لا يذكران متى جرى ذلك الأمر لأوّل مرّة ، لكنّ البداية كانت قديمة قليلاً ، والأمر صار متّفقاً عليه بأنّ البداية جدّ قديمة ، وما من أحد يريد نبش التواريخ لتسجيل نقطة البدء ، لأنّ الأمرَ بات متكرّراً ومعتاداً ومقبولاً بل ومن المسلّمات ، وبحكم الأمر الواقع
وقالت لزوجها هامسةً :
-عسانا ننتقل من ها هنا ، فنجد لنا سكَنَاً أكثر سكينة بمحيطٍ جديد.
وابتسم الزوج وأجاب وكلُّه ثقة :
-تقصدين نرحل كالرّاحلين ؟
وخفّفت الزوجة من أهمّية طلبها وضرورته بقولها :
-لا أقول الآن ، والأمر غير مهمّ ، لكنْ لنضعه في حسباننا ، أتمنّى أن نبدأ حياتنا من جديد بمحيطٍ نجهله ويجهلنا ، كغرباء بأرضٍ جديدة ، ونبني علاقاتنا مع المحيط بدون البناء على سوابقنا وخلفياتنا .
-لكنّنا بتنا معروفين هنا ، وهذا الحيّ لنا فيه جيران ومعارف وخلّان وذكريات .
ونظرَتْ في عيني زوجها بشفقة محاولة أن ترى ما خلف عيونه ، هذه الذكريات التي يتفاخر بها ، هِيَ ..هيَ التي تقلقها وتؤرّقها وتقرّحها لذلك تريد قطع دابرها وقصّ أظافرها المخرّشة ، فقالت :
-إن ما أقصده بتغيير المحيط هو تغيير الجيران
وأشاح الرجل بوجهه عنها ، وأطرق أرضاً وقال :
-والله أوصى بسابع جار
فأجابت وقد ارتفعت حدّة صوتها :
-وقد يكون بعقر داري وكرٌ لأفعى مجلجلة ؟
وازداد رأسُه طأطأة ، وقال :
-فهمت ، ذاك الجار المزعج يتطاول على الجميع ، والكلُّ ساكتٌ إزاء تطاولاته ، ومثلنا مثل غيرنا ، ولن يستطيع أحدٌ وضعَ حدٍّ لتجاوزاته حالياً، وحتى الآن .
قال ذلك وانسحب من وجهها إلى شأنه ، وسمِعَتْه يقول وهو يخرج مُتمتِماً:
-سنضع له حدّاً ونلجم رعنائه بالاتفاق مع بقية الجيران ، سنتضامن ، لا تقلقي ، اصبري ، أو تناسَي قليلاً ، ولكلّ شيء نهاية .
ها هو ويريد أن ينسى ، وقبل قليل كان يتفاخر بذكرياته !
نعم ، ولا صوتَاً مسموعاً في ذلك الحيّ إلا صوته ، ولا أمراً تمّ أو سيتمّ إلا بأمره . ذلك الجار الأخطبوط الدّبق ، ليس رئيساً للحيّ ولا مختاراً ، لكنّه المسيطر عنوةً منه أو رغبةً من الآخرين بالاستزلام لديه ، قد يكون السبب أنهم اضطرّوا للاستدانة منه يوماً لفكّ ضيقاتهم المادية فاستفحلت ديونهم وعجزوا عن سدادها ، وقد ، وقد ...
لكنّها وزوجها ما استدانوا منه على فقرهما ، ويرفعا صوتهما بالحيّ بكبرياء الشرف والعزّة وعدم الخضوع لمشيئته .
كان جارَاً مجاوراً لبيتهم الصغير القديم ، غريبٌ عن الحيّ ولم يولد فيه مع أنه يدّعي بأنّ جدّه كان هنا ، وكان له قصرٌ منيف ، وانهار ، ولم يبقَ منه إلا حائطاً حجريّاً كشاهدة يستشهد بها على أحقّيته بين بيوتهم الطينية .
وشيّد ذلك الجار بيتاً منيعاً هو الأعلى في الحيّ الفقير ، ومنه كان قادراً على التلصّص على الشوارد والموارد فلا تخفى عليه خافية ، فإذا استحمّت امرأةٌ كان قادراً على سبر أغوارها بمنظاره المكبّر ، ناهيك عن أجهزة تنصّته ، لا بل الأخطر من ذلك كانت عيونه وآذانه التي زرعها بينهم من أبناء جلدتهم ، منغمسين واشين على بعضهم كالسّوس ينخر في عيدانهم الهشّة .
والوحيد بينهم هو من كان يملك بندقية للصيد ، وأين يصيد وماذا يصيد ؟ ويطلق النار على العصافير الطيّارة ، والحمائم التي كان بعضهم يقتنيها ، يُرديها ببندقيته لمجرّد أنها رفرفت فوق حياضه ، ولا يأكل من صيده ، بل يعيد كل حمامة قتيلة لصاحبها إن سقطت بقصره ، وإن أصيبت في سماء جيرانه ستسقط عليهم جريحة فيجهِزون عليها لإراحتها ، أو قتيلة فينتفون ريشها ويأكلونها بصمت لأنّ عمرها قد انتهى .
وأصبح صوت إطلاق النار مألوفاً لدى الجيران فلا يرتكسون له ، لأن الجار قد يكون يرمي رشقاتٍ هوائية تحذيرية أو يجرّب سلاحه تجريباً .
رجالُه وقفوا ببابها طارقين ، وتخفّت وراء بابها العتيق وقالت :
-زوجي ليس هنا ، ولا يمكنني فتح الباب
وقالوا :
-نعرف أنه بالأرض يحرثها الآن ، وهو موافق على دخول السيد لبيتكم لتقصّي الحقيقة .
واستغربت الزوجة موافَقة زوجها عن بُعد ، وهو المتعصّب الذي يحظّر عليها الانكشاف على الغير ، وقالت :
- ألا يمكن التأجيل لساعة العصر ليكون موجوداً ، وأية حقيقة يريد سيدكم تقصّيها ؟
وأجاب أحدهم بلهجة الأمر :
-يريد كشف الحقيقة المُرّة المستعصية ، هيا افتحي !
-مهلاً كي أستر نفسي كما يجب .
يومَها على مصراعيه انفتح بابها ، وظلّ الحرس حارسين الباب ، بينما دخل الجار السيد تحت الحجاب !
وعاد الرجل عصراً من فلاحته منهَكاً ، ووجدها تبكي ، وسألها عن حالها ، فقالت والدموع بعينيها :
-الجار السيد جاء متقصّياً عن الحقيقة المُرّة ، وقالوا لي أنكَ وافقْتَ على دخوله حرَمَ بيتك .
وانهال الزوج الغيور على زوجته ضرْباً حتى أثخنها ، بحيث ما عادت قادرة على سؤاله عن الأمر الذي تمّ ، وهل كان بموافقته ؟
في اليوم الثاني ، كان متردّداً في الخروج إلى أرضه كالعادة ، كان يريد أن يستحي من إخوانه بدافع الثمالات الباقية من رجولته . لكنّ صوتاً قوياً لإطلاق نار قريباً منه جعله يجفل ، فلا رجولة تبقى أمام البندقية ، وسقطت حمامة جريحة بصحن داره ، وخرج إليها ورآها مضرّجة بلا حراك ، ثم تراجع مذعوراً لطلقةٍ أخرى انهالت من عل ، ليس هو المقصود ، بل قد اصطاد الجار السيد دجاجة من دجاجاته ، وكانت تخوض مع صيصانها في صحن داره .
ورأى عيون زوجته التي تبكي من خلف ستارة غرفة نومها ، فعاد إليها ليثخنها ضرباً من جديد ، وكان يشتمها مؤكّداً أنّها هي التي أغرت الجار السيد ليقتحم داره ، وهي التي لا تلتزم بالسّتر في صحن دارها الذي يشرف قصر الجار عليه ، وها هو اليوم يصيد دجاجاته بحضوره .
أتظنّين أنه يطلق النار من أجل دجاجة في بيتنا ؟
إنه يطلق النار من أجلكِ يا عاهرة ؟
وتركها تسبح بدموعها ، وخرج يدقّ أرضه بمعوله
وعاد عصراً واجماً ليأكل من دجاجته التي طبخَتْها له ، ووجد الحمامة المحمَّرة لذيذة ، فنام سعيداً
وعندما استفاق نسيَ أن يسألها عن الجار الذي جاء اليوم أيضاً ليستقصي الحقيقة المرّة ، ويومَها لم يستحِ من الخروج ليلاً لشرب الشاي في قهوة الحيّ ، وحتى رفاقه الذين يشاركونه لعبة الورق لم يسألونه عن الجار الذي استباح بيته لأنه استباح بيوتهم من قبله أو بساتينهم وكشف حقائقهم المُرّة ، وكان لكل منهم شارباً للعزّ والأنفة والسؤدد يمسّده ويلعقه .
والأمر كما قلنا في البداية صار مألوفاً ومتكرراً ومُعاداً ومعتاداً ، بل ومن المسلّمات أن تكون كل البيوت مستباحة ، ولذا ما عاد الزوج يضرب زوجته ، لا بل ما عاد يتّهمها ، لا بل صار كغيره ممّن يزورون الجار السيّد بالمناسبات والأعياد ، ذاك الجار السيد الكريم الذي يشتري منه محصوله ويدفع بسخاء .
وهكذا بقيت الحقيقة المُرّة مستباحة ، ولم تكُ مستعصية على الفهم ، مفهومة ومسلّمٌ بها تسليما .
*************
وقالت لزوجها هامسةً :
-عسانا ننتقل من ها هنا ، فنجد لنا سكَنَاً أكثر سكينة بمحيطٍ جديد.
وابتسم الزوج وأجاب وكلُّه ثقة :
-تقصدين نرحل كالرّاحلين ؟
وخفّفت الزوجة من أهمّية طلبها وضرورته بقولها :
-لا أقول الآن ، والأمر غير مهمّ ، لكنْ لنضعه في حسباننا ، أتمنّى أن نبدأ حياتنا من جديد بمحيطٍ نجهله ويجهلنا ، كغرباء بأرضٍ جديدة ، ونبني علاقاتنا مع المحيط بدون البناء على سوابقنا وخلفياتنا .
-لكنّنا بتنا معروفين هنا ، وهذا الحيّ لنا فيه جيران ومعارف وخلّان وذكريات .
ونظرَتْ في عيني زوجها بشفقة محاولة أن ترى ما خلف عيونه ، هذه الذكريات التي يتفاخر بها ، هِيَ ..هيَ التي تقلقها وتؤرّقها وتقرّحها لذلك تريد قطع دابرها وقصّ أظافرها المخرّشة ، فقالت :
-إن ما أقصده بتغيير المحيط هو تغيير الجيران
وأشاح الرجل بوجهه عنها ، وأطرق أرضاً وقال :
-والله أوصى بسابع جار
فأجابت وقد ارتفعت حدّة صوتها :
-وقد يكون بعقر داري وكرٌ لأفعى مجلجلة ؟
وازداد رأسُه طأطأة ، وقال :
-فهمت ، ذاك الجار المزعج يتطاول على الجميع ، والكلُّ ساكتٌ إزاء تطاولاته ، ومثلنا مثل غيرنا ، ولن يستطيع أحدٌ وضعَ حدٍّ لتجاوزاته حالياً، وحتى الآن .
قال ذلك وانسحب من وجهها إلى شأنه ، وسمِعَتْه يقول وهو يخرج مُتمتِماً:
-سنضع له حدّاً ونلجم رعنائه بالاتفاق مع بقية الجيران ، سنتضامن ، لا تقلقي ، اصبري ، أو تناسَي قليلاً ، ولكلّ شيء نهاية .
ها هو ويريد أن ينسى ، وقبل قليل كان يتفاخر بذكرياته !
نعم ، ولا صوتَاً مسموعاً في ذلك الحيّ إلا صوته ، ولا أمراً تمّ أو سيتمّ إلا بأمره . ذلك الجار الأخطبوط الدّبق ، ليس رئيساً للحيّ ولا مختاراً ، لكنّه المسيطر عنوةً منه أو رغبةً من الآخرين بالاستزلام لديه ، قد يكون السبب أنهم اضطرّوا للاستدانة منه يوماً لفكّ ضيقاتهم المادية فاستفحلت ديونهم وعجزوا عن سدادها ، وقد ، وقد ...
لكنّها وزوجها ما استدانوا منه على فقرهما ، ويرفعا صوتهما بالحيّ بكبرياء الشرف والعزّة وعدم الخضوع لمشيئته .
كان جارَاً مجاوراً لبيتهم الصغير القديم ، غريبٌ عن الحيّ ولم يولد فيه مع أنه يدّعي بأنّ جدّه كان هنا ، وكان له قصرٌ منيف ، وانهار ، ولم يبقَ منه إلا حائطاً حجريّاً كشاهدة يستشهد بها على أحقّيته بين بيوتهم الطينية .
وشيّد ذلك الجار بيتاً منيعاً هو الأعلى في الحيّ الفقير ، ومنه كان قادراً على التلصّص على الشوارد والموارد فلا تخفى عليه خافية ، فإذا استحمّت امرأةٌ كان قادراً على سبر أغوارها بمنظاره المكبّر ، ناهيك عن أجهزة تنصّته ، لا بل الأخطر من ذلك كانت عيونه وآذانه التي زرعها بينهم من أبناء جلدتهم ، منغمسين واشين على بعضهم كالسّوس ينخر في عيدانهم الهشّة .
والوحيد بينهم هو من كان يملك بندقية للصيد ، وأين يصيد وماذا يصيد ؟ ويطلق النار على العصافير الطيّارة ، والحمائم التي كان بعضهم يقتنيها ، يُرديها ببندقيته لمجرّد أنها رفرفت فوق حياضه ، ولا يأكل من صيده ، بل يعيد كل حمامة قتيلة لصاحبها إن سقطت بقصره ، وإن أصيبت في سماء جيرانه ستسقط عليهم جريحة فيجهِزون عليها لإراحتها ، أو قتيلة فينتفون ريشها ويأكلونها بصمت لأنّ عمرها قد انتهى .
وأصبح صوت إطلاق النار مألوفاً لدى الجيران فلا يرتكسون له ، لأن الجار قد يكون يرمي رشقاتٍ هوائية تحذيرية أو يجرّب سلاحه تجريباً .
رجالُه وقفوا ببابها طارقين ، وتخفّت وراء بابها العتيق وقالت :
-زوجي ليس هنا ، ولا يمكنني فتح الباب
وقالوا :
-نعرف أنه بالأرض يحرثها الآن ، وهو موافق على دخول السيد لبيتكم لتقصّي الحقيقة .
واستغربت الزوجة موافَقة زوجها عن بُعد ، وهو المتعصّب الذي يحظّر عليها الانكشاف على الغير ، وقالت :
- ألا يمكن التأجيل لساعة العصر ليكون موجوداً ، وأية حقيقة يريد سيدكم تقصّيها ؟
وأجاب أحدهم بلهجة الأمر :
-يريد كشف الحقيقة المُرّة المستعصية ، هيا افتحي !
-مهلاً كي أستر نفسي كما يجب .
يومَها على مصراعيه انفتح بابها ، وظلّ الحرس حارسين الباب ، بينما دخل الجار السيد تحت الحجاب !
وعاد الرجل عصراً من فلاحته منهَكاً ، ووجدها تبكي ، وسألها عن حالها ، فقالت والدموع بعينيها :
-الجار السيد جاء متقصّياً عن الحقيقة المُرّة ، وقالوا لي أنكَ وافقْتَ على دخوله حرَمَ بيتك .
وانهال الزوج الغيور على زوجته ضرْباً حتى أثخنها ، بحيث ما عادت قادرة على سؤاله عن الأمر الذي تمّ ، وهل كان بموافقته ؟
في اليوم الثاني ، كان متردّداً في الخروج إلى أرضه كالعادة ، كان يريد أن يستحي من إخوانه بدافع الثمالات الباقية من رجولته . لكنّ صوتاً قوياً لإطلاق نار قريباً منه جعله يجفل ، فلا رجولة تبقى أمام البندقية ، وسقطت حمامة جريحة بصحن داره ، وخرج إليها ورآها مضرّجة بلا حراك ، ثم تراجع مذعوراً لطلقةٍ أخرى انهالت من عل ، ليس هو المقصود ، بل قد اصطاد الجار السيد دجاجة من دجاجاته ، وكانت تخوض مع صيصانها في صحن داره .
ورأى عيون زوجته التي تبكي من خلف ستارة غرفة نومها ، فعاد إليها ليثخنها ضرباً من جديد ، وكان يشتمها مؤكّداً أنّها هي التي أغرت الجار السيد ليقتحم داره ، وهي التي لا تلتزم بالسّتر في صحن دارها الذي يشرف قصر الجار عليه ، وها هو اليوم يصيد دجاجاته بحضوره .
أتظنّين أنه يطلق النار من أجل دجاجة في بيتنا ؟
إنه يطلق النار من أجلكِ يا عاهرة ؟
وتركها تسبح بدموعها ، وخرج يدقّ أرضه بمعوله
وعاد عصراً واجماً ليأكل من دجاجته التي طبخَتْها له ، ووجد الحمامة المحمَّرة لذيذة ، فنام سعيداً
وعندما استفاق نسيَ أن يسألها عن الجار الذي جاء اليوم أيضاً ليستقصي الحقيقة المرّة ، ويومَها لم يستحِ من الخروج ليلاً لشرب الشاي في قهوة الحيّ ، وحتى رفاقه الذين يشاركونه لعبة الورق لم يسألونه عن الجار الذي استباح بيته لأنه استباح بيوتهم من قبله أو بساتينهم وكشف حقائقهم المُرّة ، وكان لكل منهم شارباً للعزّ والأنفة والسؤدد يمسّده ويلعقه .
والأمر كما قلنا في البداية صار مألوفاً ومتكرراً ومُعاداً ومعتاداً ، بل ومن المسلّمات أن تكون كل البيوت مستباحة ، ولذا ما عاد الزوج يضرب زوجته ، لا بل ما عاد يتّهمها ، لا بل صار كغيره ممّن يزورون الجار السيّد بالمناسبات والأعياد ، ذاك الجار السيد الكريم الذي يشتري منه محصوله ويدفع بسخاء .
وهكذا بقيت الحقيقة المُرّة مستباحة ، ولم تكُ مستعصية على الفهم ، مفهومة ومسلّمٌ بها تسليما .
*************