محمد فايز حجازي - ذو القدم المسلوخة..

ذات مساء شتوي انقطع التيار الكهربائي عن منزلي، كان هذا لإصلاحات يجرونها في غرفة الكهرباء أسفل العقار، ولن أقول أنني تكاسلت في تشغيل مصباح الطواريء، ولكنني في حقيقة الأمر قد سررت كثيرًا بالهدوء والظلام اللذين سادا، والسكينة التي حلت على جو المنزل، وكنت إذ ذاك ممدًا على سريري أجاهد في استدعاء النوم، وكان في مقدروي وقتئذ أن أرى عبر زجاج نافذة الغرفة، لوحة النجوم المنثورة التائهة في أديم السماء وظلام المساء، وكان أولادي كعادتهم في غرفهم منشغلون يستذكرون دروسهم أو يداعبون هواتفهم المحمولة، لست متأكدًا، وكانت زوجتي في المطبخ تعد شيئًا ما لا أعلمه.
كل في عالمه على ضوء هاتفه يهيم، أما عني ففي ظلمة غرفتي وفراغ قلبي أجتر الذكريات.
وقد أحالتني تلك الحالة الفريدة إلى الزمان البعيد وذكريات العالم الأول، حين كانت جدتي رحمها الله تجمعنا حولها لتقص علينا حكاياتها المرعبة لنا آنذاك، ولا يحلو لها أن تفعل إلّا في مثل تلك الأجواء المظلمة حين يكون الشتاء وينقطع التيار الكهربائي، وكثيرًا ما كان التيار الكهربائي ينقطع في زماننا الأول، فتجعل تقص علينا حكايات ذو القدم المسلوخة، وبرغم أن المذكور قدمه قد سلخها أحدهم –هكذا يتضح من الاسم- وهو بكل تأكيد لم يعد يقوى على الحركة، غير أن له قطعًا آليةأخرى للحركة لا أعلمها وهي –تلك الآلية- تخيفني بشدة، وكانت جدتي تقص علينا أيضًا حكايات بلاد النمنم حيث يأكلون هناك لحوم الآدميين، وعلى رغم أنها بلاد بعيدة لم تطأها قدم ولا يعرف مكانها أحد، فإنني كنت أرتعب من مجرد ذكر اسم هذه البلاد أيما رعب، هذا فضلًا عن حكايات أمنا الغولة، ولا أدري كيف تكون أمنا وغولة في ذات الآن، والحق أقول فنحن –أنا وأخوتي- مَنْ كنا نلح على الجدة بشدة أن تقص علينا تلك القصص، بل لقد كنا نبكي أحيانًا لأجل تلك الغاية المرعبة والممتعة في ذات الآن.
في تلك الليلة ومن نافذة غرفتي، تراءت لي على صفحات السماء، مشاهد الجدة وحكاياتها ودفء لمتنا حولها ليلًا لاسيما مع لمسة من برودة الشتاء، تلك التي كانت تجعل كل منّا يلوذ بدفء أخيه خوفًا، بل ونخبيء وجوهنا في أحضان الجدة طلبًا للأمان.
حينها كنت أرى أشخاصًا غامضين يطلون من الباب، أشخاص لا يعرف أي أحد عنهم شيئًا، يتصرفون بجنون، حتى أنني كنت أود لو أخبط على رأسي هلعًا لأطرد عني هذا الجنون المرح، وكنا على ضوء الشموع وظلالها المخيفة التي ترسمها على الجدران، والأقواس الكبيرة التى يرسمها بندول الساعة القديم، نتراقص ونضحك ضحكات مرتعبة، ضحكات كانت تذاع حتى الفناءالخارجي لبيتنا القديم، وحتى العمق المبهم لأفنية البيوت المحيطة، وفي كل مكان يوقظ في النفوس وخز الألم.
في رأسي كانت كل الأفكار المخيفة تحوم بلا توقف.
حكت الجدة أيضًا فيما حكت عن مرور ساحرة في منور البيت، سيدة عجوز متجعدة بيضاء، تصدر صوت كالجرذ الكبير، ثم تثب من المنور إلى المطبخ، تطلب ملحًا وتمتص الدماء ولكنهم طاردوها بالمقشات، ولكنها عند الباب أدارت رأسها إلى الخلف مرة أخرى وتوعدتهم بيدها القبيحة كثيفة الشعر، حينها كنت أركض إلى جدتي وأعانقها، أعانقها خوفًا وعشقًا، خوفًا من العجوز وعشقًا لأمان حضنها.
وهكذا كنت أخاف من الليل، من الحجرات المظلمة، من المساحات الخالية، كنت أخاف من كل شيء، حتى لو أضطررت أن أذهب إلى المطبخ ليلًا من أجل الشرب أو أي شيء آخر، دائمًا ما كانت تعلق بحلقي تلك الرهبة المجنونة الخرافية، كنت أرتعب من المقشات وما خلفها كنت أتوهمها ساحرات شريرات، وأرتعب من بئر السلم، كنت أظنه يحملق إليّ مثل غول شرس مشعث الشعر.
الآن في ظلمة غرفتي إلّا من الضوء الواهن لنجوم السماء المنثورة المتسلل عبر النافذة، وأطفالى يمرحون في الخارج، أنا خائف أيضًا بل مرتعب أحملق إلى السماء في توجس صامت، أقمع التثاؤب، وأستشعر خطوات تقترب أستشعرها بوضوح، خطوات تنسل بسرعة بلا صوت، شخص ما آت.
يبدو أن ذو القدم المسلوخة مازال هناك، كان يرعبني صغيرًا، وها أنا ذا أرتعب منه رجلًا، بعد كل تلك السنوات الطوال، هو شخص أسود مثير للاشمئزاز، كما كانت تخبرنا الجدة، وهو الآن يريد أن يخنق أطفالي ويكتم أنفاسهم، عضلات وجهي تتوتر، فلقتي أنفي ترتعدان.
هى روح شريرة توسوس الآن في كل مكان، أتلو الآيات كما كنت أفعل صغيرًا. فكرت أن أهرول إلى المطبخ، أخرج من الدرج، سكينة المطبخ عريضة الشفرة، تمامًا كما كنت أفكر صغيرًا.
وفي غمرة هذا الهدوء الطاغي والظلام الحالك، سمعت وقع خطوات أولادي وهم يأتون على ضوء هواتفهم، وخفقان قلوبهم عالي الصوت، يحاولون التحرر مثل طير أسير وقع في الفخ، أخذتهم إلى صدري، عانقتهم بذراعي القويتين.
في الصباح حين فتحت عيني، كان الأطفال ينامون في حضني وإلى جواري ومن النافذة كانت الشمس قد بزغت وصفى الضباب المحمر متناثرًا في كل مكان، تذكرت ليلة الأمس، حقًا لقد كانت ليلة مرعبة، ليلة مرعبة ولكنها دافئة، دافئة للغاية.


محمد فايز حجازي
من المجموعة القصصية (ألاعيب الكهنة)، قيد النشر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى