نقوس المهدي - مخامرات عباس الثالث

• إلى عبد الكريم العامري في بصرة الله


(والليل أسلم نفسه دون اهتمامٍ للصباح
وأتى الضياء بصوت بائعة الحليب وبالصيام
بمُواء قط جائعٍ لم تَبق منه سوى عظام
بمُشاجرات البائعين ، وبالمرارة والكفاح
بتراشُقِ الصبيان بالأحجار في عُرضِ الطريق
بمسارب الماء الملوّث في الأزقّة، بالرياح
تلهو بأبواب السطوح بلا رفيق في شبه نسيان عميق)
نازك الملائكة



كنت أجري ولا ألتفت....
ولا أذكر تماما كيف خرجت من البناية بعد أن اشتد النباح.. هل قفزت الأدراج أم انشق الإسمنت المسلح.. المهم أنني خرجت وأني كنت أجري ولا ألتفت بعد أن قلت لخيلي ما قاله امرؤ القيس بن حجر الكندي.. والمارة بأعدادهم الغفيرة يلتفتون ويضحكون ويتفننون في نسج شماتتهم على حساب خسارتي.. وأنا أجري ولا ألتفت.. والسيارات بكل أنواعها تزعق ولا تتوقف ليس في أحشائها ذرة من شفقة.. وأنا أجري ولا ألتفت.. والمدينة مدائن فوق مدائن فوق مدائن، وفي كل مدينة سكانها وحدائقها المعلقة.. وعلى شرفاتها ملابس داخلية تنز منها روائح الجنس ما تزال.. وأنا أجري ولا ألتفت.. وصلت إلى مشارف العمران.. كانت الحيطان مزخرفة بدماء موتى حقيقيين.. والعسس قد شرعوا في إغلاق البوابات.. ودوريات الشرطة وفرق خفر السواحل تجوب المنطقة.. كل ذلك شاهدته بأم عيني.. وأنا أجري ولا ألتفت.. وأبتعد عن سرة المدينة وأحتمي بالكلاب التي تتحرش بي.. ورجلاي تعجزان عن حملي.. والليل يتثاءب ثقيلا يلعق بلسانه وجهي ووجه المدى..
وأنا أجري ولا التفت...
لا أرض تحتي.. ولا سماء فوقي..
لا برودة.. ولا دفء..
لا حرارة.. ولا هواء..
لا شدو يمام فنقول صيف..
ولا طنين نحل فنقول ربيع..
ولا أوراق يابسة فنقول خريف..
ولا رذاذ مطر فنقول شتاء..
لا السماء سماء، ولا الأرض أرض
فقط شيء كرطوبة البحر وصلابة البر..
لا أشجار ولا نبات..
لا أسمي الأشياء حمائم فتطير..
ولا الأمكنة أنهارا فتهاجر..
ولا الأزمنة أعواما فتنزلق من بين أصابعي مخلفة حريقا في دمي..
وهذا الليل فصيح مسرج بآلاف النجوم الواجمة المطفأة والقمر الحزين والهواء المثقل بالأنفاس الكريهة وهوام الأرض وحشرات السماء والقوارض والصراطين والجعلان والعظايا والرتيلاء الصراصير الثعابين والحيات ذات الأجراس والضفادع المتربعة على عروش من غسلين.. الناموس والذباب البوم والغربان والخفافيش العقبان والكواسر والفراغ الجسور الناطق بآلاف الخشخشات وآلاف العيون المشعة الواجفة المليئة بالاحتمال والتوجس والحركات الغريبة التي أستأنس بها وتستأنس بي لمخلوقات مسكونة بالرعب مثلي..
شبيهتي في العزلة..
علاقتي الوحيدة بالوجود...
أنا أخيف أذن أنا موجود..
في الواقع لم أكن خائفا، لكنها الكلاب المدربة على قمع مظاهرات الطلبة وثورات الجوع وإضرابات الشغيلة والكادحين، والكلاب الشاردة والضالة والمريضة والمسعورة والجرباء والعمشاء.. وأنا - يا عباد الله - لست خائفا ولا الخوف يعرف سبيله إلى قلبي.. ولم أذق طول عمري كبد دجاج كي لا أخاف.. وشربت كميات من دم الهدهد وتيمنت بريشه.. بريش هذا الطائر المشاكس المطرود من صرح سليمان.. رسوله إلى بلقيس. الآتي من سبأ بنبأ عظيم.. لكن ما العمل والكلاب تترصدني في الأحراش والوديان والسهول والغابات.. والرياح تجري بما لا تشتهي سفني. ولم أجد ضميرا حيا واحدا ينقدني من ضائقتي.. وحده الراوي جعلني أنجو بأعجوبة. وأخذ بيميني وسيرني وفق خطة جعلت الكلاب الأشد شراسة تضل سبيلها إلي..
توقفت عن الجري.. استلقيت على الأرض وسط الشوك والصبار والسدر والعليق والعناب أراقب الفراغ السديمي المتشح بالعتمة، وأرنو لنزق الأمواج تكبحه رصانة السواحل، وأعد دقات قلبي، وأنصت للهاتي المتقطع، كنت متعبا وكريها وجائعا وبي عطش شديد، والعرق ينسكب من بدني، وثيابي ممزقة ومبتلة وعروقي نافرة، ورائحة الغبار ممزوجة بلزوجة أوساخ الجسد المهزول، كنت كجرو يخرج من معركة كلبية خاسرا ممزقا مدمى ومحبطا.. تذكرت إخوتي وأهلي وأصحابي، وصحت في خاطري قرابين ودعوات أمي، ووصايا والدي، وأمنيات خليلتي، وصداقة الكلاب والقطط التي رافقتها ردحا من الزمن وتقاسمت وإياها الخبز والملح.. وددت لو أعناقها وأسند عليها رأسي وأبوح لها بانكسارات العمر الجميل..
لوحت للسيارات الآتية باتجاهي، كان أربابها يمعنون في السرعة، لاشك أنهم سمعوا بحكاية الفتى القادم من بادية ( الرحامنة ) ليعمل بالمدينة، كنت ألوح بيدي وقميصي وجسدي وحواسي، وأضواء المدينة تأتي من بعيد ولا تصل، تغرق في لجة الأطلسي المحيط الازرق الجميل الشاسع السخي الودود.. وفيما كنت أسمع صياح الديكة وآذان الفجر، كان النباح ما يزال يترصدني في الغابات والسهول والأحراش والوديان، والخطر قاب قوسين مني أو أدنى من ذلك.. ومتانتي تكاد تنفجر والضراط على أشده.. وتلك القذارة التي يستعاض عن كتابتها خجلا بنقط سوداء هكذا (......) كما يقول ميلان كونديرا في روايته الجميلة والشائقة (الخفة الغير المحتملة للكائن).. لكن لو كان كلام كونديرا يحمل محمل الجد لما كتب ذلك (الخراء) الذي يمتدح من خلاله ظل الفاشية والإمبريالية العالمية..
توقفت أحدى الحافلات، اِنقذفت وسطها على عجل كان كل ركابها يتضاحكون وكنت بمفردي أبكي...
وقبل أن أصدق أني امتطيت قارب النجاة..
وقبل أن أريح مؤخرتي العجفاء على الأرضية الباردة وسط الممر الضيق والمظلم..
وقبل أن أجازف بفتح باب السؤال..
كان الركاب يشرئبون بأعناقهم ويجاهدون بأبصارهم لرصد ملامحي.. ويطلقون أسماعهم لالتقاط نشيجي. كلهم يتكلمون ولا أحد يستمع ، وأنا مطرق حسير كظيم ومنكمش كقنفذ أرنو بارتياب لبريق عيونهم وشحمات آذانهم المعلقة في الفراغ.. والدموع تنهمر من المحاجر باردة سوداء مرة الطعم.. شاهدت من خلال الرموش البليلة جزمة مطاطية موحلة وعليها روث وتبن وبراز تكاد تصدمني... رفعت رأسي، وبالكاد ميزت شخصا سامقا مادا إلي بورقة لا لون لها..
سألته عن وجهة الحافلة قال: لا أعرف..
سألني عن وجهتي قلت له: لا أعرف..
لتكن وجهتنا جزيرة الواق واق المهم هو الخروج من هذه المنطقة..
تحركت الحافلة نحو الجنوب..
هل تعلمون هذا الجنوب غامر في رحلة بين الرمل والرمل..
خلخل الرمل حتى فاض فخرج..
تدحرج عبر النتوءات ولم يفرق بين السهل والوعر..
قلت فليكن الرحيل إلى الجنوب الحلزوني بن موحا وحمو بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن جنبلاط عبر خارطة الوطن..
كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس..
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش..
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية..
والبحر بين الألوان. غلالات الزبد. المد والجزر أعطى عطره لمراكش كما أعطت اسمها للوطن.. ومضى إلى ما وراء الشاطئ ليطلب اللجوء السياسي..
كلمة واحدة جعلت الحافلة تستأنف سيرها: روووول...
ونفس الكلمة جعلت الركاب يلجمون ضحكاتهم ويستأنفون رطانتهم.. كنت كأني أعرف هذه الأصوات من قديم وأن الكلفة قد رفعت بيني وبينهم.. ما إن ينادي احد أحدهم:
- آآآلبهجــــــــــا..
حتى يلتفت إليه سائر الخلق مجـيـبـيـن:
- نعام آآآمــــولاي..
لكني لم أدع أحدا باسمه ولا أعرف أحدا حتى.. كنت جائعا وخائفا ومنكمشا في أثوابي الرثة المتسخة المبتلة والممزقة علها تفلح في منحي قسطا من الدفء والستر في هذه العربة التي تشبه زنزانة سجن عربي من كثرة ما تراكم فوق أرضيتها من أزبال وقاذورات..
- أنا قلت إن هذه الحافلة متسخة وقذرة كسجن..؟
- كلا.. أنا لم أقل ذلك. أقصد أن السجون عندنا ليست كريهة ولا رهيبة بالحجم الذي تتصورون. وليست صفراء ولا باردة ولا مقرفة.. ذلك كذب في كذب. ضرب من الكلام المغرض نسجه متحاملون بهدف الإساءة لسمعة الوطن السعيد. إن سجوننا بعكس ذلك نظيفة كسجانيها. والملابس مكوية تفوح منها روائح طيبة.. والبق والقمل والصئبان لا وجود لها البتة. ولا وجود للصراصير والجرذان والبراغيث والذباب. ولا وجود للخنافس في وجبات الفول والعدس والفاصوليا والبازلاء، بل لا وجود للبازلاء والفاصوليا والعدس والفول أبدا.. والمراحيض التي تقض المضاجع لا أثر لروائح البول والغائط بها. والجدران مطلية بألوان زاهية تشرح الأفـئدة. وفي الأبهاء الماء والخضرة والأزهار والرياحين محج الفراشات الملونة حاملة الرعشات للأفنان ناقلة القبلات للأكمام.. وبها مسالك للصولجان وحلبات للفروسية. والنزلاء لصوص صغار صغار مهذبون جدا.. وجوههم تطفح منها النعمة ضبطوا فقط وهم يراودون لقمة خبز عن نفسها في سطوة جوع..
أما اللصوص الكبار. الدهاة. المرتشون. المهربون. المخربون. المحتالون. الحاقدون. المخادعون. المفسدون. المقامرون. المتسلطون. المتخاذلون. المتلاعبون. المستهترون. الأنانيون. المزورون. الماكرون. الخونة الذين يهربون الخيرات ويبيعون الوطن فتلك حكاية أخرى قد يسعفنا العمر أو لا يسعفنا للعودة إليها..
كان محرك الحافلة يهدر.. والناس يهدرون ويدحرجون الوشاية والنميمة بينهم.. وأفواههم تقذف سيلا من اللعاب وخيوطا رفيعة من دخان وروائح كريهة، ويطقطقون بتلاعب وحنكة علكة أمريكية..
ونحن نجتاز أنهارا ووديانا ..
لا هي بأم الربيع ولا سبو..
لا بملوية ولا درعة
لا بالنيل ولا دجلة..
لاهي بالعاصي ولا بويب
ولا هي بالفرات ولا بردى..
و( لا أحد يسبح في النهر مرتين ) حقيقة استشعرها هيراقليطس..
وأنا وحيد كما ترون....
( مقطوع من شجرة )..
والليل في أشد حلكته وقد أقسم أن لا يـنبلج..
والهم في أشد وطأته وقد أجزم أن لا ينفرج..
والناس أشكال..
أناس يحتضنون صحائف وثنية مغموسة في ماء السياسة..
وناس وثنيون مغتسلون بماء السياسة..
وناس وطنيون..
وناس سياسيون..
وناس ساسة..
وناس مسيسون
وناس سائـسون..
وناس موسوسون..
وناس متعــبـون.. (مفتوحة عينهم)
وناس متعــبــون (مكسورة عينهم)..
وناس ثعابين..
وناس أجورهم كمؤخرة دجاجة منها تبيض وتتبرز وتـتـسافد..
وناس يؤجرون عيونهم..
وناس يؤجرون ألسنتهم..
وناس يؤجرون آذانهم..
وناس يؤجرون أكتافهم..
وناس مأجورون..
وناس أجراء
وناس لا أجرة لهم ..
وناس يتحدثون عن أصل الأجناس. وكيف خلق الله حواء من ضلع آدم.. وأول عملية قيصرية.. منذ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو..
وناس يتكلمون عن المساواة والديمقراطية والعدالة بثقة في النفس عالية.. كأننا لم نتذوق هذه الديمقراطية ولم نأكلها شطائر شطائر. ولم نرعب بها أبناءنا حينما يمتطون شيطان شقاوتهم. وكأننا لا نملك العمارات والسيارات ولا نبني قصورا من الأحلام ولا نأكل في كل وجبة خروفا.. ولا نفترش ريش النعام ولا نلبس الحرير والديباج ولا ننام في أحضان الحوريات الحسان اللاتي لم يطمثهن إنس ولا جان..
كان اللغط على أشده.. وأنا مطرق أستمع واجما حافظا لساني بين مصدق وغير مصدق لما وصل إليه هؤلاء الناس من معرفة وتبحر في العلوم. أنا الوحيد الأمي الجاهل الحقير المعتوه الأحمق بينهم الذي لا يفقه شيئا. والظلام ظلمات.. ظلمة الجهل. وظلمة الحافلة. وظلمة الليل. وظلمة الزراية. وظلم الاحتقار.. وظلم الوحدة. ورأسي تكاد تنفجر من كثرة اللغط.. وفي كل لحظة تقف الحافلة، فينزل قوم وتصعد أقوام ساحبة وراءها عطالتها وأوساخها وأمراضها وفقرها المزمن، أفاعيها وقردتها وعاهاتها، وصوت الكمان يصر. كمنجات من فائض علب المعونات الأمريكية..
رفعت رأسي ، كانت ثقيلة كدمي.. وظهرت من خلال الرموش البليلة المراعي والحقول والمداشر والقرى والبيوت التي تتوسد فاكهة النساء. وفي الممر الضيق أخذت تتحدد ملامح الركاب.. من قبل كنت أميزهم من خلال حديث الرجال عن أشيائهم، ومن كلام النساء عن أشيائهن . والآن وبعد أن توضحت الرؤية فالرجال مجلبـبـون وبدون جلابـيب.. وعلى النساء آثار زينة، خليط من بهارات وعطر كريه، زيوت ونيلة وحناء وسواك ومساحيق ووشم وحرقوص وأصباغ وصليل خلاخيل وأقراط وأساور. ومن بين الركاب إخوة عرب بأزيائهم الوطنية وأنوفهم المعقوفة.. لا شك أنهم وفدوا في مهمات رسمية.. يسرحون شعر عاناتهم ويمسدون حشفاتهم بأطراف أصابع متسخة. ويجرون وراءهم ككارثة جغرافيا مليئة بالانكسارات وتاريخا مليئا بالانتصارات لحروب انتصروا فيها ولم يخوضوها، مرورا بحروب الاستنزاف حتى عاصفة الصحراء..
تذكرت للتو قراءاتي المبكرة لكتابات الفقيه العلامة سيدي محمد النفزاوي رحمه الله وشجاعته النادرة وتتلمذي على يديه ونجابتي وسرعة إدراكي لما كتب..
توقفت الحافلة.. انقذفت منها.. كان والدي يقرفص بجانب العربة تحت سماء الرحامنة الزرقاء وشمسها الملتهبة، ويشير بذراعيه كأنما يحاور كائنات أسطورية.. قبلت رأسه وبادرني بالسؤال..
- هل ?
- لا ..
- هل?
- لا..
- هل?
- لا..
- هل?
- لا..
جملة :هل?
وحاصل:لا ..
استشاط غضبا وهو يتوعدني ويكيل لي اللعنات..
- كلب ابن كلبة..
- أكتافك كأكتاف البغل..
- ستفلح حينما يفلح أخوالك..
حتى أنت يا أبي تتنكر لي كهذا الزمان..
أنا ابنك عباس الذي انضحك عليه..
أنا عباس الذي الجوع والحرمان يعرفه..
عباس الذي قالوا لا ترجى من ورائه فائدة..
عباس الذي أغرقوه في المالح ليأكله القرش..
عباس الذي نسوه في أقبية المخافر لصلابة رأسه..
عباس الذي أرضعوه لبن حمير فأضحت الحمارة أمه بالرضاعة..
عباس الذي أرضعوه لبن حمارة فصارت الحمير إخوته من الرضاعة ..
عباس المتوحش في المزايا..
عباس المتوحد في الرزايا ..
عباس الشاهد..
عباس الشهيد..
عباس المتشهد..
عباس المستشهد..
عباس التشهد..
عباس الشهادة..
عباس المشاهد ..
عباس المشاهدة..
عباس الاستشهاد..
عباس المشهد ..
لكنك أبي يا أبي.. وإخوتي هم الذين..
ولو لم تكن أبي.. لافترقت وإياك في الطريق ولسلك كل منا سبيله..
كنت مطأطئا رأسي خافضا له جناح الذل من الرحمة، أسابق ظلي ويسابقني، أسبقه فيسبقني، ويسبقني فأسبقه، وما نلبث أن نعلن حلفا ونتواطأ ضد الوقت والطريق والضجر كالخير والشر ، الصوت والصدى ، القوس والسهم، النار والشرارة، الجمر والرماد، والمد والجزر .. وأراقب الحقول ملجمة بالخراب.. والفزاعات بنت على هاماتها الطيور أعشاشها، وألسنة اللهب تتلوى في الفراغات السديمية، والناس يفرون من أكواخهم مخلفيـن النعمة والمجد والجاه، ويسفحون دماءهم لإخماد جذوتها بينما يؤججون العاصفة، والنساء يضاجعن ذئابا لها علاقات مشبوهة بتيوس مقنعة، وتحت ظلال الخرائب اجتمعت اللقالق لتناقش مشاكل الهجرة بينما الزمن ينسج حتفهم بخيوط من مصير سلالات بائدة.
وثمة تحت الشفق المضرج بأشعة شموس سادرة جلس رعاة بأسمال ملوك مشردين يداولون بينهم بشبق عقيم فاكهة محرمة، فيما استيقظت في داخلهم صداقات صاخبة لتماسيح أليفة، وينصتون بحزم لتخرصات رهبان إباحيين، فيما الجرابيع تجرجر بمؤخراتها كواكب نحو أفول سحيق.
والناس الذين أعرفهم وتوهمت أنهم يعرفونني يحاولون جاهدين إدخال جمل في قدر.. وحينما كنت أبتسم في وجوههم كانوا يشيحون عني بأبصارهم ويضحكون ضحكات غريبة تجلجل في أعماقهم كالزمجرة... والذين كانوا يكنزون الذهب والفضة ونذوب في وضاعتنا بحضرتهم يجمعون قشور الخضراوات من مزابل الفقراء المكتظة بالقطط والجرذان..
وفيما كنا نقترب من المنزل.. وفي رأسي تتضارب أشتات من عواء وعويل وأزيز وهدير وأهازيج غجر.. كان والدي يتكلم ويلوح بيديه لا يزال، ويتوعدني بالعصي التي أعد لي والحبال التي أودعها لرحمة الماء رأفة بي.. وكانت الكلاب التي ظننتها تعرفني وظننت أنها صديقتي، وكنت وإياها كسمن على عسل، تهر في وجهي بضراوة.. استحلفتها بالخبز والملح والذكريات الدفينة والعلاقات القديمة، ناديتها بأسمائها لكنها تجاهلتني وتصدت لي قطعانا قطعانا تستحل سفك دمي..
رميت بقجتي.. وأخذت أجري ولا ألتفت..
وال (.... ) يدق بعنف..
وال ( ..... ) ينسكب من جسدي..
وال ( ..... ) يشرشر على فخداي..
وال ( ..... ) قد جف..
وال ( ...... ) يسيل عطنا لزجا من مؤخرتي..
وال ( ...... ) تطاردني بوحشية وتستبيح سفك دمي..
وأنا أجري ولا ألتفت..
وأنا أجري ولا ألتف..
وأنا أجري ولا ألت..
وأنا أجري ولا أل...
وأنا أجري ولا أ....
وأنا أجري ولا .....
وأنا أجري ول......
وأنا أجري و.......
وأنا أجري........
وأنا أجر...........
وأنا أج.............
وأنا أ...............
وأنا ................
وأن ................
وأ...................
و...................


* نشرت بجريدة الآنوار / أنوال

تعليقات

في طفولتي (12 سنة تقريبا)شاهدت مسرحية في دار الشباب القريبة من حينا... مسرحية كان بطلها يجري و يجري ويصيح"أين الناس، أين الناس؟) ومازال يجري حتى قبض عليه من طرف المخزن ، وما زلت أتذكر أن المخرج ظهر في اللحظة فق الخشبة وقال لنا سأقترح عليكم نهايتين للمسرحية واستؤنفت المسرحية فأعطى الشرطي للبطل خاتما من ذهب وجبة من حرير فأخذ البطل يتأمل الخاتم وهو يلبس الجبة ثم عاد من حيث أتى ولم يعد لصيحته المدوية "أين الناس" و النهاية الثانية أنه قبض عليه وقدم للمحاكمة بتهمة تهديد أمن الدولة. ونحن في تلك الفترة رجحنا النهاية الثانية على النهاية الأولى .
أخي وصديقي الأعز السي المهدي:
مرة أخرى ضربتَ لك موعدا مع الإبداع الراقي وأشركتنا معك فيه فطوبى لنا وشكرا جزيلا لك مولانا.
 
في طفولتي (12 سنة تقريبا)شاهدت مسرحية في دار الشباب القريبة من حينا... مسرحية كان بطلها يجري و يجري ويصيح"أين الناس، أين الناس؟) ومازال يجري حتى قبض عليه من طرف المخزن ، وما زلت أتذكر أن المخرج ظهر في اللحظة فق الخشبة وقال لنا سأقترح عليكم نهايتين للمسرحية واستؤنفت المسرحية فأعطى الشرطي للبطل خاتما من ذهب وجبة من حرير فأخذ البطل يتأمل الخاتم وهو يلبس الجبة ثم عاد من حيث أتى ولم يعد لصيحته المدوية "أين الناس" و النهاية الثانية أنه قبض عليه وقدم للمحاكمة بتهمة تهديد أمن الدولة. ونحن في تلك الفترة رجحنا النهاية الثانية على النهاية الأولى .
أخي وصديقي الأعز السي المهدي:
مرة أخرى ضربتَ لك موعدا مع الإبداع الراقي وأشركتنا معك فيه فطوبى لنا وشكرا جزيلا لك مولانا.
تحيات طيبات اخي الغالي السي مصطفى . وشكرا على كلمتك البديعة..

ان الحياة هكذا مسرح واسع وكبير مليء بكل المشاكل والمطبات والمعيقات والاكراهات .. ولا قيمة للفرد فيها.. وحين يحس بافول قيمته فانه يصاب بالهوس والضجر .. وبكل انواع القهر.. و لا يستطيع بمفرده ان يغير اي شيء..
وما فعله المخرج في المسرحية، هو شبيه لما كان يردده الناس عن مالك قاعة سينما بسيدي بنور في بداية عهدها بقاعات السينما مهدئا ومطيبا نفوس المتفرجين الذين يشرعون في الصياح، وتكسير الكراسي .. حينما يصاب البطل (الولد) بسهم او طلق ناري.. بانه لن يموت رغم اصابته.. وسيعالج ويعود..

شكرا على مرورك وكلمتك الطيبة
 
أعلى