للموت رائحة غاز خامل، تسللت إلى رئاتهم ببطء. بينما راحت أعينهم المشدوهة تتفحص الجثة الغارقة في الدم، و التي تمددت بلا حراك على قطعة من حصير مهترئ. قبل وصولهم بدقائق، تعالى صراخها؛ فكان أولئك الخمسة، هم أول من تنبهوا إلى صرخاتها، التي شقت سكون الليل، حيث كانوا عائدين من سفر طويل إلى النجع، في هذه الساعة المتأخرة من الليل. حملق الرجال الخمسة إلى الظلام الكثيف، و التهمت أعينهم العتمة؛ فأبصروا شبحا يخرج من دار الأرملة القتيلة، الشبح ركض مثل سهم مارق، و سرعان ما اختفى بين طيات الظلام. جثا أحد الرجال على ركبتيه، و أمسك بمعصم الأرملة، و قرب أذنيه من صدرها؛ فاكتشف أن قلبها قد توقف تماما عن النبض. ثمة شلال من الدم اندفع من عنقها، و من قلب الجرح الغائر، أطل الموت برأسه، فبدا وجهه وجه عجوز، شديد الشحوب، سلب الحمرة من خدي الأرملة الحسناء، و سرعان ما صبغ وجهها بشيء من روحه الكئيبة الساكنة؛ فصار وجهها أصفر كالليمون.
(٢)
كان مرورها بين طرقات النجع سببا كافيا لإشعال الحرائق؛ فقد كانت الأرملة جمرة مشتعلة بالفعل، طالما لفح حرها وجوه الناظرين إليها. و كمن علمت أنها مشعلة النار، أسرفت الأرملة في دلالها، و أعطت الإذن لمفاتنها كيما تهتز بإيقاع منتظم، فراح الشباب و الكهول يغرسون سهام مقلهم في لحمها اللدن، حتى الشياب الذين عكفوا على ( سيجتهم) تحت أشجار التين، لم يسلموا من فتنتها؛ فكلما وقعت أعينهم عليها، انتبهت أسود الوشم المنقوشة على ظاهر أيديهم من نومها الطويل، و راحت تزأر، و تقرض أنيابها، و عجزت تلك الأسود الهرمة عن مغالبة اللعاب، الذي يسيل بغزارة من أفواهها، ذلك اللعاب، الذي عادة ما يذكر أولئك الشياب و تلك الأسود بالجوع القديم.
الأرملة تقصد من وقت إلى آخر دكان البقال؛ فتشتري حوائجها، و تعود سريعا إلى دارها المعزولة، و التي يفصل بينها و بين سائر ديار النجع حقول الشعير، الأمر، الذي جعلها تعيش في عزلة تامة. لم ترزق الأرملة أيا من الأولاد، و لما صارت وحيدة بلا زوج، لهث وراءها الطائش، و راودها عن نفسها الفاجر، و طلبها للزواج القادر، لكنها تمنعت عن الجميع، و تمادت في النفور و الصدود؛ فصارت لغزا حير الأهالي، الذين وصفوها في أحاديثهم الجانبية، بأنها غزالة عصية تمتع الناظر إليها مادام بعيدا عنها، لكنه إذا ما حاول الاقتراب منها، أحرقته نيران غامضة، خمن البعض أنها نيران جني، سكن جسدها بعد موت زوجها المفاجئ.
(٣)
على وقع صياح الرجال الخمسة، خرج أهالي النجع من ديارهم في لمح البصر، رغم برودة الجو، و تلبد السماء بالغيوم، التي وشت بهطول مطر وشيك. أسرع الأهالي صوب مصدر الصوت كأسراب الجراد. و من فرط سرعتهم، لم ينتبهوا إلى عيدان الشعير الخضراء، التي دهستها نعالهم. و لما تجمعوا داخل الدار و حولها، قص عليهم الرجال الخمسة خبر ما رأوا؛ فأشعل الأهالي مشاعلهم، و راحوا يمشطون المكان؛ فقادتهم آثار الأقدام إلى المقابر. و ما إن جاسوا خلالها، حتى هطلت الأمطار بغزارة؛ فأطفأت المشاعل، و ساد الظلام، و انقبضت القلوب، و سرت القشعريرة في الأبدان، و هم الأهالي بالعودة من حيث أتوا، و لكن المفاجأة كانت صارخة، هوت بأصابعها الغليظة على الوجوه. فرك الأهالي عيونهم على إثرها، و راحوا يحدقون في دوائر الضوء الأزرق الخافت، التي ظهرت أمامهم للتو؛ فاقتربوا رويدا رويدا، رغم ما بهم من رعب؛ فارتجفت أبدانهم، و انتصب شعر رءوسهم كأسنة الشوك، و كادت الدماء تتجمد في عروقهم؛ إذ أبصروا جماعات من رجال، جلسوا في حلقات تحوطها أضواء زرقاء خافتة، كان هؤلاء الرجال يثرثرون، كما لو كانوا بشرا على قيد الحياة. و كانت الأكفان البيضاء تستر أجسادهم بالكامل؛ فيما عدا رءوسهم، التي أخرجوها خارج الأقمشة البالية. و ما إن استفاق الأهالي من ذهولهم، حتى أسلموا سيقانهم للريح، و راحوا يركضون بأقصى سرعة، لائذين بالفرار؛ فلم ينتبه أي منهم إلى زوج الأرملة الراحل الذي استتر خلف قبره، و الذي قبضت يمينه على سكين، لم يجف الدم عليه بعد. و لما خلا المكان تماما من الغرباء؛ نهض الموتى، الذين اعتادوا الخروج من قبورهم ليلا للسمر، و راحوا يجرجرون أذيال أكفانهم، و تقدموا نحو الزوج المبتهج، و راحوا يعانقونه، مهنئين، بعد أن ثأر أخيرا من أرملته التي ذبحته منذ سنوات مضت، بمعاونة عشيق، طالما اجتمع بها في الخفاء.
كرم الصباغ – مصر
(٢)
كان مرورها بين طرقات النجع سببا كافيا لإشعال الحرائق؛ فقد كانت الأرملة جمرة مشتعلة بالفعل، طالما لفح حرها وجوه الناظرين إليها. و كمن علمت أنها مشعلة النار، أسرفت الأرملة في دلالها، و أعطت الإذن لمفاتنها كيما تهتز بإيقاع منتظم، فراح الشباب و الكهول يغرسون سهام مقلهم في لحمها اللدن، حتى الشياب الذين عكفوا على ( سيجتهم) تحت أشجار التين، لم يسلموا من فتنتها؛ فكلما وقعت أعينهم عليها، انتبهت أسود الوشم المنقوشة على ظاهر أيديهم من نومها الطويل، و راحت تزأر، و تقرض أنيابها، و عجزت تلك الأسود الهرمة عن مغالبة اللعاب، الذي يسيل بغزارة من أفواهها، ذلك اللعاب، الذي عادة ما يذكر أولئك الشياب و تلك الأسود بالجوع القديم.
الأرملة تقصد من وقت إلى آخر دكان البقال؛ فتشتري حوائجها، و تعود سريعا إلى دارها المعزولة، و التي يفصل بينها و بين سائر ديار النجع حقول الشعير، الأمر، الذي جعلها تعيش في عزلة تامة. لم ترزق الأرملة أيا من الأولاد، و لما صارت وحيدة بلا زوج، لهث وراءها الطائش، و راودها عن نفسها الفاجر، و طلبها للزواج القادر، لكنها تمنعت عن الجميع، و تمادت في النفور و الصدود؛ فصارت لغزا حير الأهالي، الذين وصفوها في أحاديثهم الجانبية، بأنها غزالة عصية تمتع الناظر إليها مادام بعيدا عنها، لكنه إذا ما حاول الاقتراب منها، أحرقته نيران غامضة، خمن البعض أنها نيران جني، سكن جسدها بعد موت زوجها المفاجئ.
(٣)
على وقع صياح الرجال الخمسة، خرج أهالي النجع من ديارهم في لمح البصر، رغم برودة الجو، و تلبد السماء بالغيوم، التي وشت بهطول مطر وشيك. أسرع الأهالي صوب مصدر الصوت كأسراب الجراد. و من فرط سرعتهم، لم ينتبهوا إلى عيدان الشعير الخضراء، التي دهستها نعالهم. و لما تجمعوا داخل الدار و حولها، قص عليهم الرجال الخمسة خبر ما رأوا؛ فأشعل الأهالي مشاعلهم، و راحوا يمشطون المكان؛ فقادتهم آثار الأقدام إلى المقابر. و ما إن جاسوا خلالها، حتى هطلت الأمطار بغزارة؛ فأطفأت المشاعل، و ساد الظلام، و انقبضت القلوب، و سرت القشعريرة في الأبدان، و هم الأهالي بالعودة من حيث أتوا، و لكن المفاجأة كانت صارخة، هوت بأصابعها الغليظة على الوجوه. فرك الأهالي عيونهم على إثرها، و راحوا يحدقون في دوائر الضوء الأزرق الخافت، التي ظهرت أمامهم للتو؛ فاقتربوا رويدا رويدا، رغم ما بهم من رعب؛ فارتجفت أبدانهم، و انتصب شعر رءوسهم كأسنة الشوك، و كادت الدماء تتجمد في عروقهم؛ إذ أبصروا جماعات من رجال، جلسوا في حلقات تحوطها أضواء زرقاء خافتة، كان هؤلاء الرجال يثرثرون، كما لو كانوا بشرا على قيد الحياة. و كانت الأكفان البيضاء تستر أجسادهم بالكامل؛ فيما عدا رءوسهم، التي أخرجوها خارج الأقمشة البالية. و ما إن استفاق الأهالي من ذهولهم، حتى أسلموا سيقانهم للريح، و راحوا يركضون بأقصى سرعة، لائذين بالفرار؛ فلم ينتبه أي منهم إلى زوج الأرملة الراحل الذي استتر خلف قبره، و الذي قبضت يمينه على سكين، لم يجف الدم عليه بعد. و لما خلا المكان تماما من الغرباء؛ نهض الموتى، الذين اعتادوا الخروج من قبورهم ليلا للسمر، و راحوا يجرجرون أذيال أكفانهم، و تقدموا نحو الزوج المبتهج، و راحوا يعانقونه، مهنئين، بعد أن ثأر أخيرا من أرملته التي ذبحته منذ سنوات مضت، بمعاونة عشيق، طالما اجتمع بها في الخفاء.
كرم الصباغ – مصر