د. محمد عبدالله القواسمة - من وصايا الشعراء قبل الرحيل

قلق الموت ينشب في ذهن الإنسان منذ وعيه بهذا العالم، وينمو هذا القلق في مراحل العمر اللاحقة، ويصل إلى الأوج في مرحلة الشيخوخة، وتشتد وطأته عند الشعراء بوصفهم أكثر حساسية، وأشد تأثرًا من غيرهم بأحداث الزمن، وظواهر الكون. وفي أحيان كثيرة يتبلور لدى الشعراء قلق الموت عند اقتراب الرحيل؛ فيطلبون من أقاربهم وأحبابهم بأن ينقشوا وصاياهم على شواهد قبورهم.

قد تحمل هذه الوصايا فلسفة الشعراء في الحياة وسخريتهم منها، أو قد يبوحون فيها بسر من أسرارهم، أو يفصحون عن بعض نصائحهم بناء على تجاربهم وهم أحياء. أو ترد فيها بعض رسالاتهم التي أرادوا بثها بين الناس، أو إحدى أمنياتهم في استمرار تحقيق رغباتهم التي كانوا يُشبعونها في الحياة الدنيا.

تبرز من بين وصايا الشعراء قبل موتهم وصية شاعر المعرة أبي العلاء المعري (363- 449هـ) الذي تروي كتب التاريخ بأنه أوصى بأن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد

إنه يحتج في هذا البيت على مجيئه إلى الحياة، ويعد مجيئه جناية من أبيه.

لكن يوجد من يشكك في هذه الرواية، وينفي هذه الوصية. يقول الباحث صبحي الياسيني في مقالته في مجلة "الرسالة"(ع 588، 1944م) بعنوان "قبر أبي العلاء المعري" إن هذا البيت ليس على قبره ذي الكتابة الكوفية المشجرة، وليس على شاهد القبر غير جملة "هذا قبر أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان". وقد طمست الكلمات "هذا قبر أبي"، وكتب على الشاهد: "رحمة الله عليه". ويبدو إذا كان هذا صحيحًا أن رغبة أبي العلاء تحققت بأن يترك قبره، ولا يحتفظ به كما في وصيته:

لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي ريب المنون فلا فضيلة للجسد

وفي قوله:

إن التوابيت أجداث مكررة ... فجنب القوم سجنًا في التوابيت

ويواجهنا في التاريخ الشاعر الفيلسوف عمر الخيام (1048- 1131م) ‏بوصيته بأن يدفن في بستان واسع من الخضار حيث تتساقط الأزهار مرتين على قبره كل عام، وأن يصب على القبر دنان الخمر، ونرى هذه الوصية في شعره:

إن تواعدتم رفاقي لأنس وسعدتم بالغادة الهيفاء

وأدار الساقي كؤوس الحميا فاذكروني في شربها بالدعاء

إن تلاقيتم أخلاي يوما فأطيلوا ذكراي عند اللقاء

وإذا ما أتى لدى الشرب دوري فأريقوا كأسي على الغبراء

وهذه الوصية تشبه تلك التي أطلقها أبو محجن الثقفي الشاعر المخضرم، الذي عاش في الجاهلية والإسلام بأن يدفن بجوار شجرة كرمة لا في صحراء مجدبة؛ حتى تسري في عظامه الخمرة التي كان يعاقرها قبل أن يشارك في معركة القادسية. يقول في وصيته:

إذا مت فادفني الى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

ومن وصايا الشعراء وصية الأديب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران التي تُظهر رأيه بأنه لم يمت، بل هو حي يستطيع من يزور قبره أن يراه:

أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن

إلى جانبك،

فاغمض عينيك والتفت،

تراني أمامك..!!

أما الشاعر العراقي محمّد مهدى الجواهري فأوصى بأن يُكتب على قبره:

يا دجلة الخير،

حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني... يا دجلة الخير، يا أمّ البساتين

هكذا رأينا أن بعض الشعراء اعتقدوا بأن موتهم مؤقت، وبعضهم أدركوا بأنهم لم يموتوا، ولهذا تركوا وصايا لأحبابهم؛ ليكتبوها على شواهد قبورهم؛ لتؤكد حضورهم الأبدي. لكن الحقيقة التي نراها بأن الإنسان، أي إنسان أكان شاعرًا، أم زعيمًا، أم إنسانًا عاديًا مهزوم في النهاية في معركة الحياة، وأن ما ينتجه في حياته أو ما يوصيه قبل رحيله ما هو إلا تسرية له مما سينتهي إليه. ولكن تظل النصوص الأدبية أيان وجدت حاضرة لا تغيب، إنها عابرة للزمن، وأقوى من الجسد الذي يفنى.

في النهاية يحسن الإشارة إلى أن وصايا كثيرة لغير الشعراء من فلاسفة، وسياسيين، وعلماء، وقادة، وفنانين ظهرت على شواهد القبور، بعضها تطفح بالحكمة، وأخرى بالسخرية والفكاهة، يستطيع القارئ أن يجدها في كتاب الباحث عبد الرحمن بكر الذي جد في البحث عما كتب على شواهد القبور، وجمعها في كتابه الممتع "طرائف على شواهد القبور" 2021


د. محمد عبدالله القواسمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى