاقه مرة أخرى؛ فنهض الدرويش في صمت، و فتح الأقفال الصدئة بمفاتيح أخرجها من بين طيات ثيابه، و أزاح الغطاء الحديدي بتؤدة؛ فاندهش الفتيان من جديد؛ إذ أبصروا الصندوق ممتلئا بأوراق العملة المتغضنة.