عبدالعالي سامي - أُنطولوجيا الجسد (1) الجسد: مشكلة فلسفية

(1)

على مستوى الوجودِ، لم يختفِ الصراعُ بين الجسد والسّلطة رغم اتّفاقهما في كثيرٍ من الوجُوه. كلاهما يتعلق بأفكارٍ مثل:(الوسيط، التّحول، السّر، العلامة، الذّاكرة، الفعل، الوشم، الرمز، الصورة، السريان، الشبح)، وكلاهما يزاحِم الآخر داخل ثقافةٍ تحدد إلى أي مدى سيمارس أدواره. وهذا هو “مَوطِّئُ الأثر” لأيةِ علاقةٍ محتملةٍ بينهما، كما أنَّه يؤكد معاني الحضور المتبادل( الجسد سلطة والسلطة جسد)، إذ اعتبره الاثنان صِراعاً قاسياً إلى الداخلinterior من كِليهما. أيهما يقنن الآخر ويرسم عالمه الخاص؟!
في هذا الإطار يعدُّ “تاريخُ الجسد هو ذاته تاريخ السلطة” نزاعاً حول فضاءٍ لن يتقهقر خلفاً، وهو فضاء الحرية. كانت نتيجته بعض التطورات نحو استقلال كيان الإنسان، وذلك يعني وجود الفعل الأنثروبولوجي في التاريخ البشري. فمع توتر العلاقة بين ما هو “جسدي وسلطوي”، ثمة إنسانٌ يُقاوم إفرَاغ كيانه من الحياة. يخشى إزاحةَ وجوده الهش دون أنْ يلامس شيئاً، لأنَّ السلطة كامنةٌ في خفاءِ المجتمعات إلى حدِّ القبول الساذج بلا وعي.
السلطة تمارس احتواءً ناعماً soft تجاه أي جسدٍ متمردٍ (عام أو خاص)، تنحو إلى تشتيت وحدتَّه واستنزاف طاقاته (= القمع بصوره الثقافية). بالمقابل قد يُحدِث الجسدُ داخل هيكل السلطة اضطراباً، فوضى، فجوة (= الحراك السياسي)، فغرائز الكتل البشرية لا تخضع لمنطق واضح ويصعب التحكم فيها.
وعلى الصعيد الفردي قد يتوَّحد الجسد بالسلطة في هيئة ديكتاتور يري نفسه بحجم العالم، ويجعلها حِزاماً رخواً من شهواتٍ تستنفد مجالها العام. أيضاً تتصف السلطة بأوصاف عضويةٍ حسية: تجُوع، وتقتل، وتفتك، وتلتهم وتزأر وتفترس(= حيوان الثقافة)، بالتوازي يتسلَّط الجسد ويضربُ ويُعنِّف، ويتحرش، ويزاحم، ويتعقب، ويراقب، ويقرع أجراسَ الترهيب للآخرين.
تاريخياً يتولَّد هكذا استفهامٌ فلسفي مزدوجٌ:
أولاً، هل استطاعت السلطةُ كقوةٍ مهيمنة تشكيل جسدٍ إنساني ما أيَّاً كان عنوانُه، صادفَ الزمنُ أنَّه هنالك بوضعٍ معينٍ( تبعاً للاهوت والأسطورة والتراث الثقافي والأنثروبولوجيا)؟ ومن ثمَّ سينتج الجسدُ معالمها(أي القوة) في فضاءاته، حيث تتعين السلطة بوسائل مؤثرةٍ اجتماعياً، أي السؤال دوماً عن كيفية تعامل السلطة مع الجسد، وبأي معنى تنحته وفقاً لقوالبها.
ثانياً، عكس ذلك، هل تُوجد للجسد سلطةٌ في ذاته قادراً على الانفكاك من القيود؟ وبالتالي- كما سنوضح – لماذا تبدو ثمة فجوة (بين السؤالين الآنفين)؟ وبأية صيغةٍ هي فجوة تُلخص طبيعة الجسد وتحولاته وقدرتنا على تغيير دلالاته؟!
المشكلةُ من ثمَّ ليست في تحديد هوية الجسد( ذكراً أم أنثى أم خنثى أم صاحب توجه جنسي sexual orientation) وابراز التأثيرات الجانبية للسلطة، لأنَّ تشكيل الجسد في ذاته هو البصمة الوراثية السابقة على ذلك. إنَّ جيناتَّه الثقافية genes cultural التي هي تحديد أنطولوجي أعمق وأكثر جذرية. حيث تراث لاهوتي- وجودي كوَّن السلطة ولم يُفلتها عبر التكوينات الاجتماعية الناجمة عنه. بلغ الوضع أنْ اخترق حاجز الكيان البشري منتزعاً وجوده في العالم. لأنَّ الجسد الإنساني هو أخص شعور حي للفرد التصاقاً بأناه.
وبخاصة أنَّ الأسئلة ترتبط بماهية الجسد(لا هويته الجنسية) إذ ستأتي تحولاته لاحقاً على صعيدها. وهو ما سيجعل الأنوثة والذكورة مع ” الجسد الافتراضي” ثنائية غير مهمةٍ، وأنَّها مفتعلة بخلاف أي شيء أخر، أهميتها كامنة في كونِّها أداة عنف ثقافي لوأد المرأة في رداء اجتماعي. بينما الجسد الراهن- كما بالواقع الرقميdigital reality- سيعالج وضعيته من نفس الجنس الأنطولوجي للمشكلة. فمبررات التصنيف لثنائية الذكورة والأنوثة مجرد قشرة للجسد واستعمالاته، لكن انفجار طبيعة الجسد ذاته(افتراضياً- عضوياً) يحتم انفجاراً لأية قشور ممكنة، ويؤدي إلى ترتيب مفترض لأوضاع الجسد ومحمولاته الثقافية.
لقد أبقت ممارسات السلطة على البعد البيولوجي لدى الإنسان ولم تعبأ بتحولاته الثقافية، إلاَّ أنَّ إخماد فاعلية الإنسان- مثلما ترى الأنظمة السياسية- لا يتم بمجاراته ثقافياً، إنما بالتعامل البيولوجي معه ككائن يحمل نقيض وجوده الحي( غريزة الموت). وهي غريزة اشتغلت عليها السلطة لإيجاد مضاد ثقافي لما هو بيولوجي، أي نشر ثقافة التخويف والعنف والقمع، لكنها تناست أنَّ جسد الإنسان(البيولوجيا) دخلت عليه تغيرات من جنس الثقافة والمعارف المتقدمة، لدرجة أن اندماجهما( البيولوجيا والثقافة) بات مؤكداً لدى العوالم الإلكترونية والوسائط الديجيتال. مازالت مفاهيم السلطة تعمل على خلفية “الجسم” لا الجسد وإذ أظهرت تطورات الذكاء الاصطناعي استحالة ارجاع الجسد إلى خانة الجسم مرة أخرى.

الكاتب : عبد العالي سامي

بتاريخ : 02/07/2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى