في اللحظة التي أتوقف فيها عن الإيمان به يختفي ابن رشد.
بورخيس
التصويرات الجهنّميّة احتلّت مكاناً عميقاً في خيالات الأمم، في هوّةٍ حالكة السواد وراء الكلام الذي يمكن سماعه، وراء الرغبات التي يشحذها الرجاء الحار، ووراء التجدّد بالاعتذار، وهي السمة التي تميّز أبناء الحياة.
في زمن لم نعد نشعر به، يبدو كما لو لم يكن على الأرض، قبل انقضاء الربع الثاني من القرن الرابع عشر، كان الأهالي في شوارع روما، وبيزا وفلورنسا وأسِّيز وأرفياتو وبولوني وفِرَّار وبادو، قد نظَموا الحكايات المتناثرة عن الحروب الصليبية في ملحمة واحدة تُعرض على المسرح، وكانوا يروونها بأشكال مختلفة من مغامرات الإقدام وصور التضحية، وينشدون مقاطع منها في الليالي المقمرة في الحانات أو بالقرب من حدائق الاضطهادات العشرة في الفاتيكان عندما كانت مشرعة أمام المارّة قبل أن يبني بولس الثالث أسوارها المنيعة ليحصّن بها الدولة شبه الإهليلجية بعد نقل الكرسي الرسولي من قصر لاتران في المدينة التي ما زال يُغشى عليها تحت وطأة آلام بطرس المصلوب، وما زالت تفزع من قهقهات الإمبراطور نيرون قاتل أمّه.
الملحمة المغنّاة لم تُكتب، نُزعت من اللغة، أحيلت إلى صور من خلال الكلام والتمثيل والإيماء. صور تناثرت ثم عادت لتجد طريقها إلى قصائد كثيرة؛ بعض الصور والاستعارات ما زالت حتى الآن تسكن ألسنة الإيطاليين. ماذا يمكن أن يحدثَ لِلُغة الأسطورةِ أكثر من ذلك؟
الحروب الصليبية بدأت بصورة القيامة المسيحية، وهي تنتهي بصورة أرض المعاد اليهودية، هما طرفا عوْدٍ أبديّ، بينهما تاريخُ صُوَرٍ وأشكالٍ تُبتكَرُ للمزيد من التأجيج والتحريض، فللصُّور عملها في القلوب، كما يقول شهاب الدين المقدسي في «تاريخ الدولتين» وهو يصف كيف تأجّجت الحرب: «المركيس صاحِبُ صُور، وكان من أعظمهم حيلة، وأشدهم بأساً، هو الأصل في تهييج الجموع، وذلك أنه صوَّر القدس في ورقة عظيمة، وصوَّر فيه صورة القيامة التي يحجّون إليها ويعظّمون شأنها، وفيها قبر المسيح الذي دُفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجّهم، وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في عيد من أعيادهم، فصوّرَ القبر وصوّر عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، وقد بالَ الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها، ورؤوسهم مكشّفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور، وللصّوَر عمل في قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلائق لا يحصي عددهم إلا الله».
انتهت الحروب الصليبية بانسحاب جند الرب Milites Christi إلى الغرب، وذلك مع بدء الحروب المغوليّة وتقدّم جيوش التتر من الشرق. كانت الاتصالات والمراسلات التي تقضي بالإطباق على الأرض الوسطى قد تعثّرت بين أباقا خان، وهو ابن هولاكو كبير الخانات الذي دَحَرَ القبيلة الذهبيّة المسلمة، وبين بابا الكاثوليك كليمنت الرابع، وكان الراعي الحيوي لتوما الأكويني. لقد فكّر الطوباوي غريغوري العاشر أن يستأنف التراسل مع مشارق الأرض الوسطى، دون جدوى.
مات أباغا خان وبعده بسنوات مات كليمنت الرابع، وشهدت الأرض الوسطى، وهي لا شرقية ولا غربية، اختلاط الأديان وانتشار الإحساس بقرابتها، وأنها من لحم ودم واحد، ولكن شهوة السلطة منعت اتحادها.
في زمن يوحنا الثاني والعشرين، الذي تولّى بعد شغور الكرسي الرسولي لسنتين، وكان مقيماً في أفينيون الفرنسية، بدأ أندريه أُركانيا رسم لوحته الشهيرة «الجحيم». أُركانيا نقل الخيال الجهنّمي إلى لوحته مما كان يسمعه كل يوم عن ملحمة التضحيات المقدّسة، وهكذا أنزل رموز الأرض الوسطى إلى درك سوداويّ يملؤه العفن والوحل الأسود الذي لا تطهّره النار المستعرة. هكذا كان الأهالي في روما والمدن القريبة منها يفكّرون في الأرض الوسطى التي انسحب منها جند الرب ليتركوا المجال شاغراً أمام جيش البابا من كرادلة وأساقفة وقساوسة وشمامسة وكهنة. جميع مدبّري الرعيّة في مملكة الرب المحاصرة، وكذلك الفنّانون.
سارداً في خياله اللامحدود كان أندريه أُركانيا يتنفّس ظلاماً بارداً ويرسم. لا بد أنه أحسّ بالمرض والقرف. لم يرسم فناً خالصاً، رسم رغبةً بابوية عن عذابات النفس البشرية واستخلاص خبائثها يوم العقاب الذي لم يعد يوماً للدينونة، لا غفران بعدُ، من أجل هذا تُرسم جغرافيا الموت بأقوى ما يستطيع الرسّام استدعاءه من حقد مقدّس.
حُفرٌ تتصل بعمق الأرض، ظهر في أولها آريوس الليبي، وأنصاره من الملحدين، ثم إريغون وأنصاره من السّحرة والعرّافين، ثم يظهر، يقول رينان: «بائعو الأشياء الروحيّة بثمن زمني»، ويأتي المحكومون بالهلاك الأبدي «محمد هو أول من يأتي مقطّعاً إرْباً إرْباً من قبل الشياطين الذين يلتهمون قطع أعضائه على مرأى منه، ثم يأتي الدجّال مسلوخاً وهو حيّ، ثم يظهر الشخص الثالث ملقًى على الأرض ومضغوطاً بمطاوي حيّة ومميّزاً بعمامته ولحيته الطويلة، وهو ابن رشد».
كُتبَ على اللوحة أن هذا الجحيم دربٌ للحقل المقدّس Questo a l'inferno del Campo Santo di Pista، وحُفظت في الجزء الثاني من «بيزا المصوَّرة» Pisa Illustrate لألسندرو الموروناوي.
كان ذلك في زمن تحبو فيه الطباعة الأولى، قبل أن تنتشر، مع يوهان غوتنبرغ، الحروف البارزة والمتنقلة في أوروبا، وقبل أن يظهر للعالم كتاب «الكاهنات العرافات» Sibylles في شكله التعليمي، متبوعاً بخطاب غفران أصدره البابا نقولا الخامس.
كان أُركانيا قد دشّن نمطاً جديداً من فنّ الإذلال والتمثيل بالأعداء، وصنع جحيم ابن رشد الذي لم يهدأ، بل زاد استعاراً مع حملة شرسة من توما الأكويني الذي كان أخطر خصوم الرّشديين، وكان في الوقت نفسه أكثر تلاميذ الشارح العظيم ذكاءً، وذلك عندما ابتكر الدومينيكان السلسلة المعروفة باسم «المخاصمات»، وهي تنتصر دائماً ضد ابن رشد. كان الفنانون أبرع مَن يجرّد الحقد المقدّس من الكلمات وممكنات اللغة لينقلوه حيّاً وساخناً إلى شعب أمّي لا يقرأ، بل يقتات يومياً على صور من ملحمة صليبية لم تحدث، ولكن خيّل للجميع أنها انتهت مؤقتاً في الأرض الوسطى، دون أن تنتهي في روما. أدواتها فقط تغيّرت، أما عدد ضحاياها فقد ظل ينمو وينمو دون توقّف.
أنا رأيتُ من الأمثلة التي ينقلها رينان، والتي يكون فيها ابن رشد رفيقاً للدجّال، أو مغضوباً عليه وضالاً، عدداً كبيراً، أتذكّر منها:
- في كنيسة سان بترون ببولوني يُعرض مركّب معزوًّ إلى بوفَّلماكو، وكان رينان قد رأى رسماً لمحمد ورجل آخر لا يظهر من اسمه غير الحرف الأول، وهو أول حرف من اسم ابن رشد؛ فأحضر سلّما ليفحص أثر الحروف المطموسة عن كثب. وفجأةً وجد كلمة: زنديق.
- في رواية يزعم فزاري أن الإخوة الواعظين ببيزا جلبوا صورة توما إلى تريني من دير فوسَّانوفا، ويظهر فيها توما جالساً على كرسيه ممسكاً مجلّداً من الكتاب المقدس مفتوحاً على عبارة من سفر الأمثال: «فم الجاهل مهلكة له وشفتاه شرك لنفسه». كان الرب يُرى في أعلى اللوحة، محاطاً بالملائكة، ينشر أشعته على موسى والإنجيليين وبولس وهم يسبحون بين السّحب، وكان أفلاطون وأرسطو على جانبي اللوحة، الأول يمسك كتاب طيماؤس، ويمسك الثاني بكتاب الخلقيات، ويرتفع من الكتابين حبل من ذهب نحو وجه توما، بينما يصدر عنه شعاع واحد يسقط على رأس رجل منعزل في طرف اللوحة منقلب على قدمي توما، هذا الرجل الملحد هو ابن رشد.
- في فلورنسا جداريّة رسمها تادِّيُو غَدِّي لكنيسة سانتا ماريا نوفلاّ وانتهى منها سنة 1340، ويبدو فيها ابن رشد، بين بَنْبينا ومرسيل فيشين وجينفرا دو بنشي وسافونا رولا، وهو يُضحَّى به نصراً للقديس توما.
- حول الكنيسة العامة الممثّلة بسنتا ماريا دل فلور رسم سيمون مِمَي وتادِّيُو غدِّي جدارية أخرى يشرف فيها كرسيّ توما على جميع الكراسي، ويحتشد حوله جمع من عشرة وجوه من العهد القديم والعهد الجديد، وعند قدميه، زنادقة مسحوقين يغرقون في ظلام الكوابيس هم آريوس الليبي، وابن رشد متكئاً على شرحه الكبير، وغيرهما.
أُركانيا كان أول من رسم ابن رشد المحكوم بالهلاك الأبدي، وحدّد بذلك البورتريه العام للشارح الكبير الذي احتفل به العرب، لكن نبذه فقهاء الإسلام، فارتحل ليرحّب به الأوربيون، لكن نبذه الأكليروس المسيحي.
جُعلت لوحة أُركانيا مفتتحاً مصوّراً لكتاب «الكوميديا الإلهيّة»، ولكننا نعرف أن دانتي أليغييري ما كان ليوافق على ذلك لو تمت استشارته، فهو يرى أن محمداً منشقّ، وأن الإسلام فرقة آريوسية، أما ابن رشد فهو فيلسوف عظيم، يستحق تسامحاً خاصاً، ولأنه ملحد فلتكن الطمأنينة التي تحيط به وأمثاله من العظماء سوداءَ بكيفية ما. الجحيم درجات بعضها مقبول تماماً. لقد وضع دانتي للشناعات حدوداً، وهذا ما لم يفهمه أُركانيا، وبوفَّلماكو وتادِّيُو غَدِّي، وإذا كنتُ أغفرُ ذلك الآن فلأنني أعرف أن الرغبة البابويّة لم تكن لتُصَد أو تُناقَش آنذاك. راجعتُ الطبعات اللاحقة من «الكوميديا الإلهيّة» فوجدتُ أن هذه اللوحة قد حُذفت منها.
بورخيس
التصويرات الجهنّميّة احتلّت مكاناً عميقاً في خيالات الأمم، في هوّةٍ حالكة السواد وراء الكلام الذي يمكن سماعه، وراء الرغبات التي يشحذها الرجاء الحار، ووراء التجدّد بالاعتذار، وهي السمة التي تميّز أبناء الحياة.
في زمن لم نعد نشعر به، يبدو كما لو لم يكن على الأرض، قبل انقضاء الربع الثاني من القرن الرابع عشر، كان الأهالي في شوارع روما، وبيزا وفلورنسا وأسِّيز وأرفياتو وبولوني وفِرَّار وبادو، قد نظَموا الحكايات المتناثرة عن الحروب الصليبية في ملحمة واحدة تُعرض على المسرح، وكانوا يروونها بأشكال مختلفة من مغامرات الإقدام وصور التضحية، وينشدون مقاطع منها في الليالي المقمرة في الحانات أو بالقرب من حدائق الاضطهادات العشرة في الفاتيكان عندما كانت مشرعة أمام المارّة قبل أن يبني بولس الثالث أسوارها المنيعة ليحصّن بها الدولة شبه الإهليلجية بعد نقل الكرسي الرسولي من قصر لاتران في المدينة التي ما زال يُغشى عليها تحت وطأة آلام بطرس المصلوب، وما زالت تفزع من قهقهات الإمبراطور نيرون قاتل أمّه.
الملحمة المغنّاة لم تُكتب، نُزعت من اللغة، أحيلت إلى صور من خلال الكلام والتمثيل والإيماء. صور تناثرت ثم عادت لتجد طريقها إلى قصائد كثيرة؛ بعض الصور والاستعارات ما زالت حتى الآن تسكن ألسنة الإيطاليين. ماذا يمكن أن يحدثَ لِلُغة الأسطورةِ أكثر من ذلك؟
الحروب الصليبية بدأت بصورة القيامة المسيحية، وهي تنتهي بصورة أرض المعاد اليهودية، هما طرفا عوْدٍ أبديّ، بينهما تاريخُ صُوَرٍ وأشكالٍ تُبتكَرُ للمزيد من التأجيج والتحريض، فللصُّور عملها في القلوب، كما يقول شهاب الدين المقدسي في «تاريخ الدولتين» وهو يصف كيف تأجّجت الحرب: «المركيس صاحِبُ صُور، وكان من أعظمهم حيلة، وأشدهم بأساً، هو الأصل في تهييج الجموع، وذلك أنه صوَّر القدس في ورقة عظيمة، وصوَّر فيه صورة القيامة التي يحجّون إليها ويعظّمون شأنها، وفيها قبر المسيح الذي دُفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجّهم، وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في عيد من أعيادهم، فصوّرَ القبر وصوّر عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، وقد بالَ الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها، ورؤوسهم مكشّفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور، وللصّوَر عمل في قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلائق لا يحصي عددهم إلا الله».
انتهت الحروب الصليبية بانسحاب جند الرب Milites Christi إلى الغرب، وذلك مع بدء الحروب المغوليّة وتقدّم جيوش التتر من الشرق. كانت الاتصالات والمراسلات التي تقضي بالإطباق على الأرض الوسطى قد تعثّرت بين أباقا خان، وهو ابن هولاكو كبير الخانات الذي دَحَرَ القبيلة الذهبيّة المسلمة، وبين بابا الكاثوليك كليمنت الرابع، وكان الراعي الحيوي لتوما الأكويني. لقد فكّر الطوباوي غريغوري العاشر أن يستأنف التراسل مع مشارق الأرض الوسطى، دون جدوى.
مات أباغا خان وبعده بسنوات مات كليمنت الرابع، وشهدت الأرض الوسطى، وهي لا شرقية ولا غربية، اختلاط الأديان وانتشار الإحساس بقرابتها، وأنها من لحم ودم واحد، ولكن شهوة السلطة منعت اتحادها.
في زمن يوحنا الثاني والعشرين، الذي تولّى بعد شغور الكرسي الرسولي لسنتين، وكان مقيماً في أفينيون الفرنسية، بدأ أندريه أُركانيا رسم لوحته الشهيرة «الجحيم». أُركانيا نقل الخيال الجهنّمي إلى لوحته مما كان يسمعه كل يوم عن ملحمة التضحيات المقدّسة، وهكذا أنزل رموز الأرض الوسطى إلى درك سوداويّ يملؤه العفن والوحل الأسود الذي لا تطهّره النار المستعرة. هكذا كان الأهالي في روما والمدن القريبة منها يفكّرون في الأرض الوسطى التي انسحب منها جند الرب ليتركوا المجال شاغراً أمام جيش البابا من كرادلة وأساقفة وقساوسة وشمامسة وكهنة. جميع مدبّري الرعيّة في مملكة الرب المحاصرة، وكذلك الفنّانون.
سارداً في خياله اللامحدود كان أندريه أُركانيا يتنفّس ظلاماً بارداً ويرسم. لا بد أنه أحسّ بالمرض والقرف. لم يرسم فناً خالصاً، رسم رغبةً بابوية عن عذابات النفس البشرية واستخلاص خبائثها يوم العقاب الذي لم يعد يوماً للدينونة، لا غفران بعدُ، من أجل هذا تُرسم جغرافيا الموت بأقوى ما يستطيع الرسّام استدعاءه من حقد مقدّس.
حُفرٌ تتصل بعمق الأرض، ظهر في أولها آريوس الليبي، وأنصاره من الملحدين، ثم إريغون وأنصاره من السّحرة والعرّافين، ثم يظهر، يقول رينان: «بائعو الأشياء الروحيّة بثمن زمني»، ويأتي المحكومون بالهلاك الأبدي «محمد هو أول من يأتي مقطّعاً إرْباً إرْباً من قبل الشياطين الذين يلتهمون قطع أعضائه على مرأى منه، ثم يأتي الدجّال مسلوخاً وهو حيّ، ثم يظهر الشخص الثالث ملقًى على الأرض ومضغوطاً بمطاوي حيّة ومميّزاً بعمامته ولحيته الطويلة، وهو ابن رشد».
كُتبَ على اللوحة أن هذا الجحيم دربٌ للحقل المقدّس Questo a l'inferno del Campo Santo di Pista، وحُفظت في الجزء الثاني من «بيزا المصوَّرة» Pisa Illustrate لألسندرو الموروناوي.
كان ذلك في زمن تحبو فيه الطباعة الأولى، قبل أن تنتشر، مع يوهان غوتنبرغ، الحروف البارزة والمتنقلة في أوروبا، وقبل أن يظهر للعالم كتاب «الكاهنات العرافات» Sibylles في شكله التعليمي، متبوعاً بخطاب غفران أصدره البابا نقولا الخامس.
كان أُركانيا قد دشّن نمطاً جديداً من فنّ الإذلال والتمثيل بالأعداء، وصنع جحيم ابن رشد الذي لم يهدأ، بل زاد استعاراً مع حملة شرسة من توما الأكويني الذي كان أخطر خصوم الرّشديين، وكان في الوقت نفسه أكثر تلاميذ الشارح العظيم ذكاءً، وذلك عندما ابتكر الدومينيكان السلسلة المعروفة باسم «المخاصمات»، وهي تنتصر دائماً ضد ابن رشد. كان الفنانون أبرع مَن يجرّد الحقد المقدّس من الكلمات وممكنات اللغة لينقلوه حيّاً وساخناً إلى شعب أمّي لا يقرأ، بل يقتات يومياً على صور من ملحمة صليبية لم تحدث، ولكن خيّل للجميع أنها انتهت مؤقتاً في الأرض الوسطى، دون أن تنتهي في روما. أدواتها فقط تغيّرت، أما عدد ضحاياها فقد ظل ينمو وينمو دون توقّف.
أنا رأيتُ من الأمثلة التي ينقلها رينان، والتي يكون فيها ابن رشد رفيقاً للدجّال، أو مغضوباً عليه وضالاً، عدداً كبيراً، أتذكّر منها:
- في كنيسة سان بترون ببولوني يُعرض مركّب معزوًّ إلى بوفَّلماكو، وكان رينان قد رأى رسماً لمحمد ورجل آخر لا يظهر من اسمه غير الحرف الأول، وهو أول حرف من اسم ابن رشد؛ فأحضر سلّما ليفحص أثر الحروف المطموسة عن كثب. وفجأةً وجد كلمة: زنديق.
- في رواية يزعم فزاري أن الإخوة الواعظين ببيزا جلبوا صورة توما إلى تريني من دير فوسَّانوفا، ويظهر فيها توما جالساً على كرسيه ممسكاً مجلّداً من الكتاب المقدس مفتوحاً على عبارة من سفر الأمثال: «فم الجاهل مهلكة له وشفتاه شرك لنفسه». كان الرب يُرى في أعلى اللوحة، محاطاً بالملائكة، ينشر أشعته على موسى والإنجيليين وبولس وهم يسبحون بين السّحب، وكان أفلاطون وأرسطو على جانبي اللوحة، الأول يمسك كتاب طيماؤس، ويمسك الثاني بكتاب الخلقيات، ويرتفع من الكتابين حبل من ذهب نحو وجه توما، بينما يصدر عنه شعاع واحد يسقط على رأس رجل منعزل في طرف اللوحة منقلب على قدمي توما، هذا الرجل الملحد هو ابن رشد.
- في فلورنسا جداريّة رسمها تادِّيُو غَدِّي لكنيسة سانتا ماريا نوفلاّ وانتهى منها سنة 1340، ويبدو فيها ابن رشد، بين بَنْبينا ومرسيل فيشين وجينفرا دو بنشي وسافونا رولا، وهو يُضحَّى به نصراً للقديس توما.
- حول الكنيسة العامة الممثّلة بسنتا ماريا دل فلور رسم سيمون مِمَي وتادِّيُو غدِّي جدارية أخرى يشرف فيها كرسيّ توما على جميع الكراسي، ويحتشد حوله جمع من عشرة وجوه من العهد القديم والعهد الجديد، وعند قدميه، زنادقة مسحوقين يغرقون في ظلام الكوابيس هم آريوس الليبي، وابن رشد متكئاً على شرحه الكبير، وغيرهما.
أُركانيا كان أول من رسم ابن رشد المحكوم بالهلاك الأبدي، وحدّد بذلك البورتريه العام للشارح الكبير الذي احتفل به العرب، لكن نبذه فقهاء الإسلام، فارتحل ليرحّب به الأوربيون، لكن نبذه الأكليروس المسيحي.
جُعلت لوحة أُركانيا مفتتحاً مصوّراً لكتاب «الكوميديا الإلهيّة»، ولكننا نعرف أن دانتي أليغييري ما كان ليوافق على ذلك لو تمت استشارته، فهو يرى أن محمداً منشقّ، وأن الإسلام فرقة آريوسية، أما ابن رشد فهو فيلسوف عظيم، يستحق تسامحاً خاصاً، ولأنه ملحد فلتكن الطمأنينة التي تحيط به وأمثاله من العظماء سوداءَ بكيفية ما. الجحيم درجات بعضها مقبول تماماً. لقد وضع دانتي للشناعات حدوداً، وهذا ما لم يفهمه أُركانيا، وبوفَّلماكو وتادِّيُو غَدِّي، وإذا كنتُ أغفرُ ذلك الآن فلأنني أعرف أن الرغبة البابويّة لم تكن لتُصَد أو تُناقَش آنذاك. راجعتُ الطبعات اللاحقة من «الكوميديا الإلهيّة» فوجدتُ أن هذه اللوحة قد حُذفت منها.