د. سيد شعبان - حذاء من باتا!

أغلق على نفسه باب الحجرة، ارتخى جسده على السرير؛ أخذ يستعيد أربعين عاما مضت، كل التفاصيل الدقيقة ما تزال عالقة بذاكرته، ما أصعب أن تبقى منها نتوءات لا تغادر، يوم لا يستطيع نسيانه، شاخص أمامه، في ساعة من ذلك اليوم والبلاد تفور مثل قدرة الفول.
حتى إذا سكن الليل، تلفت في كل جهة؛ ألا يراه واحد من خلق الله، تحركت قدماه صوب بيت في طرف القرية، يقال إن به أسرارا وحكايات، المرة الأولى التى يجرب هذه الخطوات؛ يدق قلبه، يعلو تنفسه، ود لو أنه ذهب إلى مكان آخر، غير هذا البيت سيء السمعة؛ هكذ قالوا على سكانه؛ وما كانوا إلا امرأة وبنتها؛ تعيشان كدا؛ في كفرنا الذابل جراء القهر والفقر يقتات المهمشون حكايات بعضهم، يتسلون بالخوض في أدق التفاصيل؛ رموهما بكل التهم، نسجوا حولهما ألوانا من الكلام؛ جمالها الذي يشبه خد القمر؛ امرأة فقيرة تغلق بابها، يزورها في منتصف الليل أهل الهوى؛ معاذ الله ما شهدنا إلا بما رأينا.
تسامع أهل العزب المجاورة بتلك المرأة التي تشبه اللغز؛ من قائل إنها من الجن الذين يدبون بالليل، يسرحون في أعطاف الظلام.
وآخر يقسم إنها: من الصعيد الجواني حيث يختفي وراءها سر كبير.
مثلت له الأوهام حلما شهيا؛ يعانق الفتاة، أو يمسك يدها، يكتب لها كلمات جميلة؛ لا !
دارت كل تلك الخواطر في ذهنه؛ الولع بالغرابة؛ ومن الجنون أن يحاول الصغار المشي في طريق لا تعرف نهايته، اقترب من شاطيء ترعة تسكن عندها المرأة؛ بدأ ينتابه الخوف، صوت يضرب في الماء، حديث بلغة لا يفهمها، قطة تعترض طريقه، حمار يتمرغ تحت شجرة الكافور العملاقة، امرأة تمشط شعرها تحت ضوء القمر، تضرب أعواد الذرة بعضها، يعوي ذئب الناحية الأغبر؛ تنبح الكلاب وتجري وراء ديك الكوم الأحمر، يظهر شبح رجل كان يسكن هذا البيت منذ سنوات؛ سمع بقصته، منفي من بلده، يوم أن جاء ربيع مقهورا، يطلق رجله للريح، ينطلق مسرعا؛ يصطدم بجدار كان مهجورا في جنب التلة المهجورة.
في الليل يمثل الخيال شخوصا تتحرك، تلبس الأشجار ثياب النساء، ظن نفسه مجنونا؛ تراقص الأغصان يشعره بأنها كائنات من لحم ودم.
تخلص من أوراقه وكتبه، كره ذاته الفارغة؛ يريد أن يركب الحمار، يشرب ماء من فم الترعة؛ ينخلع من روتين الحياة الممل، يخرج ويدخل دون أن يراقبه أحد، في المدينة يحصون عليك الأنفاس كاميرات المراقبة تترصد حركات العيون.
تبدو المدينة سجنا كبيرا تحوطه علب الصفيح؛ تمثل سياجا كريها، حين جاء القاهرة مطلع التسعينيات وجدها تخرج من عباءة الزمن، البيوت القديمة تشير إلى قوم سكنوا هنا، شبرا تخرج غافية، موقف "أحمد حلمي" يعج بالباعة، حافلات النقل العام في طاحونة بشرية؛ رائحة المراحيض العمومية تزكم الأنوف، يقف تمثال رمسيس في كبر، يمر من باب الحديد؛ إلى أين؟
لا يدري.
وجهته الجامعة العتيقة؛ ينظر إلى زملائه؛ وحده يتنعل حذاء من " باتا" الكلية الحلم؛ لكنه في متاهة؛ تدب في الزمان أصوات الغضب المكتوم منذ أعوام، ينتمون إلى عالم الثراء، أنى يشبع في مدينة بلا قلب؟
هل تحرك جهة البيت المخفي بدافع الهروب؟ أم هي حالة موت متعمد؟
يود لو أنه لم ير تلك الأمكنة؛ صراع يدور داخله؛ حالة ترقب أشبه بمن ينتظر جنينا في رحم الغيب؛ تعلو الهتافات، يتقاطر الجميع صوب الميدان، البنت على وشك أن تضع مولودها. تتحرك أسراب اليمام؛ حلم سكن قلوبهم؛ مثل كرة الثلج تقاطر جمعهم، كلما مشت ازداد حجمها، لم يكن لهذا السرب إلا وجهة واحدة.
هبة من عزمات القدر؛ إنها الأيام التي اغتسلت فيها المحروسة من الدرن، ازينت البنت، ولدت فتى أشبه بفارس يركب حصانا لونه أبيض، تعلوه غرة جميلة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى