مصطفى نصر - البروفـــــــة..

أرسله ناشره إلى المطبعة في شاع " السجينى" لكى يراجع بروفة كتابه, أشترى قلما جافا من مكتبة في شارع ابن الخطاب, فهو لا يضع أقلاما في سترته خشية أن يسيح الحبر فيها ويفسدها.
في كل مرة يذهب فيها لمراجعة بروفة كتاب؛ يشترى قلما رخيصا , ثم يرميه بعد المراجعة.سأل في شارع ابن الخطاب عن شارع " السجينى" , وصل إليه بصعوبة.
يعمل الدكتور أحمد أستاذا مساعدا للنقد الأدبى في كلية بالصعيد , يأتى منها كل أسبوعين, يقضى في الإسكندرية – مدينته – الخميس والجمعة, ويسافر في حوالى الثالثة بعد ظهر السبت.
عرض عليه بعض الناشرين في الصعيد طبع كتبه المقررة على الطلبة, فأعتذر لهم, لأنه يعمل مع ناشر في الإسكندرية من قبل أن يحصل على الدكتوراة ويعمل في الجامعة. فقد طبع – قبل حصوله على الدكتوراة – كتابان في القصة القصيرة وبعض الكتب الأخرى في الفكر الإسلامى.
تعرف أمه مواعد عودته من الصعيد, فتقف في الشرفة , تطل منها قبل الموعد بساعة تقريبا , ولا ترتاح إلا عندما تراه آتيا بقامته القصيرة وجسده النحيل حاملا حقيبته المنتفخة بملابسه المتسخة التى يأتى بها لتغسل , وبعض كتبه.
تعرف أمه أنه مريض بالقلب منذ صغره, وكثيرا ما نصحها الأطباء بالعناية به, وألا تعرضه للأعمال الشاقة التى قد تؤذى قلبه الضعيف, فجعله هذا منطويا على نفسه , خجولا, قليل الكلام.
تود أمه لو تسرع لتحمل عنه حقيبته هذه. وترسل – أحيانا – أخته الصغيرة لتحملها عنه وتصعد بها درجات السلم القليلة.
أعتاد الدكتور أحمد من ناشره أن يرسله إلى مطبعة في شارع " الأزرقى", صاحبها وعمالها يعرفونه ويعرفون عاداته. يعرف صاحب المطبعة أنه لا يحمل قلما معه خشية أن يسيح ويتلف ملابسه , فكان يخرج القلم من درج مكتبه, وعندما ينتهى من مراجعة بروفة كتابه؛ يعيده إليه. أول الأمر ضحك العمال من لثغته ومن خجله الواضح. كما أنه يبدو كخواجه بشعره الأصفر وعينيه الزرقاوين ووجهه المائل للاحمرار. لكن بعد ذلك صار صديقهم. يسألونه في الدين والفقه.
وعندما أخبره ناشره بأنه غيّر المطبعة وسوف يرسله إلى مطبعة أخرى في شارع " السجينى" حزن أحمد فقد أرتاح لصاحب وعمال مطبعة شارع الأزرقى.
أول ما دخل شارع السجينى - الذى أشار المارة إليه بعد أن سألهم - وجد مجموعة من الشباب يقفون بجوار الحائط, كلهم طوال كالعمالقة؛ تابعوه في إمعان وتحدثوا عنه فيما بينهم. وتابعهم هو الآخر في دهشة؛ فما الذى يجعلهم ينظرون إليه هكذا؟‍. كاد يتعثر في خطواته عندما سار وهو مازال ينظر إليهم؛ فزادهم هذا ريبة فيه.
سار أحدهم خلفه وتحسس مطواه في جيب بنطلونه الخلفى. توقف الدكتور فجأة وسأله عن مكان المطبعة, فارتبك الشاب قائلا:
- ماذا تريد من المطبعة؟
- سأراجع بروفة كتابى.
كانت المطبعة قريبة جدا من شارع العمرى. فأشار الشاب إليها من بعيد وعاد إلى أصحابه قائلا:
- إنه مرشد للبوليس, يتخذ من موضوع المطبعة حجة لمراقبتنا.
- والعمل؟
قال آخر في لا مبالاة:
- إنه رجل ضعيف ومرتبك ولا أظن البوليس يرسل رجلا بهذا الشكل.
قال الأول:
- إنه مناسب جدا للمراقبة.
يأتى إلى هؤلاء الشبان, الأغراب عن الحي لشراء " الحشيش" : بعض المدمنين, أو شباب ينوون قضاء سهرة خاصة, أو سيذهبون إلى حفل. لكن هؤلاء يأتون إليهم مباشرة, ويعلنون صراحة عما يريدون دون مواربة.
راجع الدكتور الصفحات التى طبعت من كتابه, ووعده صاحب المطبعة بأنه سيطبع الباقى في الغد. أكد الدكتور عليه, لأنه سيسافر يوم السبت, وليس أمامه سوى باكر الجمعة, وسار, ألقى القلم الجاف على كوم زبالة كبير قبل أن يصل إلى الشبان الذين نظروا إليه بإمعان, كانوا ينتظرونه. قال أحدهم:
- تفضل.
فرفع الدكتور يده شاكرا مبتسما سعيدا. اقتربوا منه , وصاح أحدهم:
- لابد أن تأتى لتشرب قهوتك معنا.
أحس بالسعادة, فالدنيا مازالت بخير. مجموعة من الشباب لا يعرفونه, ويلحون فى محاولة استضافته وإكرامه:
- آسف يا جماعة, لو جلست معكم ستقلق أمى.
أزداد اليقين عندهم على إنه مرشد للبوليس, فهو يتظاهر بالبلاهة. ما شأن أمه بما حدث؟‍‍!
- أسم الكريم؟
- دكتور أحمد.
سخروا من الموقف في داخلهم. مرة جاء ليطبع كتابا, ومرة دكتورا يكشف ويعالج المرضى, إنها لعبة مكشوفة.
- لا يمكن أن تذهب إلى أمك قبل أن تجلس معنا بعض الوقت.
ربت ظهر ذلك المتحدث قائلا:
- اطمئن, في الغد سنجلس كما تشاءون. أكيد لديكم أسئلة في الفقه.
تذكر حينذاك عمال مطبعة شارع الأزرقى الذين كانوا يسعدون لحضوره, ويتسابقون في الحديث معه. قال أحد الشباب:
- ستأتى في الغد أكيد؟
- صدقنى.
- بأية صفة هذه المرة. مؤلف كتب, أم دكتور , أم واعظ يتكلم في الدين؟‍‍‍!
- كما تريدوننى , سأكون.
وسار من بينهم سعيدا , ممتنا.
حدث أمه عنهم كثيرا, كيف أحاطوا به متبارين في تقديم العـــون لــه وإبداء الرغبة في إكرامه. قال لها:
- لم أقابل ناسا بمثل هذا الكرم. فهل رأيت في حينا هذا, من يلحون على الغريب السائر, بأن يأتى ليشرب شايا أو قهوة ؟!
وفكر في أن يحكى هذا لطلبته عندما يعود إلى الكلية يوم الأحد. فهو في يوم السبت ليست عنده محاضرات.
في الغد كان الأمر ميسورا. فقد عرف طريق المطبعة دون أن يسأل. أشترى من شارع ابن الخطاب القلم الجاف الذى سيراجع به البروفة ثم يرميه على كوم الزبالة هناك. ودخل شارع السجينى, لم يجد أصحابه فى أوله كما حدث بالأمس. بحث عنهم في منتصف الشارع, فوجد آخرين طوال مثلهم. تابعوه , ثم صاحوا:
- تفضل.
فلوح بيده شاكرا سعيدا. سبحان الله , كل من في الحي بهذا الكرم. أقترب أحدهم منه قائلا:
- تريد شيئا؟
- شكرا لك. فقد عرفت طريق المطبعة.
- لدينا صنف جيد, أصلى.
- أشكركم, عندما أنتهى من مراجعة بروفة الكتاب, سنتكلم في كل شئ , فقد أخبرت أمى بأننى سأتأخر قليلا.
نظر الشاب إلى من حوله مندهشا وتركوه يسير. أجلسه صاحب المطبعة أمامه. ودون أن يطلب, وجد القهوة المضبوط – كالتى شربها بالأمس – أمامه. قال:
- كلكم كرماء في هذا الحى. تعرفوا واجب الضيافة.
قال صاحب المطبعة:
- أننا أولاد بلد أصلاء.
أراد أن يحكى لصاحب المطبعة عما لاقاه بالأمس واليوم من محاولة تقديم الواجب وإكرام الضيوف, لكن أخطاء الورق المطبوع كانت كثيرة جدا فأنسته أن يتحدث في ذلك.
بعد أن أنتهى من المراجعة, وضع غطاء القلم في القلم, ووعد صاحب المطبعة بأنه سيأتى بعد أسبوعين إلى الإسكندرية, ويرجو أن يجد البروفة الثانية والنهائية للكتاب كله جاهزة.
وسار ممسكا بالقلم, ثم رماه – كالعادة – فوق كوم الزبالة الكبير هناك. كان الشبان الذين اعترضوه وهو ذاهب مازالوا في أماكنهم, يقفون بجوار حائط المدرسة هناك. يثنى أحدهم ساقه ويركن قدمه على سور المدرسة, تنبهوا عندما رأوه آتيا:
- أهلا بك.
- أنني ممتن لما تفعلوه معى.
أسرع أحدهم وجاء بمقعد من الدكان المواجه. أجلسوه , وذهبوا واحدا واحدا بالإتيان بالمقاعد جلسوا حوله.أحاطوه من كل جانب. جاء واحد ممن قابلهم الدكتور بالأمس. لم يكن مرتاحا لمجالستهم له. أراد أن ينبههم بأنه مرشد للبوليس. قال الدكتور:
- طوال ليلة أمس وأنا أفكر في أن أحكى لطلبتى عنكم.
صاح الذى قابله بالأمس:
- الموضوع زاد عن حده. مرة دكتور تعالج المرضى, ومرة مؤلف كتب, ومرة واعظ تتحدث في الدين. وها أنت الآن تدعى انك مدرس.
ضحك:
- أنا حقا دكتور في الجامعة. أدرس لطلبة كلية الآداب.
قال آخر من بعيد:
- ليس لنا في الآداب.
فقال رفيق الأمس معترضا ومنبها لهم:
- كله بوليس.
جاءت أكواب الشراب, وزجاجات المثلجات من الدكان المواجه. قال رفيق الأمس – الوحيد الذى ظل واقفا -:
- منذ متى وأنت تتعامل مع....... الآداب ؟
- حصلت على الدكتوراة عام......
قاطعه قائلا:
- واضح انك لست سهلا.
وقال آخر زاجرا ذلك الذى جاء ليفسد الجلسة:
- خلونا في موضوعنا. ما أنواع الحشيش التى نزلت السوق هذه الأيام؟
- حشيش, ماذا تقصدون؟
قال رفيق الأمس:
- واضح انك تعرف كل الأصناف. فالبوليس لا يختار إلا كل مجرب محنك.
أحس الدكتور بالقلق. حشيش وبوليس وكلمات غريبة تتكرر في هذا اللقاء. أيكونون تجارا للمخدرات؟‍ ! وقف فزعا:
- أرجوكم. أريد أن أمشى.
قال رفيق الأمس. ألم تخبر أمك بأنك ستتأخر؟!
- أخبرتها. لكنني لم أكن أعلم أنكم تتاجرون في الحشيش.
همس رفيق الأمس لأكبرهم:
- تظاهره بالارتباك والخوف دليل على أنه مرشد بوليس.
دفعه أكبرهم بكوعه قائلا في حدة:
- دعوكم من الخوف. كل واحد تظنونه مرشدا؟!
قبل أن يقوموا من أماكنهم جاءت سيارتا شرطة. واحدة من ناحية شارع راغب باشا, والأخرى من شارع العمرى, وتقابلا عندهم. أرتعش الدكتور أحمد. فهو لم ير الحشيش في حياته, حتى السجائر لا يطيقها, أطباء القلب يحذرونه دائما من الاقتراب من المدخنين.
دفعوهم في عنف إلى سيارتى الشرطة. ونال الدكتور صفعة قوية على قفاه؛ كادت توقعه على أرض الشارع.
ليلتها ظلت أمه ساهرة في الشرفة تسير من أولها إلى آخرها تبحث عنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى