الطريق تتلوى صاعدة فوق الجبال المتلاصقة ، تمضى إلى نقطة غير مرئية . زرقة السماء صافية ، إلا من سحب صغيرة ، متباعدة ، وثمة نسائم خريفية باردة ..
افترش الناس الأرض فى دائرة واسعة . النساء خلف الرجال ، فى مواضع تتيح لهن الرؤية . على الأسطح ، وفى الشرفات ، وعلى مقاعد أمام الجدران ..
الديكان يتصارعان . الجسدان هائلان ، والحركة رشيقة ، والقدرة لا حد لها على العراك . إما أن ينتصر أحدهما ، يقضى على الآخر ، يلقيه هالكاً على الأرض ، أو يموت . تتعالى دقات الطبول والصيحات الوحشية ، الصاخبة ، تحرض على العنف والقتال حتى الموت : إدبك فى عين زنبيله .. لا تفلته .. اكسر جناحه قبل أن يكسر جناحك . يتقاتل الديكان حتى يفقدا القدرة على الحركة . الأعين تلتمع بنشوة غامضة ..
نادى الشيخ على الديكين ...
دخل الرجلان قلب الساحة الدائرية . بيد كل منهما ديك ، يختلف لونه عن الآخر ..
اتجه الشيخ إلى على حمدون :
ـ هل أنت على ثقة من هذا الديك يصلح للمصارعة ..
قال على حمدون :
ـ أتيت به لينتصر لا ليموت ..
ـ تعرف أنه لابد من غالب ومغلوب .. قاتل ومقتول ..
وهو يهز رأسه :
ـ أعرف ..
أدركه اليأس من أن يتعلم الديك المصارعة . تكوم على نفسه ، لا يقاوم ضربات الديك الآخر ، ولا نقراته المتوالية . لاحظ الديك إشارته إلى الولد ليحمله إلى الداخل . أولى به المطبخ . فاجأه بنقر الديك المهاجم فى عينيه . فى العينين تماماً ، فانبثق الدم . صرخ الديك المهاجم . ارتفع ، وهبط ، وتقلب فى الأرض .
أشار على حمدون إلى الولد . ترك الديك الأبيض فى موضعه ، وحمل المتداخل اللونين الرمادى والأبيض إلى الداخل ، للتعجيل بذبحه ..
تكرر الأمر فى مصارعات تالية . يظل الديك الأبيض على تكومه ، وتحمّله للضربات والنقرات . فى لحظة غير متوقعة ، يفز فى وجه الديك المهاجم . يثقب العينين ، فينبثق الدم ..
عنى على حمدون بعلاج الديك من الجراح التى أدمت جسده . أدرك أنه لا يميل إلى المصارعة ، وإن دافع عن نفسه حين يزداد الألم ، ويعلو إيقاع الخطر . ضربة واحدة ، فى لحظة غير متوقعة ، يثأر بها لنفسه . يعود إلى موضعه ، ويتكوم ..
قال الحكم الشيخ :
ـ أنا أشفق على هذا الديك ..
قال على حمدون :
ـ لو أنك رأيته فى المجاولة فسيذهلك ..
قال الحكم :
ـ جئت به للمصارعة أم لينتحر ؟
ـ لولا أنى أثق فيه ما دفعته إلى المجاولة ..
ولجأ إلى تعبيرات يديه :
ـ إن ديكى يفعل ما لا أستطيع أن أفعله !
أهمل شعور الخذلان فى داخله لنظرات الناس المستخفة إلى ديكه الأبيض . يعلو رأسه النحيل عرف أحمر ، متهدل ، ومنقاره رفيع ..
تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ لو يتحرك الديك فى اللحظة التى لا يتوقعها هو نفسه . ينقر الديك البنى فى وجهه ، فى عينيه . يجبره على الفرار . يقضى على النظرات المستخفة ..
تواجه الديكان ..
تراجع الديك البنى إلى الوراء . نبش فى الأرض الرملية . نفش ريشه . رفرف بجناحيه فوق الديك الأبيض . مال بمخالبه . ضرب الديك الأبيض ، ثم استعاد وقفته على الأرض . اقترب حتى لامس الديك المنكمش . غرس منقاره فى جسده . نقر وجهه وعنقه ورأسه . حتى عينيه ، بدا أن الديك الأبيض أغمضهما قبل أن يخترقها منقار الديك البنى ..
ظل الديك الأبيض على تكومه ..
يعرف أن عبد الحكيم الطائى وضع " البيسة " فوق الأخرى ، حتى اشترى ديكاً هندياً . هو أفضل أنواع الديكة . رفض الديوك العربية والهولندية والتايلندية والتركية . الهندى أشرس الديوك . عضلاته قوية ، حجمه كبير ، صورته تسر النظر . يخرج منتصراً أمام خصومه ..
أشار الطائى إلى سلسلة الجبال المتداخلة الألوان ، لا أفق لنهايتها :
ـ هل يوجد فى المنطقة ما هو أضخم من هذا الجبل ؟
ـ لا أعرف ..
قال فى لهجة باترة :
ـ لا يوجد !.. هذا شأن ديكى .. لا يوجد ما هو أقوى منه ..
تخلى على حمدون عن توقعه بأن الديك الأبيض سينقر عينى البنى فى اللحظة التى يختارها . لحظة ما قبل الإغماء ، أو الموت . ظل الديك منكمشاً على نفسه ، طوى مخالبه تحت جناحيه . غطت الدماء ريشه وعرفه ورأسه دون يغادر تكومه الذليل . يدرك على حمدون أن ديكه الأبيض لا يهاجم إلا من يهاجمه . يظل منطوياً على نفسه ، منكمشاً ، يتحمل الضربات ، دون أن يبدى تألماً ، ولا مقاومة ، لكنه استغرق فى الانكماش ، فلا يبدو إن كان صاحياً أم راح فى النوم . عكست نظرات الحلقة المحيطة إشفاقاً من أن الديك الأبيض ليس نداً لخصمه ..
أومأ على حمدون بالموافقة على أن يفصل الحكم بين الديكين ، يعلن ـ لعدم التكافؤ ـ فوز الديك البنى . تخلى عن ثقته بأن ديكه سيتحرك فى لحظة يختارها ، يطيح بالديك البنى ، فيعلن الحكم فوزه . لا يعرف متى ولا كيف ، لكن ذلك ما توقعه . لم يتصور أن الديك يخذله ، يظل فى انكفائه حتى يقتله الديك البنى تماماً ..
تهيأ الجميع للانصراف . توقعوا أن الديك البنى قضى على خصمه . لكن الديك الأبيض ـ فى لحظة لا يتوقعها أحد ـ تماسك ، واستجمع قوته . قفز من فوق ساعد الرجل ناحية خصمه . فى اتجاه العينين . نقرهما فى المنتصف تماماً ، فانبثق الدم ..
طار الديك المثقوب العينين فوق الرءوس ، وجرى .
فز الجالسون ، وجروا وراءه . لم يصدقوا أنه ترك المجاولة وهو يكاد يقضى على خصمه . حتى الحكم الشيخ تردد فى إعلان النتيجة . توقع عودة الناس بالديك الهارب ، فيقضى على الديك الأبيض ، ويعلن فوزه ..
لكن الزمن طال ، وامتد . بدأت الحلقة فى الانفضاض ، ونزل النسوة من فوق الأسطح ، وتركن الشرفات والمقاعد ، وأغلقن أبواب البيوت ..
تنبه على حمدون إلى وقفته فى الساحة الخالية ، والديك الأبيض فى التكوم الذى ألفه . حتى الأضواء المتناثرة توالى إطفاؤها فسادت الظلمة ..
انحنى ..
حمل الديك . عدل الدشداشة على جسده ، وثبت المسرة فوق رأسه ..
مضى ناحية القرية
* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
افترش الناس الأرض فى دائرة واسعة . النساء خلف الرجال ، فى مواضع تتيح لهن الرؤية . على الأسطح ، وفى الشرفات ، وعلى مقاعد أمام الجدران ..
الديكان يتصارعان . الجسدان هائلان ، والحركة رشيقة ، والقدرة لا حد لها على العراك . إما أن ينتصر أحدهما ، يقضى على الآخر ، يلقيه هالكاً على الأرض ، أو يموت . تتعالى دقات الطبول والصيحات الوحشية ، الصاخبة ، تحرض على العنف والقتال حتى الموت : إدبك فى عين زنبيله .. لا تفلته .. اكسر جناحه قبل أن يكسر جناحك . يتقاتل الديكان حتى يفقدا القدرة على الحركة . الأعين تلتمع بنشوة غامضة ..
نادى الشيخ على الديكين ...
دخل الرجلان قلب الساحة الدائرية . بيد كل منهما ديك ، يختلف لونه عن الآخر ..
اتجه الشيخ إلى على حمدون :
ـ هل أنت على ثقة من هذا الديك يصلح للمصارعة ..
قال على حمدون :
ـ أتيت به لينتصر لا ليموت ..
ـ تعرف أنه لابد من غالب ومغلوب .. قاتل ومقتول ..
وهو يهز رأسه :
ـ أعرف ..
أدركه اليأس من أن يتعلم الديك المصارعة . تكوم على نفسه ، لا يقاوم ضربات الديك الآخر ، ولا نقراته المتوالية . لاحظ الديك إشارته إلى الولد ليحمله إلى الداخل . أولى به المطبخ . فاجأه بنقر الديك المهاجم فى عينيه . فى العينين تماماً ، فانبثق الدم . صرخ الديك المهاجم . ارتفع ، وهبط ، وتقلب فى الأرض .
أشار على حمدون إلى الولد . ترك الديك الأبيض فى موضعه ، وحمل المتداخل اللونين الرمادى والأبيض إلى الداخل ، للتعجيل بذبحه ..
تكرر الأمر فى مصارعات تالية . يظل الديك الأبيض على تكومه ، وتحمّله للضربات والنقرات . فى لحظة غير متوقعة ، يفز فى وجه الديك المهاجم . يثقب العينين ، فينبثق الدم ..
عنى على حمدون بعلاج الديك من الجراح التى أدمت جسده . أدرك أنه لا يميل إلى المصارعة ، وإن دافع عن نفسه حين يزداد الألم ، ويعلو إيقاع الخطر . ضربة واحدة ، فى لحظة غير متوقعة ، يثأر بها لنفسه . يعود إلى موضعه ، ويتكوم ..
قال الحكم الشيخ :
ـ أنا أشفق على هذا الديك ..
قال على حمدون :
ـ لو أنك رأيته فى المجاولة فسيذهلك ..
قال الحكم :
ـ جئت به للمصارعة أم لينتحر ؟
ـ لولا أنى أثق فيه ما دفعته إلى المجاولة ..
ولجأ إلى تعبيرات يديه :
ـ إن ديكى يفعل ما لا أستطيع أن أفعله !
أهمل شعور الخذلان فى داخله لنظرات الناس المستخفة إلى ديكه الأبيض . يعلو رأسه النحيل عرف أحمر ، متهدل ، ومنقاره رفيع ..
تمنى ـ بينه وبين نفسه ـ لو يتحرك الديك فى اللحظة التى لا يتوقعها هو نفسه . ينقر الديك البنى فى وجهه ، فى عينيه . يجبره على الفرار . يقضى على النظرات المستخفة ..
تواجه الديكان ..
تراجع الديك البنى إلى الوراء . نبش فى الأرض الرملية . نفش ريشه . رفرف بجناحيه فوق الديك الأبيض . مال بمخالبه . ضرب الديك الأبيض ، ثم استعاد وقفته على الأرض . اقترب حتى لامس الديك المنكمش . غرس منقاره فى جسده . نقر وجهه وعنقه ورأسه . حتى عينيه ، بدا أن الديك الأبيض أغمضهما قبل أن يخترقها منقار الديك البنى ..
ظل الديك الأبيض على تكومه ..
يعرف أن عبد الحكيم الطائى وضع " البيسة " فوق الأخرى ، حتى اشترى ديكاً هندياً . هو أفضل أنواع الديكة . رفض الديوك العربية والهولندية والتايلندية والتركية . الهندى أشرس الديوك . عضلاته قوية ، حجمه كبير ، صورته تسر النظر . يخرج منتصراً أمام خصومه ..
أشار الطائى إلى سلسلة الجبال المتداخلة الألوان ، لا أفق لنهايتها :
ـ هل يوجد فى المنطقة ما هو أضخم من هذا الجبل ؟
ـ لا أعرف ..
قال فى لهجة باترة :
ـ لا يوجد !.. هذا شأن ديكى .. لا يوجد ما هو أقوى منه ..
تخلى على حمدون عن توقعه بأن الديك الأبيض سينقر عينى البنى فى اللحظة التى يختارها . لحظة ما قبل الإغماء ، أو الموت . ظل الديك منكمشاً على نفسه ، طوى مخالبه تحت جناحيه . غطت الدماء ريشه وعرفه ورأسه دون يغادر تكومه الذليل . يدرك على حمدون أن ديكه الأبيض لا يهاجم إلا من يهاجمه . يظل منطوياً على نفسه ، منكمشاً ، يتحمل الضربات ، دون أن يبدى تألماً ، ولا مقاومة ، لكنه استغرق فى الانكماش ، فلا يبدو إن كان صاحياً أم راح فى النوم . عكست نظرات الحلقة المحيطة إشفاقاً من أن الديك الأبيض ليس نداً لخصمه ..
أومأ على حمدون بالموافقة على أن يفصل الحكم بين الديكين ، يعلن ـ لعدم التكافؤ ـ فوز الديك البنى . تخلى عن ثقته بأن ديكه سيتحرك فى لحظة يختارها ، يطيح بالديك البنى ، فيعلن الحكم فوزه . لا يعرف متى ولا كيف ، لكن ذلك ما توقعه . لم يتصور أن الديك يخذله ، يظل فى انكفائه حتى يقتله الديك البنى تماماً ..
تهيأ الجميع للانصراف . توقعوا أن الديك البنى قضى على خصمه . لكن الديك الأبيض ـ فى لحظة لا يتوقعها أحد ـ تماسك ، واستجمع قوته . قفز من فوق ساعد الرجل ناحية خصمه . فى اتجاه العينين . نقرهما فى المنتصف تماماً ، فانبثق الدم ..
طار الديك المثقوب العينين فوق الرءوس ، وجرى .
فز الجالسون ، وجروا وراءه . لم يصدقوا أنه ترك المجاولة وهو يكاد يقضى على خصمه . حتى الحكم الشيخ تردد فى إعلان النتيجة . توقع عودة الناس بالديك الهارب ، فيقضى على الديك الأبيض ، ويعلن فوزه ..
لكن الزمن طال ، وامتد . بدأت الحلقة فى الانفضاض ، ونزل النسوة من فوق الأسطح ، وتركن الشرفات والمقاعد ، وأغلقن أبواب البيوت ..
تنبه على حمدون إلى وقفته فى الساحة الخالية ، والديك الأبيض فى التكوم الذى ألفه . حتى الأضواء المتناثرة توالى إطفاؤها فسادت الظلمة ..
انحنى ..
حمل الديك . عدل الدشداشة على جسده ، وثبت المسرة فوق رأسه ..
مضى ناحية القرية
* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل