د. محمد الهادي الطاهري - نتف من أخبار الإشكيمو

لا يكاد الناس يعرفون له اسما غير الكنية التي شُهر بها بينهم فكان الجميع ينادونه الإشكيمو وكان لا يغضب من ذلك أبدا بل لعله هو أيضا نسي اسمه الحقيقي وهو الباهي بن الزاهي وابن ڨمرة بنت زهرة. والاشكيمو على ما يبدو كنية ألصقها به أقرانه في المدرسة فصارت بدلا من اسمه. وأصل هذه الكنية أنه كان لا يحسن نطق حرف السين فإذا قرأ نص ( في بلاد الإسكيمو) المعروف قال في بلاد الإشكيمو والسبب في ذلك أنه كانت بأسنانه فلجة قبيحة جدا وكانت إلى ذلك ناتئة كأسنان المشط وكان غليظ الشفتين ضيق العينين بارز الجبهة وفي وجهه طول مثل وجوه الكلاب العربية وانفه أفطس كأنوف الكلاب الإفرنجية وكان إلى ذلك كله مصابا بداء يخفيه عن الناس ولكنهم علموه فقد كان لا يكاد يمسك بوله فكان يظهر على سرواله بلل دائم يداريه بزجاجة فيها ماء يرش به سرواله فإذا سئل عن علة اليلل قال ماء رششته سهوا. ولكن الرائحة الكريهة المنبعثة منه من أثر بوله الدائم كانت تفضحه ثم صار لا يخجل بها لاعتياده عليها فألفها وألفته وألف الناس ذلك منه فتناسوها كما تناسوا اسمه الحقيقي. ومع كل هذه العيوب الخلقية التي لا ذنب له فيها كان في الإشكيمو شيء من الفطنة والذكاء يسّرا له النجاح في سنوات الابتدائية الأولى ولكنهما لم يكونا كافيين للنجاح في مناظرة السيزيام العسيرة فأخفق مرتين وثلاثا ثم ترك المدرسة. ولا أدري كيف تيسر له أن ينجح في اختبار السياقة وينجح بعد ذلك في أن يسوق سيارة اشتراها له أبوه ليستعملها في نقل ما ينتجه من خضروات وغلال إلى السوق كل يوم اثنين لكن الإشكيمو كان يستعملها في غفلة من أبيه لأغراض أخرى. وكانت تلك السيارة لا تختلف كثيرا في مظهرها عن مظهر الإشكيمو فكان أنفها أفطس مثل أنفه من فرط ما تلقى من الصدمات وكانت عجلاتها إذا دارت تصيبها رعشة فلا تكاد تستقيم في سيرها وكانت زيوتها تنز من كل جهة كما ينز بوله في كل وقت. وكان مع ذلك يسميها الهذبة ويفاخر بها في المجالس حتى أصابتها عين قضت عليها ونجا هو من الموت بفضل حجاب كان يعلقه فيها كما يقول. وسئل عن ذلك فقال : خطر لي ذات ليلة أن أخرج في مهمة دعاني إليها صديق. فتسللت من الحوش ودخلت السيارة ففككت مكبحها وأرسلتها في المنحدر الذي كانت تربض فيه وهي ساكنة حتى ابتعدت عن الحوش ثم شغلت المحرك وانطلقت. كانت الظلمة شديدة وكانت أضواء السيارة خافتة لا تكاد تنير شيئا فبدت لي الأشجار على حافتي الطريق كأنها أشباح شياطين أو أشباح غيلان فسكنني خوف شديد وهممت بالعودة ولكني مضيت أملا في طلوع الفجر وانبلاج الصباح. ومررت في الطريق بقنطرة ضيقة تستوجب تخفيض السرعة ولكن خوفي الشديد منعني من ذلك فاحتكت العجلتان اللتين على يميني برصيف القنطرة فاهتزت السيارة اهتزازا عنيفا وإذا بطائر أسود ضخم الجناحين يحط على رأسي فقلت غول ينوي التهامي ولا أدري كيف وقعت بالسيارة في الوادي. وأفقت من غيبوبتي بعد وقت لا أدري كم هو ولكني رأيت جمعا من الناس يحيطون بي فلما اطمأنوا على صحتي قال أحدهم : أما السيارة فعلى الله العوض وأما أنت فحمدا لله على السلامة وأما ديكك الرومي فها هو. فهل كنت تنوي بيعه؟ فقلت: أي ديك وأي رومي؟ فقال هذا وجاء به. فإذا هو ديك أمي نسيت أنه كان يتخذ من السيارة قنا له ولابد أنه استفاق من أثر الصدمة التي لحقت السيارة. تعالوا يا جماعة خذوه فاذبحوه واصنعوا منه طعاما نجتمع عليه دفعا لشر كاد يودي بحياتي. وعاهدت نفسي من ذلك اليوم على أن لا يكون في حوشنا ديك رومي أبدا إلا ذبحته وطبخته وتصدقت به. ولعل ذلك ما جعل الناس يضيفون إلى كنيته اسما آخر فصاروا ينادونه الإشكيمو دندونة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى