عندما غزا الألم الموجع منطقة البطن المنتفخة بعض الشيء، والذي يتحرك من يمينها إلى شمالها بحركة شبه بندولية في منطقة السرة التي غارت في العمق، رقد سلام بشعر منفوش، وتضاريس وجهه متبدلة بين حين وآخر، وبدا كالليمونة الذابلة، وهو مغمض العينين، غائرهما. أخذ يفكر، وهو في فراشه، بما كان يعيق عمله في الدائرة بالأوقات العادية، ويزعجه، خلافاته مع صديقه (عزيز)، حيث يصل الجدال بينهما إلى حد الصياح، وبعدها يعودون أصحاب، وحبايب، كما يقولون هم، ويصفهم زملاءهم، وهذه نتائج خلافاتهم المستمرة بلا طائل. وكذلك يأتون على ذكر الأفلام الجديدة في دور السينما عندما يكون الذي بينهما "دهن ودبس". أما في البيت فصوت القدر، وهو فوق طباخ الغاز يغلي، يصفر بتواصل مزعج فيما أمه تأخذ قسطا من الراحة في غرفتها، وهي متمددة في سريرها الخشبي الذي نامت علية ليلتها الأولى بأحضان زوجها المتوفي منذ عشر سنين، والكسل الذي تلبس كل جسمه قد أنهكه جدا، فيما خارج الدار كان الهواء رطبا، وحارا بعض الشيء، والنهار يسحب أذياله.
استغرق سلام في التفكير طويلا، وشغل باله المهدود، كدارٍ خاوية على أنقاضها، كل هذا التفكير، ان كان داخل البيت أو كان خارجه في الدائرة.
اتخذت أفكاره هذه في البداية طابعاً حادا، وغير عادي تماما كزجاج مكسور حاد الحواف. لم يفكر بما سيؤول إليه راتبه للشهر القادم، وماذا ينقصه، وكم يزيد. ولا إجازته المزمع التقديم عليها. ولا أمه التي تخاف عليه، وهو بهذا العمر الذي تجاوز فيه سن الشباب، وطلعت له بعض الشعيرات البيض في فوده. لم يفكر بما يفكر به الإنسان العادي في أوقات فراغه، وراحته، أو كان على سرير المرض كما هو الآن. لقد كانت أفكاره جديدة، وطرية، هذه المرة. كانت أفكار غير مطروحة في باله التعبان. فكر اليوم بوضعه مثل "ترس" في آلة كبيرة يسمونها الحكومة.
هذا اليوم أيضا لم يستطع الذهاب إلى عمله، وظل في فراشه. لم تحضر تفكيره القراءه، ولا الكتابة، ولا أي شيء من همومه العادية. فيما السماء تبدو من خلل نافذة الغرفة رمادية اللون، ومملة، وغير مستساغة من نفسه اللائبة، والمتألمة. والساعة تتكتك بصوت رتيب، وهي على الجدار فوق رأسه التعبان. كان لا يشعر برغبة في النوم على فراش المرض بشرشفه الأبيض، ومخدته الغائرة تحت ثقل رأسه.
فكر سلام، متسائلاً بينه، وبين نفسه: من أنا؟ أجاب بصوت واهن، وضعيف: أنا مواطن عراقي، موظف في دائرة حكومية، وصلت إلى هذا العمر، ولم اتزوج. إذن، أنا "ترس" يدور في آلة الدولة الكبيرة، يدور كالآخرين بلا توقف. "ترس" مسنن على أية حال. واليوم لا يعمل هذا "الترس" في تلك الآلة الكبيرة. تراكمت عليه الأتربة، والأوساخ، أصبح متوقفا. هل تسير الأمور لوحدها دون هذا "الترس"؟ تساءل في قرارة نفسه الملتاعة التي تتجرع ألم البطن الحاد، والموجع، وكان الجواب غائبا من تفكيره.
بالكاد فتح سلام عينيه على وسعهما، أخذ سيجارة، وراح يدخنها دون لذة، أو انتعاش، أو تحبب. كانت أفكاره، وهو ملقى على فراش مرضة، مشوشة، وغير مترابطة ببعضها، فتركت في نفسه شعورا بالاحباط، والقهر، وراح من جديد يحدث نفسه عن "الترس" الصغير الذي يمثله هو في آلة الدولة الكبيرة، وقد تعب، ووهن العظم منه، وحاصرته الأوساخ، والأتربة، وتركته خائر القوى.
- نعم!... أنا "ترس" صغير في آلة الدولة الكبيرة، وهي لا تهتم بهذا "الترس"، ولم تفكر فيه يوما ما. أنا، سلام، الموظف الحكومي، الذي توقف عن العمل بسبب رقودة في فراش مرضه.
فجأة، راخ تفكيره المشوش، والموجوع إلى خارج غرفته، وبيته، مرّ في الشارع الذي فيه داره، والظلام كان حالكا، وبصورة ضبابية، وبصعوبة، رأى مدينته ينهار فيها كل شيء، حتى تمثال الحبوبي ينشطر إلى شطرين غير متساويين.
ثمة "تروس" صغيرة، وكبيرة، في الآلة. فكر. وكل "ترس" يعمل برتابة مرسومة، وهو ساكت عما يجب عليه عمله، حسب الذي يشغله، وحسب البرنامج الذي لا يعرفه، والمرسوم له كالوشم الثابت.
أنا راقد في فراش المرض، تساءل: هل ستتوقف الآلة عن العمل؟ هل ستتوقف الحكومة؟ هل سيتوقف كل شيء؟
أجاب عن هذا السؤال في قرارة نفسه قائلا: كلا، لن يتوقف طالما هناك من يقوم مقامي بأبخس الأثمان، البطالة منتشرة في كل مكان، سيكون "ترسا" كالآخرين، سيدور ويتحرك مثل أي ترس آخر.
أخذ سلام نفساً طويلاً من سيجارته التي وصلت إلى عقبها الأصفر الصغير. كان يدخن بشراهة من فطر توا من صيام اليوم بأكمله. عيناة تنظران إلى سقف الغرفة الأبيض الذي علاه بعض سواد دخان السيكاير. والمروحة السقفية تدور برتابة، وبطئ، وهدوء. رمى العقب من بين أصابعه من خلال فتحة الشباك الذي شرعت ضلفتيه، وتجمعت ستارته في ركن منه، في حين كان المساء قد بدأ يهبط على المدينة، ويغطيها بغلالة شبه مظلمة، وما زال تفكيره مشغولا "بالترس"، والآلة، والحكومة.
عندما شفي من مرضه بعد خمسة أيام، من الألم، والوجع، أصبح أكثر هدوء، وأكثر وقارا، مما كان عليه قبل أن يقع طريح فراش المرض. غاب عنه تفكيره المشوش، واستكان إلى وضعه الذي يعيشه كل لحظة. أخذ يصل إلى دائرته قبل أن يصل لها جميع الموظفين العاملين فيها، ويتركها بعد أن يخرج آخر موظف فيها.
صار يبدي للمراجعين أقصى درجات الاحترام، واللياقة، في معاملتهم، فينهي أشغالهم بأقصر فترة زمنية حتى أن زملاءه في دائرته انتبهوا لذلك، فأخذوا يتبادلون النظرات فيما بينهم، وأصبح أكثر انصاتا، وأقل كلاما مع أي شخص يراجعه، وفوق ذاك لم ينس انه مثل "ترس" في آلة الدولة الكبيرة، وارتضى ذلك.
داود سلمان الشويلي
استغرق سلام في التفكير طويلا، وشغل باله المهدود، كدارٍ خاوية على أنقاضها، كل هذا التفكير، ان كان داخل البيت أو كان خارجه في الدائرة.
اتخذت أفكاره هذه في البداية طابعاً حادا، وغير عادي تماما كزجاج مكسور حاد الحواف. لم يفكر بما سيؤول إليه راتبه للشهر القادم، وماذا ينقصه، وكم يزيد. ولا إجازته المزمع التقديم عليها. ولا أمه التي تخاف عليه، وهو بهذا العمر الذي تجاوز فيه سن الشباب، وطلعت له بعض الشعيرات البيض في فوده. لم يفكر بما يفكر به الإنسان العادي في أوقات فراغه، وراحته، أو كان على سرير المرض كما هو الآن. لقد كانت أفكاره جديدة، وطرية، هذه المرة. كانت أفكار غير مطروحة في باله التعبان. فكر اليوم بوضعه مثل "ترس" في آلة كبيرة يسمونها الحكومة.
هذا اليوم أيضا لم يستطع الذهاب إلى عمله، وظل في فراشه. لم تحضر تفكيره القراءه، ولا الكتابة، ولا أي شيء من همومه العادية. فيما السماء تبدو من خلل نافذة الغرفة رمادية اللون، ومملة، وغير مستساغة من نفسه اللائبة، والمتألمة. والساعة تتكتك بصوت رتيب، وهي على الجدار فوق رأسه التعبان. كان لا يشعر برغبة في النوم على فراش المرض بشرشفه الأبيض، ومخدته الغائرة تحت ثقل رأسه.
فكر سلام، متسائلاً بينه، وبين نفسه: من أنا؟ أجاب بصوت واهن، وضعيف: أنا مواطن عراقي، موظف في دائرة حكومية، وصلت إلى هذا العمر، ولم اتزوج. إذن، أنا "ترس" يدور في آلة الدولة الكبيرة، يدور كالآخرين بلا توقف. "ترس" مسنن على أية حال. واليوم لا يعمل هذا "الترس" في تلك الآلة الكبيرة. تراكمت عليه الأتربة، والأوساخ، أصبح متوقفا. هل تسير الأمور لوحدها دون هذا "الترس"؟ تساءل في قرارة نفسه الملتاعة التي تتجرع ألم البطن الحاد، والموجع، وكان الجواب غائبا من تفكيره.
بالكاد فتح سلام عينيه على وسعهما، أخذ سيجارة، وراح يدخنها دون لذة، أو انتعاش، أو تحبب. كانت أفكاره، وهو ملقى على فراش مرضة، مشوشة، وغير مترابطة ببعضها، فتركت في نفسه شعورا بالاحباط، والقهر، وراح من جديد يحدث نفسه عن "الترس" الصغير الذي يمثله هو في آلة الدولة الكبيرة، وقد تعب، ووهن العظم منه، وحاصرته الأوساخ، والأتربة، وتركته خائر القوى.
- نعم!... أنا "ترس" صغير في آلة الدولة الكبيرة، وهي لا تهتم بهذا "الترس"، ولم تفكر فيه يوما ما. أنا، سلام، الموظف الحكومي، الذي توقف عن العمل بسبب رقودة في فراش مرضه.
فجأة، راخ تفكيره المشوش، والموجوع إلى خارج غرفته، وبيته، مرّ في الشارع الذي فيه داره، والظلام كان حالكا، وبصورة ضبابية، وبصعوبة، رأى مدينته ينهار فيها كل شيء، حتى تمثال الحبوبي ينشطر إلى شطرين غير متساويين.
ثمة "تروس" صغيرة، وكبيرة، في الآلة. فكر. وكل "ترس" يعمل برتابة مرسومة، وهو ساكت عما يجب عليه عمله، حسب الذي يشغله، وحسب البرنامج الذي لا يعرفه، والمرسوم له كالوشم الثابت.
أنا راقد في فراش المرض، تساءل: هل ستتوقف الآلة عن العمل؟ هل ستتوقف الحكومة؟ هل سيتوقف كل شيء؟
أجاب عن هذا السؤال في قرارة نفسه قائلا: كلا، لن يتوقف طالما هناك من يقوم مقامي بأبخس الأثمان، البطالة منتشرة في كل مكان، سيكون "ترسا" كالآخرين، سيدور ويتحرك مثل أي ترس آخر.
أخذ سلام نفساً طويلاً من سيجارته التي وصلت إلى عقبها الأصفر الصغير. كان يدخن بشراهة من فطر توا من صيام اليوم بأكمله. عيناة تنظران إلى سقف الغرفة الأبيض الذي علاه بعض سواد دخان السيكاير. والمروحة السقفية تدور برتابة، وبطئ، وهدوء. رمى العقب من بين أصابعه من خلال فتحة الشباك الذي شرعت ضلفتيه، وتجمعت ستارته في ركن منه، في حين كان المساء قد بدأ يهبط على المدينة، ويغطيها بغلالة شبه مظلمة، وما زال تفكيره مشغولا "بالترس"، والآلة، والحكومة.
عندما شفي من مرضه بعد خمسة أيام، من الألم، والوجع، أصبح أكثر هدوء، وأكثر وقارا، مما كان عليه قبل أن يقع طريح فراش المرض. غاب عنه تفكيره المشوش، واستكان إلى وضعه الذي يعيشه كل لحظة. أخذ يصل إلى دائرته قبل أن يصل لها جميع الموظفين العاملين فيها، ويتركها بعد أن يخرج آخر موظف فيها.
صار يبدي للمراجعين أقصى درجات الاحترام، واللياقة، في معاملتهم، فينهي أشغالهم بأقصر فترة زمنية حتى أن زملاءه في دائرته انتبهوا لذلك، فأخذوا يتبادلون النظرات فيما بينهم، وأصبح أكثر انصاتا، وأقل كلاما مع أي شخص يراجعه، وفوق ذاك لم ينس انه مثل "ترس" في آلة الدولة الكبيرة، وارتضى ذلك.
داود سلمان الشويلي