توفيق بن حنيش - امرأة من حبر وورق.

رفع السّاحر قبّعته وأمرني أن أضع قبعتي جانبا. وقال لي: ماذا تريد أن أصنع لك هذا اليوم؟ وليمة ؟ أم أنزل عليك من السماء كساء أخضر وعمامة؟ أم تريد...

قاطعته قائلا: امرأة على مقاسي...

نظر إليّ بكثير من التعجّب والحيرة. ودار حول نفسه دورة وهو يردّد : " امرأة... امرأة...". ثمّ قال لي بعد أن ابتسم للجمهور الذي كان منشغلا في أحاديث جانبية كانت تشعلها النساء في القاعة ولا يحترق بها إلاّ الرجال.

قال لي وهو يفرك لحيته بأصابعه: امرأة من لحم ودم؟

حرّكت رأسي بالإيجاب. وهممت بأن أشرح له الأمر. ولكنّه رجاني أن أكفّ.

قال متبرّما: امرأة من لحم ودم؟؟يا له من طلب .

ولكنّه ما لبث أن واجه الجمهور وقد عدّل من قبّعته وأمسك عصاه من الطّرفين. ثمّ جعل يمشي على حافة الرّكح يعدّ خطواته بصوت خافت " واحدة اثنتان ثلاثة... . وحينما بلغ أقصى الرّكح رجع إليّ وقال:" هل حاولت أن تصنعها أنت بنفسك؟ فالأمر غاية في السهولة؟ وفي اعتقادي أنّ من يصنع لك امرأة يشتهيها لنفسه. فماذا تقول؟"

قلت له:" حاولت... ولكنّها في كلّ مرّة تستوي فيها كاملة تامة تقفز من ذهني إلى الآخرة مباشرة. وكنت أجري وراءها لاهثا ولكنها تذوب في عينيّ وتختفي.. وفي وداعها لي تقول لي : أنا امرأة الجنّة. ستلقاني هناك. " وتمضي. فلا يكون منّي غير حرق الورق الذي يحرق في كلّ مرّة أطراف أصابعي. وكأن الورق يقول لي:" ولكنّك إلى الجحيم تأوي وفي قعره تستقرّ." فأتطيّر وأطيّر الأوراق التي عندي. وأجلس خائبا بلا أمنيات ومهاجرا بلا وطن...

ضحك الجمهور الذي أنفق المال ليضحك من الممثلين. فضرب السّاحر بكعب حذائه على الرّكح غاضبا. وقال للجمهور:" لست عاجزا عن مساعدته, وسأصنع له امرأة من لحم ودم. ولكنّي أريد أن أسمعه إلى النّهاية. فتكرموا علينا بشيء من الصمت ..."

قالت امرأة في الصف الأخير من الجمهور وقد رفعت بلّورة: " برجه هوائيّ و"الهوى " باب النّار المستعرة. وهو صادق فيما يقول فارفق بالرجل يا معلّم. ولا تدفع به إلى حافة الضفّة. واصنع له ما يريد فإنّ نهايته قريبة ومصيره مجهول."

لم أفهم مما قالت المرأة شيئا. رغم أنّها أشعرتني برغبة في الطيران والرحيل. وبسبب تلك التعمية, اختلط في رأسي زفيف الريح بزيف الهوى.

دنا منّي السّاحر وهمس في أذني:" صفها لي... "

قلت له متعجبا:" من هي يا سيّدي؟"

قال لي:" المرأة التي تريدني أن أبدعها لك."

تلعثمت. وفقدت التحكم في لساني وفمي. ولكنّي استجمعت بقايا ذاكرتي وطلول شجاعتي واستحضرت كلّ ما بقي في نفسي من رسوم دارسة وهمست له في قبّعته الجوفاء القذرة:" هي امرأة ككل النساء تقريبا. اصنعها لي من لحم ودم وأنا سأبدعها . لا تكلف نفسك عناء ذلك."

مشى السّاحر على الرّكح كما تمشي البطّة العرجاء وهو يمسك بطرفي العصا بيديه الاثنتين. وقطع الرّكح بالطول جيئة وذهابا والجمهور ينتظر لي الخلاص. كان جمهورا لطيفا يريد لي أنا البائس الحزين الباحث عن امرأة لكلّ الأوقات والأحايين. وكان السّاحر يبحث عن خلاصه هو من هذه الورطة التي أقحم فيها نفسه.

وفجأة صاح السّاحر في القاعة الواسعة.:" وجدتها... وجدتها." وعاد إليّ وهو يشهر عصاه.

قال لي:" لم يبق لك إلاّ أن تطيعني... فكلّ محاولة منك للمقاومة ستعود عليك بالخسران."

ثمّ جعل يدور على كعبه كالدوامة. وبعد أن سكنت حركة دورانه, اقترب مني وعقد أصابعه أمام عينيّ. وجعل يفرك سيابتيه بإبهاميه ويقول لي بصوت لا يسمعه غيري . " اتبعني دون إبطاء. وإلاّ تفعل تنال منك العصا."

وسار القهقرى على الركح يفرك أصابعه أمام عينيّ ويجذبني إليه بالمغنطيس الكاذب.

حاولت ألا أنسى قضيتي... فأنا أبحث عن امرأة. والسّاحر يبحث عن النجاح والجمهور يبحث عن متعة ينفق فيها وقتا ثمينا ومالا عزيزا. ولكنّنا اجتمعنا هنا كلّ منا يلتمس عند الآخر حاجته.

قال لي الساحر وهو يجرّني بمغناطيسه الوهميّ:" أجب عن الأسئلة التي سأطرحها عليك. ولا تعترض على أيّ منها. وإلاّ تفعل أفضحك."

سألني السّاحر وهو يبرم أصابعه أمام عيني وقد تطاير بزاقه في الهواء وعلى وجهي:" تقصد السياسة وهمومها؟" ثم همس لي :" قل نعم.."

قلت:" نعم ..نعم..."

فقال وقد التفت إلى للجمهور:" فاسد مفسد..."

ثمّ أضاف مزهوّا وقال بكلّ فخر :" آآآآه لقد قالها... قالها..."

وسألني :" تريد امرأة لليل؟ أليس كذلك؟ " ثم استدار قليلا حتى لا يراه الجمهور. وقال لي هامسا:" قل نعم.."

فردّدت وراءه:" نعم ... نعم.."

وسألني:" وتريدها فاتنة؟ وسليمة البدن وافرة العقل حكيمة تقرأ نواياك وتسبقك إلى النصّ. تريدها طبّاخة ماهرة وراقصة وغسالة ومحدثة ونمّامة وقليلة الطلبات؟ " ثمّ أشار إليّ برأسه لأجيب بنعم. فكان الجواب كما أراد.

صفّق الجمهور لأنّه حصّل بغيته. وصفقت صاحبة البلورة في آخر صفّ من صفوف الجمهور لأنّ بلورتها قد أنارت القاعة كلها وكشفت كلّ النوايا المستترة. ولأنها رأت نفسها في وصف السّاحر. وصفق الساحر لأن الجمهور صفق له. وبقيت أنا و"النّعم" نتبادل إشارات اللوم والعتاب والسباب. بصقت على النّعم وبصقت عليّ.

طلب الساحر من كلّ الحضور أن يساعدوني برسم هذه المرأة المتمناة (وقال هو المشتهاة). قال لهم : هذا تمرين لطيف بفضله سأموت وأنا راض عنكم ومطمئن على قدراتكم الإبداعيّة."

بعد برهة قصيرة,جمع كلّ الرسوم. وعرضها عليّ. كان رأسي كالنوّاس. وكان الساحر يوهمني بعصاه أنّه يبذر في ذاكرتي الجمال واللطافة والحسن. وكنت قاحلا ومتعبا.

ومضت الصور كلها في شريط منظم يشي بتطور الأجساد وفنائها. ثم مرت الصور مرة أخرى في شكل غير منظم تحاول إقناعي بأنّ الحياة عبث. ثم فتحت ناظريّ فلم أجد من الصور شيئا. ووجدت السّاحر ينهرني وهو يحاول استلالي من الكابوس.

وتصايح المتفرجون كسرب الزرزور.

لم يعد ثمّ ما يقنعني في امرأة الدّنيا. وكفري بالجنة أمات نساء الجنة. وجحيمي الذي أدور في فراغه يصنع لي مليارات المليارات من النساء المشتعلات. وأنا قاحل كاليباب. قاحل كصحراء الربع الخالي ...

وبالثقة التي بقيت بعيدة عن حكايات النساء وأحاديثهنّ المغرضة, وببعض الأمل الذي نجا من قهقهات الأبواب المغلقة ومن تأويلات الرجال الذين أعجبهم السّاحر, بكلّ ذلك تقدّمت من الساحر واثق الخطوة. ونزعت له قبّعته وعصاه. ثمّ قلت له في ثقتي الأولى: اتبعني..."

فاتبعني...

وكسرت ضلعي الكاذب. وقلت له أمام الجمهور:" أنا قادر على إخراج امرأة من ضلعي الأعوج تكون بي امرأة ولي سندا ولرغباتي محقّقة. فأرني ضلعك الكاذب وأرني كيف تصنع منه امرأة الحياة امرأة الطين امرأة الدّنيا. افعل مثلي إن كنت قادرا على مجاراتي.

جعلت أمشي على الرّكح والساحر وكلّ الرجال في القاعة يتحسسون أضلعهم فلا يجدون تلك البقية الباقية من الضلع المكسور. ها هم يستلون القلوب من الصدور ويرمون بها على الأرض للثعالب والنسور

وجرى الضلع الأعوج على الورق ورسم وطنا. ثمّ تنفس الوطن وشهق. ثم كبر في أعين الحاضرين. وضمّ القلوب إليه فجرت دماء في عروق التراب. فكانت امرأة من تراب ودم. لقد كانت امرأة من ضلعي الأعوج الكاذب المفعم بالحياة.

وسمعت قارئ التاريخ يردّد" فأكلت صورته صورهم." وسمعته يقول لمن معه:" انظر يا رفيقي... لم يفلح السّاحر لا هنا ولا هناك."

وكنت أنا والقبعة والعصا نرقص. وكان معنا ضلعي الكاذب الأعوج يرقص يرقص يرقص ... والجمهور لم يرفع بصره عن السّاحر المهزوم والقيامة...

ساقية الخادم في 2 أكتوبر 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى