د. محمد عبدالله القواسمة - الليل ظاهرة شعرية

لا ينظر الأديب سواء أكان شاعرًا أم ناثرًا إلى الليل نظرة الإنسان العادي، أو المنشغل بعلم الفلك والكون. فليس الليل عند الأدباء مجرد ظاهرة طبيعية يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، و ينتج عن دوران الأرض حول نفسها، ومن تعاقبه والنهار يتكون ما يسمى اليوم، إنما ينظر إليه الأديب بأنه ظاهرة زمنية تتصل بعواطفه وأحاسيسه؛ فيجعله يطول ويقصر، يدنو ويبتعد، يجمل ويقبح، يفرح ويبتئس، ينتشي ويتألم. ولعله من أكثر الظواهر الطبيعية التصاقًا بقلب الأدباء ولغتهم، وأكثر ظهورًا في عناوين أعمالهم.

فهذا امرؤ القيس يُصور هجمة الليل بما فيها من توحش وقسوة بموج البحر الذي جاء يغرقه بأنواع الهموم؛ ليختبر عوده، أيصبر على تحمل هذه الهموم أم يجزع؟ ثم نراه يتخيل الليل حيوانًا يبغي الانقضاض عليه، عندها يتمنى أن يزول سريعّا بمجيء الصباح، وإن كان الصباح ليس بأفضل من الليل في تخفيف همومه.

وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ

ثم يطل علينا النابغة الذبياني معاصر امرئ القيس وهو يخاطب ابنته أميمة:

كليني لهمٍّ، يا أميمةَ، ناصبِ وليلٍ أقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ
تطـاولَ حتى قلتُ ليسَ بمنقضٍ وليسَ الذي يرعى النجومَ بآيبِ

إنه يدعو أميمة أن تتركه في همه، ومعاناته الليل فهو بطيء الكواكب كناية عن طوله وتطاوله. سيظل راعيًا للنجوم التي تركها الصباح منتشرة في السماء، وهذا الصباح لن يعود ليظل وأرقه.

ونرى هذه النظرة بثبوت الليل واستقراره عند الشاعر العباسي أبي فراس الحمداني، حيث كان يقاسي الأسى في الأسر على أيدي الروم، ويتألم من طول الليل والبعد عن أمه، ويزيد الحمداني الأمر توضيحًا في بيان سر الإحساس بالزمن، ويراه في الحقيقة النفسية بأن الزمن يبدو طويلًا في حالة الحزن وقصيرًا في حالة السرور.

وَأَسرٌ أُقاسيهِ وَلَيلٌ نُجومُهُ أَرى كُلَّ شَيءٍ غَيرَهُنَّ يَزولُ

تَطولُ بِيَ الساعاتُ وَهيَ قَصيرَةٌ وَفي كُلِّ دَهرٍ لا يَسُرُّكَ طولُ

وتنطبق هذه الحقيقة النفسية الزمنية ليس على الأدباء الذين قاسوا من الهموم التي تتساقط عليهم طوال الليل مثل امرئ القيس والنابغة وأبي فراس فحسب بل أيضًا على الشعراء العشاق الذين يحسون عادة بطول الليل عند فراق حبيباتهم وقصره عند لقائهن. فهذا ابن زيدون يبين ذلك في مخاطبته ولادة بنت الخليفة المستكفي:

يا أَخا البدرِ سناء وسنى حفظ اللَه زماناً أطلَعك

إن يطُل بعدك ليلي فلكم بتّ أشكو قصرَ الليل مَعك

وهذا المتنبي الذي يعرفه الليل بسيره فيه دون خوف في قوله المشهور

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

يكرر المعنى بتماثل طول الليل عند العاشقين؛ فهو لا يريد تلك الليالي التي لا يرى فيها وجه حبيبته. إنها تظهر القمر الذي لا يرغب في رؤيته وتخفي وجه حبيبته الذي يشبه القمر، ولا يستطيع الوصول إليه في ضوء النهار.

لَيَاليّ بَعْدَ الظّاعِنِينَ شُكُولُ طِوالٌ وَلَيْلُ العاشِقينَ طَويلُ

يُبِنَّ ليَ البَدْرَ الذي لا أُريدُهُ وَيُخْفِينَ بَدْراً مَا إلَيْهِ سَبيلُ

ونراه في موضع آخر يستعير الليل لوصف شعر الفتاة التي يتغزل بها، فيشبه كل ذؤابة من شعرها بليلة من شدة سواده وكثافته، يقول:

نشرت ثلاثَ ذوائبٍ من شعرِها في ليلةٍ فَأَرَت لياليَ أربَعا

ويظهر في العصر الحديث أمير الشعراء أحمد شوفي متأثرًا بجمال مدينة زحلة في لبنان، فيراها في قصيدة "زحلة" امرأة شعرها مثل الليل.

ودخَلْتُ في ليلين فَرْعِك والُّدجى ولثمتُ كالصّبح المنوِّرِ فاكِ

والقصيدة غناها الفنان محمد عبدالوهاب وفيروز من بعده بعنوان "يا جارة الوادي" والوادي هو وادي العرائش الذي ينبع من سفح جبل صنين وينساب في نهر البردوني.

ويماثل ليل زحلة الذي غرق فيه شوقي حبًا وانبهارًا الليل الذي خبره الشاعر علي محمود طه في قصيدته "ليالي كليوبترا " التي غناها محمد عبد الوهاب. كانت ليلة طافحة بالحب في حين كان فيها مجموعة من السكارى الغارقين في السكر واللهو.

ليلُنا خمرٌ وأشواقٌ تُغَنِّي حولنا

وشراعٌ سابحٌ في النُّور يَرْعَى ظِلَّنَا

كان في الليل سُكارَى، وأفاقوا قبلَنَا

ليتهم قد عرفوا الحبَّ فباتوا مثلنا

أما الليل عند الشاعر القيرواني أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري( 420 – 488 هـ ) فيختلف عن ليل شوقي وطه، فهو ليل حزين؛ لأنه لا يحقق ما يتمناه الشاعر في الإجابة عن موعد لقائه بالحبيب. هل هو قريب في الغد أم بعيد عند قيام الساعة؟ إنه حزين على فراق حبيبه؛ لا يستطع النوم مع أن السمار المعروفين بطول السهر خلدوا للنوم. لقد بقي ساهرًا كما النابغة يرعى النجوم التي رقت عليه وأشفقت على حاله.

يَا لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ

رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ

فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لـهُ ممّا يَرعَاهُ ويَرْصُدُهُ

ويأتي الشاعر المهجري جبران خليل جبران ليغني في الليل بعيدًا عن الناس قصيدته "أغنية الليل" يحلم فيها بلقاء محبوبته، ودعوتها إلى اللجوء معه إلى الطبيعة بما تتزين به من قمر ونجوم والليل الهادئ ليناجيها بما يعاني من حب وشوق. يقول:

سَـكـنَ اللَّيـل وَفـي ثَوب السُّكون تَــــــخـــــتَـــــبـــــي الأَحـــــلام

وَسَــعــى البَـدرُ وَلِلبَـدرِ عُـيُـون تَــــــــــرصُــــــــــدُ الأَيّــــــــــام

فَـتَـعالي يا اِبنَة الحَقل نَزُور كــــــــرمــــــــة العُـــــــشّـــــــاق

عَـلّنـا نـطـفـي بِـذيّـاك العَـصِير حــــــــــرقَـــــــــةَ الأَشـــــــــواق

إذا كان الليل عند جبران ليل الأحلام والتمتع بجمال الطبيعة فإنه عند أبي القاسم الشابي رمز للظلم والاحتلال، ليل طويل مثل ليل فلسطين الذي يعبر عنه الأديب والناقد عادل الأسطة في روايته" ليل الضفة الطويل" إنه ظلم يجب أن يواجه بالرفض والمقاومة حتى ينتهي كما يؤكد الشابي:

لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر

وبعد

فسيظل الليل وما يتصل به من معان مصدر إلهام للأدباء عامة والشعراء خاصة، يزودهم بالمعاني والأفكار المبتكرة والصور الجميلة، وسيظل الباحثون والنقاد يتناولونه في أعمالهم. ولعل هذه المقالة، وإن كان الشروع في كتابتها من وحي التأمل في الليل وسكونه، ما هي إلا ثمرة من ثمار استرجاع بعض جهود السابقين وفضلهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى