د. سيد شعبان - أم هاشم..

لما تكتمل الحكاية بعد؛ في ليل الشتاء وحين تضرب السماء بريح عاتية، تكاد القلوب تنخلع قبل الأبواب، تأتي النداهة إليها، حين كان الفيضان وحشا يغمر البر، تبعتها لا تلوى على شيء، هل كانت تسحرها أم تشدها بحبل خفي؟
تتراقص على صفحة التيل جنيات زرق وحمر، تبلغ بها مسافة الغرق، تلاعبها مثلما تفعل الحملان تجري هنا وهتاك، مرعوبة تذكر في سرها اسم الله، تستعيذ به من فعل الشياطين، تخنس النداهة، نغوص في أغطيتنا المصنوعة من صوف الغنم، كأن الأرض تبتلعنا، نمسك بيديها هلعا، تطفيء مصباح الكيروسين نمرة 10، تبدو الحجرة كهفا لا باب له، لا سقف له، حتى أرضية الحجرة غاصت بها قدمي، يسخر مني شيطان تلبس بي، يضرب الهلع نوافذ البيت الطيني، تموء قطة سوداء؛ يصدر الحمار نهيقه، نظن العفاريت قد أتت، كنت أعد آية الكرسي، تتداخل كلماتها، لا أرى نافذة الحجرة، أبحث عن الباب فأصطدم بالجدار، سامح الله جدتي، تركت لي ميراث السرد المعجون بعفرتة لا تنتهي.
ألتمس عودة الأجداد حين أعايش حكاياتهم؛ تركوها لدي وديعة، أقتات منها زمن المجاعة، في بلادنا لا نمل من قراءة الماضي؛ لكننا لا نتعظ به، نجعله نادرة أو طرفة.
أجلس إلى مكتبي أمسك بالقلم، أحاول أن أستعيد حكاية من زمن مضى، يلح علي الجوع؛ تتحرك معدتي كالطاحونة فرغت من سحق الحبوب؛ تأكل نفسها، يبدو أنتي أصبت بحالة من الموات لم يعد لدي ما أكتبه، تفر الكلمات غير عابئة بي، أسترضيها بشعر فتمعن في الفرار؛ أغلقت الباب؛ آويت إلى فراشي، ذهبت في نوم عميق؛ السماء تسقط نجوما في حجري، تتراقص الأشجار من حولي ومن ثم تعزف لحنا مغايرا، تضرب الأتان الأرض بحافرها، تفر العنزات، معركة بين أشجار حديقتنا، إنها تتقاذف بحبات البرتقال.
أفتح التلفاز أجد طائرة قد سقطت؛ الأعداء يتبادلون التحايا بعد انتهاء الحرب حين يجلسون على المقاعد المكيفة، تبقى طلقات البارود مجرد ذكرى لجنود شجعان، بعد عقود تطمس هوياتهم، الفقراء يزحفون ديدانا ناحية سوق الغلال، أطالع صفحة من تاريخ الجبرتي، باب زويلة تتراقص أعلاه رقبة طومان باي، الخيل تضرب في غير رحمة، الناس تجري ناحية باب القلعة؛ الأتابك منشغل بجمال خدها، يخط لها بقلم ذهبي صفحة جديدة؛ المداحون يمﻷون العتبة الخضراء، الدراويش يقيمون حلقة الذكر، يركب سيدنا أتانا بيضاء، تتدلى عمامته الخضراء، تختال النداهة بثيابها الجديدة، على الصفين ثريد ولحم، فول نابت.
مدد يا أم هاشم، تزداد الناس تضج الساحة بأهل الله، أتبعهم أجري خلفهم، مجذوب يا أم هاشم، خذيني معك، طبيب المبالي حضر، وأنا لا دواء لي!
بنت حلوة تشير إلي، تعطيني كسرة خبز، تسقيني من مجرى العيون، أشرب ولا أرتوي، أجد حلاوة في فمي، يشتد ظهرى، ترى عيني ما لا يراه الناظرون، أطير بأجنحة بلا ريش، أطوف بالبيت سبعة أشواط؛ تحضر بلقيس من بلاد اليمن؛ تفر تاركة سد مأرب وقد غرقت سبأ؛ كذا قالت جدتي!
أحسبني مصابا بمس، أغتسل بماء النهر؛ كلما مددت يدي ابتعد الماء، تختال الجنية، تقذفني بحجر، أبتعد منها ومن ثم أنظر إليها، تطاول السماء، أشعر بأنني مربوط إلى قاع النهر، تنفك عقدة وراء أخرى، أستعيد النوم من جديد، طرقات متوالية على الباب، صوت أعرفه جيدا؛ الفتاة الحلم الأول؛ حدث هذا منذ عشرين عاما، للقلب ذكرى لا تنسى، جرى الحب نهر عشق، كتبت إليها رسائلي على ضفته، حدثت عنها القمر، رسمت لها ألف وجه، كلما ناديتها تمنعت؛ غادرتني دون إجابة ؛ إنه الفقر يقف حائلا بيننا، أحقا عادت؟
أفتح نصف عيني، أنظر من طرف خفي، تومض شفتاها، يطول شعرها الأصفر، تتهادى في الحجرة، تقترب شيئا ما، تصيبني رعدة، تحاول معي نزقا، أغوص- كما كنت أفعل أيام جدتي- في الفراش، أستجمع آية الكرسي.
خدر لذيذ يسري في جسدى، يعاود الحلم حنينه الأول..يؤذن الديك لصلاة الفجر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى