عصري فياض - "العلكة" وعٌمْر الانتظار الطويل ...

تعالوا نلملم أركان القصة الخمسة ،حتما، ستكون على غير المعتاد، وأكبر وأعمق من المفهوم من حيث الحدث والدلالات،فنحن هنا على مسرح مخيم جنين من حيث المكان، أما الزمان فهو امتداد طويل عمره سبعة عشر عاما تقريبا، من ربيع نيسان 2002، إلى تشرين أول من العام الجاري،أما الركن الأول فهو الأسير يحيى محمد عبد الرحمن الزبيدي،الذي أمضى كامل الزمان قيد الاعتقال بعد أن أسر في المعركة المعروفة،أما الركن الثاني فهي أمه" الثانية" التي حرمت من الإنجاب، وشاركت والدته الأصلية في التربية والرعاية،ولا زال يردد لها كلمة " أمي" قبل وبعد استشهاد أمه، وبعد أن مضى أصدقاء له كثيرون كانوا وما زالوا في قلبها أبناء أحبتهم وتعلقت بهم بالرغم أنها لم تلدهم ، الركن الثالث تلك "العلكة" التي كانت قوت المقاتلين في "حارة الدمج"، عندما تسللت أمه الثانية بين النار والموت،ورجته أن لا يعانق الفناء،فلربما كان في الحياة جولات،فأبتسم وأهداها نصف قوته،أما الركن الرابع،فهو الاحتفاظ بتلك الهدية إلى يومنا هذا أملا في اللقاء، أما الركن الخامس فهما الضريحان العزيزان اللذان لم يراهما أو يزورهما بعد، ضريح الشهيدة إلام " أم العبد الزبيدي"، وضريح الشقيق الشهيد طه.الذي ربطته به فوق الإخوة رابط العهد والوفاء...
هنا،ستُنشأ الروابط الخمس أعمدة القصة،التي ستبدأ فصولها من أمام معبر سالم،المكان الذي رُحِّلَ إليه الأسرى بعد انتهاء المعركة، وسيحتضن ذراعيّ يحيى العائد من زنازين الموت إلى مساحة الحياة مئات المنتظرين شوقا، وستحمله القوافل المزينة بالقلوب والإعلام والأبواق المنطلقة تشق المدى نحو بيته في المخيم،...سيطل أناس من شبابيك السيارات المقابلة يهنئون ... يسألون ... يباركون... لكن المركبات التي تمضي لن تتوقف، حتى تحط الرحال أولا في روضة الشهداء،عندها يصمت الجميع، ويبقى صوت تزاحم أقدام المئات الذين خشعوا أمام الأضرحة يخترق هالة الصمت، يريدون تسجيل تلك اللحظة في عمق الذاكرة ،فيمدوا أيديهم لتلاوة الفاتحة، بينما يجثو هو على ركبتيه أمام ضريحي أمه وشقيقه في لقاء الأحبة الذي أصبح معتادا على مساحات الوطن وامتداداته، فيتحسس شواهد الضريحين وكأنه يتبرك بهما ويطيل الصمت، وينظر يمينا ويسارا، فيلمح أسماء علت شواهد لأناس كانوا معه ، أو قضوا بعد غيابه...
يصعد إحدى السيارات المحتشدة المزينة قاصدا البيت،البيت الذي بني بعد أن هدم البيت القديم ثلاث مرات متتالية، يصل يترجل ويشق الطريق من بين زحام المتدافعين، يتلقفه الأهل بالعناق الطويل، هنا لا مجال لترتيب حصص الشوق، فقد تنتظر طويلا حتى تروي بعضا من شغفك،....لكن شوق الضلوع،يخففه ارتواء العيون.... هكذا كان حالها... انتظرت كما انتظرت الأعوام السبعة عشر... أصبح أمامها... نادي " أمي"...، فاضت عينيها وابتسمت ورفعت بأصابع يدها اليمنى قطعة "العكلة" التي نال منها الزمن أجزاء حتى تقلصت،تذكر، التقفها.. شمها بكل عمق، تذكر، وتذكر، وتذكر حتى كاد أن يغمى عليه..
كبّر من حوله حتى أفاق، فجمع قواه وأستأنف تلبية أحباءه وأصدقاءه والأجيال التي ولدت بعد غيابة وتلهفت لروياه.... لقد كانوا مع "العلكة"" الباقية نور الأمل.. ونور الاستدامة والتواصل وجذور البقاء.

بقلم / عصري فياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى