* ننشر نماذج من بواكير القصة القصيرة لكبار القصاصين الرواد
***
جلس إلى وفي عينيه قالة تترقرق، وفي شفتيه بسمة تبدو وتغيب ومض البرق الخاطف، وعلى وجهه أسى من ظن الخير في غير مكانه. رأيت كل هذه التعبيرات على وجهه فكان يخيل إلي أنني أرى مقالة رمزية عن حرب طحون تعتمل بنفسه، فهششت له وهو الصديق الذي أصطفيه فأصفيه نفسي كلها. هششت فما زاد على أن ثبت من تلك البسمة الوامضة
على فمه فإذا وجهه كله مشرق بضحكة آسية. . . قلت:
- ماذا؟ لقد كنت على أحسن ما أرجو لك بالأمس
- لا شيء
- لاشيء؟ منذ متى تدخل هذه الكلمة في حديثنا. . . لا شيء! أغبي أنا لا أعرفك! أأسألك ماذا بك ولا يكون بك شيء. . . أم تراك تخفي أمرا؛ فإن كان كذلك فدعني أو ولي عنك الوجه فلست صديقك بعد اليوم. . . أترى سرى كله وتخفي عني ألمك. . . ماذا بك؟ انطلق.
سمع الرجل الحديث وهو مطرق إلا بضع لحظات حاول فيها أن يجيب ولكنه احترم دفعتي تلك فعاد إلى إطراقه حتى أتمته فإذا هو رافع إلى دمعتين صافيتين. . . يقول
- أشكرك على ثورتك فقد أرجعت لي نفسي
- وأين كانت؟
- تبحث عنك
- عني. . . حذار أن تكون الثورة قد طغت على عقلك. . تبحث عني تقول وأنا لا أكاد أرى أحدا قدر ما أراك. . . أجننت؟
- أنت تراني نعم ولكنني لا أراك أبدا
- لا تراني؟ لا. . . لا بد أن الثورة قد مست عقلك. . . حسبي الله ونعم الوكيل. . . أأنظر إليك من خص؟ كيف أراك فلا تراني؟ أنتكلم كل يوم وليس بيننا من البعد إلا بقدر هذا النضد. . . ثم أراك فلا تراني؟ أجننت رجل
- وأنا اليوم لم أراك إلا حينما ثرت - أنك اليوم أما مجنون لم تعلم به الهيئات المختصة بعد، أو حكيم عالمي لم يشرق أسمه قبل. فأيهما أنت؟ لا يمكن أن تكون رؤيتك لي محتاجة لكل هذه الثورة. أيهما أنت
- أنا صديقك
- أو يغنيك هذا عن أن تكون إما مجنونا أو حكيما. أتظن أن كونك صديقي يعفيك من. . .
- أراك تطيل الحديث، اسمع. . . لقد جئت اليوم مجلسك ورأيتك ولكنني جلست إليك أبحث عنك حتى ثرت هذه الثورة فوجدتك؛ كنت قد فقدتك وكنت مشتاقا إليك الشوق كله. حتى ثرت فندبت الشوق ونقمته. كنت إذا رأيتني في الأيام القليلة الماضية كلمتني بنفس غير خالصة وقلب غير مقبل؛ وكنت أحس في رنين صوتك شيئا غير الذي تنطق به فأكتم نفسي على حسرات، وفقدتك لقد عرفت عني أمرا فكتمته وسعيت وراءه تبحث عنه حتى تبين لك كذبه فكنت في فترة البحث تزور عني بنفسك وتقبل علي بلسانك، كنت تثور بي كما كنت تثور بل كنت هادئ القول ثائر النفس وقد عهدتك قبل ثائر القول هادئ النفس. . . ففقدتك. . . وفقدت معك نفسي وانطلقت مني تبحث في أيامنا الحلوة الماضية وترجع لي منها بصور شوهتها نفس فقدتك ولكنها مع هذا تحبك فهي تقبل على تلك الصورة في لهفة مشتاق يحن إلى هاته الأيام. . . واليوم ثرت بي. . . قد تبينت لك الوشاية فوجدتك. . . أرأيت إذن كيف فقدتك وليس بيننا إلا هذا النضد الذي تجلس إليه الآن؛ واليوم أجدك وإن ذهبت بك الأيام إلى أقاصي الأرض أرأيت أني؟ لم أكن حكيما لم يظهر قبل ولا مجنونا لم يحبس بعد. . . بل أنا أنا من تعرف.
- وأنا من تعرف. أبقاك الله لي صديقا حين يعز الصديق، وأبقى لي نفسك حلوة تشتاقني على قرب إذا مل قربي كل صديق، وتبحث في البعد عني إذا لم يحس ببعدي كل رفيق. . أبقاك الله.
ثروت أباظة
مجلة الرسالة - العدد 925
بتاريخ: 26 - 03 - 1951
***
جلس إلى وفي عينيه قالة تترقرق، وفي شفتيه بسمة تبدو وتغيب ومض البرق الخاطف، وعلى وجهه أسى من ظن الخير في غير مكانه. رأيت كل هذه التعبيرات على وجهه فكان يخيل إلي أنني أرى مقالة رمزية عن حرب طحون تعتمل بنفسه، فهششت له وهو الصديق الذي أصطفيه فأصفيه نفسي كلها. هششت فما زاد على أن ثبت من تلك البسمة الوامضة
على فمه فإذا وجهه كله مشرق بضحكة آسية. . . قلت:
- ماذا؟ لقد كنت على أحسن ما أرجو لك بالأمس
- لا شيء
- لاشيء؟ منذ متى تدخل هذه الكلمة في حديثنا. . . لا شيء! أغبي أنا لا أعرفك! أأسألك ماذا بك ولا يكون بك شيء. . . أم تراك تخفي أمرا؛ فإن كان كذلك فدعني أو ولي عنك الوجه فلست صديقك بعد اليوم. . . أترى سرى كله وتخفي عني ألمك. . . ماذا بك؟ انطلق.
سمع الرجل الحديث وهو مطرق إلا بضع لحظات حاول فيها أن يجيب ولكنه احترم دفعتي تلك فعاد إلى إطراقه حتى أتمته فإذا هو رافع إلى دمعتين صافيتين. . . يقول
- أشكرك على ثورتك فقد أرجعت لي نفسي
- وأين كانت؟
- تبحث عنك
- عني. . . حذار أن تكون الثورة قد طغت على عقلك. . تبحث عني تقول وأنا لا أكاد أرى أحدا قدر ما أراك. . . أجننت؟
- أنت تراني نعم ولكنني لا أراك أبدا
- لا تراني؟ لا. . . لا بد أن الثورة قد مست عقلك. . . حسبي الله ونعم الوكيل. . . أأنظر إليك من خص؟ كيف أراك فلا تراني؟ أنتكلم كل يوم وليس بيننا من البعد إلا بقدر هذا النضد. . . ثم أراك فلا تراني؟ أجننت رجل
- وأنا اليوم لم أراك إلا حينما ثرت - أنك اليوم أما مجنون لم تعلم به الهيئات المختصة بعد، أو حكيم عالمي لم يشرق أسمه قبل. فأيهما أنت؟ لا يمكن أن تكون رؤيتك لي محتاجة لكل هذه الثورة. أيهما أنت
- أنا صديقك
- أو يغنيك هذا عن أن تكون إما مجنونا أو حكيما. أتظن أن كونك صديقي يعفيك من. . .
- أراك تطيل الحديث، اسمع. . . لقد جئت اليوم مجلسك ورأيتك ولكنني جلست إليك أبحث عنك حتى ثرت هذه الثورة فوجدتك؛ كنت قد فقدتك وكنت مشتاقا إليك الشوق كله. حتى ثرت فندبت الشوق ونقمته. كنت إذا رأيتني في الأيام القليلة الماضية كلمتني بنفس غير خالصة وقلب غير مقبل؛ وكنت أحس في رنين صوتك شيئا غير الذي تنطق به فأكتم نفسي على حسرات، وفقدتك لقد عرفت عني أمرا فكتمته وسعيت وراءه تبحث عنه حتى تبين لك كذبه فكنت في فترة البحث تزور عني بنفسك وتقبل علي بلسانك، كنت تثور بي كما كنت تثور بل كنت هادئ القول ثائر النفس وقد عهدتك قبل ثائر القول هادئ النفس. . . ففقدتك. . . وفقدت معك نفسي وانطلقت مني تبحث في أيامنا الحلوة الماضية وترجع لي منها بصور شوهتها نفس فقدتك ولكنها مع هذا تحبك فهي تقبل على تلك الصورة في لهفة مشتاق يحن إلى هاته الأيام. . . واليوم ثرت بي. . . قد تبينت لك الوشاية فوجدتك. . . أرأيت إذن كيف فقدتك وليس بيننا إلا هذا النضد الذي تجلس إليه الآن؛ واليوم أجدك وإن ذهبت بك الأيام إلى أقاصي الأرض أرأيت أني؟ لم أكن حكيما لم يظهر قبل ولا مجنونا لم يحبس بعد. . . بل أنا أنا من تعرف.
- وأنا من تعرف. أبقاك الله لي صديقا حين يعز الصديق، وأبقى لي نفسك حلوة تشتاقني على قرب إذا مل قربي كل صديق، وتبحث في البعد عني إذا لم يحس ببعدي كل رفيق. . أبقاك الله.
ثروت أباظة
مجلة الرسالة - العدد 925
بتاريخ: 26 - 03 - 1951