مارية الودغيري - خربشات ليلة حزينة

ممددة في شحوب الموتى جدتي. التهمها المرض و الإنكسار فتضاعف حجم سرير السنديان. بيد مرعوبة أجفف العرق المتصفد من جبينها. تصحو لبضع ثوان، تحاول فتح عينيها المنهكتين، تصدر عنها تنهيدة طويلة موجعة ثم تعود أدراجها. حشرجة الريح ، القمر اللامبالي البارد خلف النافذة و شبح الموت المرابض في الغرفة النصف معتمة يشطبون ما بقي لي من عزيمة. أمسك يدها المعروقة و أتمدد بحذر بجانبها فتنساب الذكريات.

زفت جدتي ندية نقية كزهر الياسمين إلى جدي و هي بنت السادسة عشر. احتضنت أسرتها التي كانت تربطها صداقة عتيدة بأهل العريس الزوج الشاب و سلكت به دروب التجارة الشائكة حتى خبرها، فغدا بيته عامرا ورزقه وفيرا. كانت جدتي متفانية في خدمة البيت الكبير، كتومة خجولة نادرة الشكوى، حريصة على أن تكون المآدب الشبه يومية و جميع أسباب الراحة في مستوى مكانة جدي الجديدة. جدي الذي كثرت أسفاره، فتحملت عنه كذلك تنشئة الأبناء. كانت حين يثقل عليها الغياب تعيد ترتيب دولابه المرتب أصلا. تعيد طي الجلابيب و تصفيف الطرابيش و قناني العطر. كنت أزورها في عطلي المدرسية، قطعة النور تلك التي أذهلت طفولتي. عند حلول المساء،تعقد جلسة الشاي المحببة لدي ، يصطفيني جدي، حين كان جدي، من بين الصغار و يجلسني بجانبه، أريح رأسي فوق كتفه وأرقبه وهو يرفع إبريق الشاي عاليا و يملأ الكؤوس، يشاكسني، تضحك جدتي حتى تغرورق الزرقة في عينيها الجميلتين، فأحس أن لا شيء كريها يمكنه أن يحدث لي، ألى أن عاد ذات صيف حار وبعد سفر طويل محملا بحقائب من كل الأحجام و رقية. رقية التي تزوجها في غفلة من جدتي، سمراء طويلة بعينين وحشيتين سوداوتين تقطران كحلا وشعر أسود فاحم.أغلقت جدتي عليها باب غرفتها مضربة عني و عن العالم ليومين متتاليين و صعق الأبناء في الأراضي البعيدة.في اليوم التالث صحوت على أناملها كغيمة تمسح على خدي. رمقتها بقهر و كثير من العتاب ثم ارتميت في حضنها ، بكيت كما لم ابك من قبل و كرهت جدي.حاولت تطييب خاطري لكن شيئا ما جميلا انكسر بداخلي. واصلت تدبيرأمور البيت و أنا أتبعها دامية القلب موزعة ما بين إشفاقي عليها و حنقي من خنوعها، لكنها لم تعد كعهدي بها.تلبسها بؤس حقيقي وانحسر سيل الحكايا التي كانت تخصني بها ثم أدمنت التطريز. تراكمت المناديل والأغطية و أضحت جلسات الصفاء ذكرى بعيدة. تزامنا مع ذبول جدتي تحت سوط الخديعة، كانت رقية تستبيح البيت الكبير و تختال في جنباته بثياب كاشفة و شعر منسدل، تلفها غيمة من العطور الباريسية التي دوخت جدي فما عادت أنفاس جدتي و قفاطينها المضمخة بعطر النارنج المقطر تثيره. أصرت كذالك على الدخول على ضيوف جدي من الذكور بعدة الشاي، فتضرب جدتي كفا بكف و تصرخ بأن جدي أصابه الخبل من رأسه حتى أخمص قدميه، مضيفة بغير قليل من الفخرأنها لم تكشف يوما عن فخديها للحاج كما تفعل رقية، و لا تبتث عينيها في عينيه بتلك الصفاقة التي التي تثقنها تلك القصبة المحروقة ، فأنحاز ببراءة إلى حلف جدتي.

في إحدى المساءات وعيني جدتي الكئيبتين منكفئتين على منديل تطرزه، تناهت إلى سمعينا همهمات تبينا منها توسل جدي،أنا مزاوك، وقهقهة رقية المكتومة. عضت جدتي على شفتها السفلى و تجمدت لثوان ثم واصلت التطريز. لم أفهم لما يزاوك جدي في رقية، ولكن حدسي الطفولي خبرني بأن شيأ كريها يحدث في الغرفة المجاورة. أعفيت جدتي شر السؤال وتمددت شاخصة ببصري إلى مربع السماء خلف النافذة وأسئلة شيطانية تتلاطم في رأسي. في الصباح الباكر اجتاحتني رغبة في تفقد جدي. تسللت حافية القدمين إلى جناح رقية فهالني ما رأيت. جدي يحضن رقية المتربعة على حجره و رأسه مدفون في صدرها الأسمر ذي النهدين الضامرين و الحلمتين السوداوين كحبتي تين لم تبلغا النضج، تمضغ العلك كحيلة العينين وتمرر أصابعها الطويلة فوق صلعته القرمزية، وقد وضعت أمامهما عدة الشاي و أطباق المكسرات والحلوى، وعند قدميها يجثو جلباب جدي و طربوشه.

قفزت إلى ذهني صورة صدر جدتي الحليبي وتعاظمت حيرتي. منذ تلك اللحظة انكسر جدي إلى ألف شظية في ذهني وغدا شايه بطعم العلقم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى