أسماء محمد مصطفى - الأمهات لا يمتنَ أبداً

ضجّ البيت والسرير بنحيب الطفلة التي كان عليها أن تنام للمرة الأولى في حياتها من غير أن يكون صوت أمها آخر ماتسمعه، وهي تبتسم لها وكفها الناعم يلامس خدها الطري كما تفعل عادة.
في تلك الليلة، قفزت من سريرها نحو صورة معلقة على الحائط، تجمع بينها وبين أمها.. ما أن حدقت فيها حتى تحلق حولها خيال وجه أمها كما شاهدته صباحاً على سرير في مستشفى الطوارئ، متأثرة بحروق السيارة المفخخة التي اخترقت سلام السوق. شعرت الطفلة بأنّ أمها كذبت عليها يوم قالت لها، إن الأمهات لا يمتنَ أبداً.
قالت لها ذلك، يوم ذعرت الطفلة من ارتداد أبواب البيت وشبابيكه بعصف انفجار مدو ٍ تسبب في ارتفاع دخان كبير حجب ضوء النهار بعض الوقت. فكومت نفسها في حضن أمها، وهي ترتعش متسائلة هل سأموت؟
سحبتها الأم الى صدرها، قائلة لها اطمئني.. الموت لا يزور الملائكة.
ـ ولكن ياماما، انظري الى السماء، صارت مظلمة . هل ماتت الشمس؟
ـ لا، انظري ثانية، هاهو الظلام يختفي، لتظهر الشمس مرة أخرى.
ـ كنت أظن أن الانفجار قتل الشمس.
ـ الشمس لاتموت.
ـ لكنني أخاف عليك أن تموتي حين تخرجين الى السوق او العمل. وأردفت تقول، أرجوك ماما لا تكبري وتصيري عجوزاً، وتموتي!
طمأنتها الأم مؤكدة لها أنّ الموت يخشى الأمهات، وأنها لن تشيخ، لتظل معها الى الأبد.
قالت الطفلة، وهي تضحك باطمئنان: إذن، أنت ِ كالشمس ياماما.
أنهال على ذاكرة الطفلة حديث ذلك اليوم، وهي تمرر أصابعها على وجه أمها وتلمس الجلد المتأثر والمتجعد بفعل الحرق، على الرغم من محاولة أبيها إبعادها عنها، وهو يظهر علامات التأسف، لأنه رضخ لإلحاح ابنته ليصحبها الى المستشفى، بل إنها ركضت وراءه نحو السوق بعد حدوث الانفجار، وهو يعلم أنّ المكان وحال زوجته لايناسبان طفلاً.
نظرت الطفلة الى وجه أمها، وحاولت أن تلمسه لولا أنّ أباها منعها قائلاً لها إن كل شيء سيكون بخير. نظرت الطفلة اليه بحنق، مشككة.. ألا تكفي كذبة واحدة؟!
قربت أصابعها من إحدى عيني أمها، وحاولت فتحها، بينما الأب يحاول منعها، وصوت الممرضة ينهيها عن فعل ذلك.
تهيأ لها بأنّ الأم تريد الاعتذار لها عن كذبتها، لكن الاعتذار لن يشفي خيبة طفلة بانتصار هاجس موت أمها وشيخوختها المبكرة على حلم بقائهما معاً.
دفع الخوف بالطفلة الى الصراخ بوجه أمها، بهستيرية حتى فقد جسدها توازنه تماماً، فسقطت مسجاة على الأرض.
حين فتحت الطفلة عينيها مجدداً، كانت مستلقية على سريرها في البيت، فعاودت البكاء والصراخ حتى أعياها التعب.
في تلك الليلة، وبينما كان وجه الأم المتأثر بالحروق يستمر في تحليقه حول خيال الطفلة، بقيت تتمعن الوجه الذي أشع جمالاً وشباباً في الصورة، حتى إذا مابدأ النعاس والإجهاد يغلبان عيني الطفلة المتورمتين سحبت قدميها بتثاقل الى سريرها، واستلقت. عادت لتنظر الى الصورة بين رمشة وأخرى..
ابتسم لها وجه الأم عبر الصورة، وفي لحظة خاطفة تركت الأم مكانها في الصورة، وجلست على حافة السرير، ووجهها مازال يبتسم ويومئ للطفلة بالحب، وأصابعها تداعب خصلات شعرها الى أن تستسلم للنوم، حتى إذا ماغرقت الطفلة في نوم عميق، عادت الأم الى مكانها في الصورة.
في الصباح، حين فتحت الطفلة عينيها وجهت نظراتها الى الصورة، فوجدت خيوط الشمس، بعد انحدارها الى الغرفة، تلمع على وجه الأم، النضر والمبتسم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى