يحكون في بلادي عن رجل يدعى "منتصر"، أخبروني عنه عندما كان هنا، ثم قالوا إنه ذهب إلى هناك، وقالوا احك عنه من الذاكرة. ولم يسبق لي أن رأيته. قلت كيف أحكي عنه ولم أره. قالوا احك عن بقاياه، عن ما لم يذهب إلى هناك. وعندما سألت عن الذي لم يذهب إلى هناك، ولوني ظهورهم ومضوا. وعندما التفت أبصرت علم فلسطين، ورأيت عمر يبكي والزقاق يزداد ضيقا وعمر يصرخ أنه مسوم القطاف. لم يبك عمر يوما هكذا. عندما سلخ الكرباج جلد قدميه السميك تأوه ولم يبك. وعندما رفع الشرشف عن جثة والده حدق في السماء ولم يبك. وعندما طردوه من العمل قال ضاحكا أنه سيبيع النعناع في بلاد الله الواسعة. وبعد شهر علمنا أنه رفع دعوة على الجهة المعنية، وعجبنا لجرأة عمر. وقلنا هذه بداية طيبة، وبدأنا نفخر بمصاحبته، ونسعد بضحكته المجلجلة في مدخل الزقاق، ونتحلق حوله لسماع حكاياته وطرفه. وكان عمر يضحك حتى تدمع عيناه وهو يحكي عن الحارس البدين الذي تزحلق في ثقب المرحاض، وعن السجين الذي ادعى أن الملائكة خصته بمهنة قلع الأضراس ففتح أفواه الحراس وعاث فيها فسادا. وكان عمر يحكي ونحن نضحك كأننا نشرح جثة المخزن ونكشف عوراتها المثيرة. وكان عمر مسكونا بالحكايا، غير أنه لم يخبرنا عن "منتصر" ولم نكن نعرف أن له صديقا بهذا الاسم النادر وأنه ينتحي زاوية من ذاكرته المتعبة،وعندما حدث الذي حدث، أدركنا لماذا كان عمر كلما ضحك تدمع عيناه بذلك الشكل الغريب. أخبروني عند عندما كان هنا، ثم قالوا إنه ذهب إلى هناك. وعندما هممت بتين السبيل السالك إلى هناك رأيتهم، ورأيت النعش يتقدم فوق أكتافهم، وعلم فلسطين يتقدم وعمر ينتحب وتلك المرأة تتصدر الموكب ولا تبكي، تنظر في ذهول إلى ذلك "الهناك" الغامض الذي أكل ابنها وتتعثر. وعمر يقفز لإسنادها. "لا وقت للسقوط يا خالة" والخالة لا تبكي. تمسك بيدها طرف العلم الذي يدثر النعش وتشخص بنظراتها إلى الأفق وتتعثر، والنشيد يرتفع، من كل الحناجر يرتفع: "هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، في ليلة لا.." وحبيبته تختنق بالبكاء. والخالة تبحلق في الأفق وتتعثر والحناجر ترتفع بالنشيد والنعش يهتز، والزقاق يزداد ضيقا وتزداد العيون اتساعا. والأفق ينتحي زاوية من الآتي البعيد ويتأبط العلم والعرس والنعش المسافر.
وأحاول أن أرسم في رأسي صورة لهذا "المنتصر" الراحل. قالوا إنه كان جميلا وحالما، ومن أجل ذلك خافوه. وقالوا إنه كان يحلم بوطن زاحف بأقدام طبيعة واهمة ومن أجل ذلك تهيبوه. وقالوا إنه كان يكتب القصائد ويحب امرأته الصغيرة ومن أجل ذلك طردوه. ثم أضافوا أنه عندما كان صغيرا رأى عسكر الاحتلال غادر. وعندما سار في الأزقة اكتشف أن النار ما تزال تضرم في جثت البسطاء من أهله وجيرته، فكبر السؤال وكبر معه "المنصر" وأدرك أن المحتل يتحرك بجزمة ابن البلد، وابن البلد يتحرك بعملة المحتل. وغضب "منتصر"، ومن أجل ذلك أخذوه. وعندما بدأ لحمه يتفتت بفعل البرودة أضرب عن الكلام. وعندما أخرجوه عاد إلى حيه القديم وأوراقه ورفاقه. ثم عادوا. كانوا هذه المرة أكثر فظاظة. أجفلت أمه وقالت إنه غادر، فأعلنوا أنهم جياع وأنهم سيأكلونها إن لم يجدوه. أصرت إنه غادر. قالوا لنبحث عنه في الدفاتر والمحبرة. مزقوا الشراشف والوسادات وسحبوا قطن الفراش وفتشوه خيطا خيطا، ثم ثقبوا الجدار وبحثوا ما بين الطوب والرمل، وعندما لم يعثروا عليه أطبقوا على عنق أمه، وتوعدوها أن يأكلوها إن لم يجدوه، ثم غادروا.
ولم يعد منتصر، وارتجفت أمه عندما تصورته بين أسنانهم. وظلت ترتجف حتى جاء عمر يحمل أنباءه. وظل عمر يختلف إلى البيت حاملا أخباره إلى أن أمسكت أمه بطرف العلم الذي يدثر النعش.
ولم يعد "منتصر". تسلل من غفلتهم وسافر. هكذا قال عمر. وعندما ولولت أمه همس عمر "ليس هكذا يا خالة. هذه المدينة الهشة قد تخونه، هناك سينخرط في بحر من الناس. ادع له في صلواتك ولا تقلقي.." وانتحبت أمه بمرارة، وضمها عمر بحنو وهمس "سيأتي يوم قريب جدا تفهمين فيه كل شيء وتسعدين كثيرا.. ادعي له الآن ولا تقلقي.." ولم تقتنع أمه. وظلت تنتحب إلى أن جاء يوم توقفت فيه عن البكاء وبدأت تتعثر..
ولم يعد "المنتصر". قبل جبينها في تلك الليلة الباردة وجمع أوراقه على عجل وانصرف وعندما ركضت خلفه، أخبرها أنه يشم رائحتهم وأن عليه أن يبتعد. سألته متى يعود، فقال عندما يلفظ هواء الحي رائحتهم. وانتظرته، وانتظرت أن يلفظ الحي رائحتهم. وظل الهواء حامضا. وغاص المنتصر في جوف المدينة الكبيرة، وشق الجدار ليختبئ ثم شق هويته ليخرج باسم جديد وبشارب كث تحت الأنف الصغيرة. وهناك تعلم صنع الفطائر و"الحريرة" وانتحى زاوية وبدأ يبيع العابرين قطع الرغيف المحلي وأقداح الحريرة المالحة. ومكث على تلك الحال عدة سنوات. هكذا قال لنا عمر. ثم أحب امرأة فتحت قلبها لجراحه. قال لها سأشج هذه المفازة وأقبض على النبع المصادر، قالت فلنشجها معا ولنرتو ما طاب لنا.
وكانت تحضن جراحه بحنان يليق بامرأة من تلك المدينة. وفي مساء يشبه كل المساءات، قبلها على عجل وانزلق من الزقاق الآهل إلى الشارع الرئيسي ثم اختف. قال إنه سيعود حالما ينتهي اللقاء. ولم يعد. جاؤوا هذه المرة بلا رائحة وأخذوه. خرجوا من جلد المدينة وشقوا جلده. ولم يعد "منتصر". تربصوا به في تلك الساعات المتأخرة من الليل وتأملوه يقترب. كانت أعمدة الضوء متواطئة وكان الهواء غير عابئ برائحة الغدر في عيونهم. وكان "منتصر" وحيدا يغذ السير باتجاه مصيره المجهول. وعندما صار قبالتهم انقضوا عليه، وعندما حاول المقاومة شقوا عينه اليسرى، ثم وضعوه في سيارة كبيرة وذهبوا به إلى جوف الليل. وهناك لا نعرف ما حدث. يقول عمر بلى نعرف، نعرف أنه مات. لكننا نعرف فقط أنه مات، هناك في جوف الليل، قبل أن تخرج من بين أسناه ومن مسام جلده. نعرف فقط أنه لن يعود. ولذلك تعثرت أمه وذهلت حبيبته وبكى عمر وغنى رفاقه وتقدم النعش فوق المناكب المتشابكة مدثرا بعلم فلسطين وغنينا له ولفلسطين.. وواريناه التراب.. ثم نسيناه.
7 غشت 1987
وأحاول أن أرسم في رأسي صورة لهذا "المنتصر" الراحل. قالوا إنه كان جميلا وحالما، ومن أجل ذلك خافوه. وقالوا إنه كان يحلم بوطن زاحف بأقدام طبيعة واهمة ومن أجل ذلك تهيبوه. وقالوا إنه كان يكتب القصائد ويحب امرأته الصغيرة ومن أجل ذلك طردوه. ثم أضافوا أنه عندما كان صغيرا رأى عسكر الاحتلال غادر. وعندما سار في الأزقة اكتشف أن النار ما تزال تضرم في جثت البسطاء من أهله وجيرته، فكبر السؤال وكبر معه "المنصر" وأدرك أن المحتل يتحرك بجزمة ابن البلد، وابن البلد يتحرك بعملة المحتل. وغضب "منتصر"، ومن أجل ذلك أخذوه. وعندما بدأ لحمه يتفتت بفعل البرودة أضرب عن الكلام. وعندما أخرجوه عاد إلى حيه القديم وأوراقه ورفاقه. ثم عادوا. كانوا هذه المرة أكثر فظاظة. أجفلت أمه وقالت إنه غادر، فأعلنوا أنهم جياع وأنهم سيأكلونها إن لم يجدوه. أصرت إنه غادر. قالوا لنبحث عنه في الدفاتر والمحبرة. مزقوا الشراشف والوسادات وسحبوا قطن الفراش وفتشوه خيطا خيطا، ثم ثقبوا الجدار وبحثوا ما بين الطوب والرمل، وعندما لم يعثروا عليه أطبقوا على عنق أمه، وتوعدوها أن يأكلوها إن لم يجدوه، ثم غادروا.
ولم يعد منتصر، وارتجفت أمه عندما تصورته بين أسنانهم. وظلت ترتجف حتى جاء عمر يحمل أنباءه. وظل عمر يختلف إلى البيت حاملا أخباره إلى أن أمسكت أمه بطرف العلم الذي يدثر النعش.
ولم يعد "منتصر". تسلل من غفلتهم وسافر. هكذا قال عمر. وعندما ولولت أمه همس عمر "ليس هكذا يا خالة. هذه المدينة الهشة قد تخونه، هناك سينخرط في بحر من الناس. ادع له في صلواتك ولا تقلقي.." وانتحبت أمه بمرارة، وضمها عمر بحنو وهمس "سيأتي يوم قريب جدا تفهمين فيه كل شيء وتسعدين كثيرا.. ادعي له الآن ولا تقلقي.." ولم تقتنع أمه. وظلت تنتحب إلى أن جاء يوم توقفت فيه عن البكاء وبدأت تتعثر..
ولم يعد "المنتصر". قبل جبينها في تلك الليلة الباردة وجمع أوراقه على عجل وانصرف وعندما ركضت خلفه، أخبرها أنه يشم رائحتهم وأن عليه أن يبتعد. سألته متى يعود، فقال عندما يلفظ هواء الحي رائحتهم. وانتظرته، وانتظرت أن يلفظ الحي رائحتهم. وظل الهواء حامضا. وغاص المنتصر في جوف المدينة الكبيرة، وشق الجدار ليختبئ ثم شق هويته ليخرج باسم جديد وبشارب كث تحت الأنف الصغيرة. وهناك تعلم صنع الفطائر و"الحريرة" وانتحى زاوية وبدأ يبيع العابرين قطع الرغيف المحلي وأقداح الحريرة المالحة. ومكث على تلك الحال عدة سنوات. هكذا قال لنا عمر. ثم أحب امرأة فتحت قلبها لجراحه. قال لها سأشج هذه المفازة وأقبض على النبع المصادر، قالت فلنشجها معا ولنرتو ما طاب لنا.
وكانت تحضن جراحه بحنان يليق بامرأة من تلك المدينة. وفي مساء يشبه كل المساءات، قبلها على عجل وانزلق من الزقاق الآهل إلى الشارع الرئيسي ثم اختف. قال إنه سيعود حالما ينتهي اللقاء. ولم يعد. جاؤوا هذه المرة بلا رائحة وأخذوه. خرجوا من جلد المدينة وشقوا جلده. ولم يعد "منتصر". تربصوا به في تلك الساعات المتأخرة من الليل وتأملوه يقترب. كانت أعمدة الضوء متواطئة وكان الهواء غير عابئ برائحة الغدر في عيونهم. وكان "منتصر" وحيدا يغذ السير باتجاه مصيره المجهول. وعندما صار قبالتهم انقضوا عليه، وعندما حاول المقاومة شقوا عينه اليسرى، ثم وضعوه في سيارة كبيرة وذهبوا به إلى جوف الليل. وهناك لا نعرف ما حدث. يقول عمر بلى نعرف، نعرف أنه مات. لكننا نعرف فقط أنه مات، هناك في جوف الليل، قبل أن تخرج من بين أسناه ومن مسام جلده. نعرف فقط أنه لن يعود. ولذلك تعثرت أمه وذهلت حبيبته وبكى عمر وغنى رفاقه وتقدم النعش فوق المناكب المتشابكة مدثرا بعلم فلسطين وغنينا له ولفلسطين.. وواريناه التراب.. ثم نسيناه.
7 غشت 1987