نط "ثهوان العزير" إلى وسط الطريق فارداً ذراعيه، فاضطر سائق الحافلة المتوسطة إلى الدوس على الكوابح بشدة، فسُمع صوت زحفها على الإسفلت في الحي كله، وانقدح الشرر من عجلاتها. هرول "ثهوان" وصعد إلى الحافلة، متجاهلاً شتائم السائق البذيئة بحق أمه، وحين لم يجد مقعداً شاغراً، وقف عند الباب ورأسه خارجاً. في يمينه حقيبة جلدية حبلى في شهرها الأخير، وفي فمه حلوى بنكهة البرتقال لها عود يمصها بتلذذ، غير آبه بنظرات الاستهجان التي تئز حوله آتية من الركاب.
نزل في شارع "حدة" الراقي، ويمم باتجاه شركة "الأيكة" التي يعمل محاسباً فيها. كان منظره مثيراً للارتياب، وهو يجري كأنما الشرطة تطارده، ببذلته ذات المربعات البنية الغامقة، وربطة العنق الخضراء التي كان يتلاعب بها الهواء.
لديه ذلك النوع من الجنون السلوكي الذي يتعارف أهالي صنعاء على تسميته بـ"الجنان اللوزي" أي أنه من الناحية العقلية سليم تماماً، لكن تصرفاته خارجة عن المألوف.
فعلاً، هو يتصرف كشخص غير راشد. لكن في ما يتعلق بعمله في قسم الحسابات، فإن له سمعة أسطورية، لديه تركيز هائل في الأرقام، التي يطلق عليها أسماء اعتباطية لها علاقة بذكرياته، فهو لم يرتكب خطأً قط، ويشهد له رؤساؤه بأنه عقلية محاسبية فذة، من مسك الدفاتر إلى تدقيق الحسابات.
اقرأ أيضًا : البيضة الزرقاء
رتبت شركة "الأيكة" رحلة ترفيهية إلى شلال "بني مطر" في ضواحي صنعاء. وتمنّى نفر من الموظفين ألا يخرج معهم، بغضاً منهم لغرابة أطواره. إلا أنه سجل وحضر، وتولى الإدارة المالية لمصروفات الرحلة. هناك أثار استغرابهم بسبب أكله ثمرة البابايا بقشرتها وببذورها السوداء، وبعث الاشمئزاز في نفوس قلة منهم، لقيامه بأكل النمل الذي كان يصطاده بعلب زجاجية فيها بقايا من مربى المشمش.
بعد عودته من تلك الرحلة بدأت تظهر عليه الأعراض؛ لقد قام بأمر يخرج عن الاعتدال، فظهرت حبة صغيرة خلف أذنه الشمال، وصار يسمع أصواتاً تشبه نقيق الضفادع، تأتي كهبّات الزوابع، تخفت تارة وتقوى تارة أخرى.
في غضون أسابيع تضخمت وصارت بحجم الليمونة، وكانت تتأرجح على عنقه كبالونة. واستمر النقيق يسطع متقطعاً، وازداد شعوره بأنه يتلقّى رسائل صوتية من مصدر مجهول، لأنه في لحظات تركيز فائقة، كان يستطيع أن يميز حرفاً أو حرفين.
اقرأ أيضًا: الروائي المخيب للآمال
تحت إلحاح أصدقائه زار عدداً من الأطباء، وكلهم أشاروا عليه بإجراء عملية جراحية عاجلة لاستئصال الكيس الجلدي المنتفخ المتدلي خلف أذنه. لكنه لم يرضخ، وقرر أن يتأنى حتى تختفي تلك البلوى من تلقاء نفسها.
تابعت الحبة النمو حتى صارت بحجم البرتقالة، لينة من الخارج وفارغة من الداخل، ويمكن ضغطها بالأصابع، ثم تتمدد كما كانت عند رفع الأصابع عنها، وكأنها طبلة أذن خارجية. لم تكن تؤلمه ولا منظرها الشنيع يحرجه، ولم يجد حاجة إلى أن يغطيها بشال ليخفيها عن الأنظار. لم يضق صدره بفضول الناس وأسئلتهم المكرورة، وتحمّل بصبر منقطع النظير، إعطاء الردود الصادقة لكل واحد منهم. لكنه لم يخبر أحداً بمسألة النقيق الذي أضحى يأتيه بتواتر أكثر وبنغمة أعلى وضوحاً، وبشيء من التركيز كان يمكنه أن يميّز مقاطع صوتية كاملة.
أجرى بحثاً في الـ "نيت" وقرأ كتباً عن الموضوع، واقتنع بما قاله أساطين الطب النفسي من أنها مجرد هلوسة سمعية "paracusia" مصدرها خلل في الدماغ. فقرر أن يتجاهل تلك النبضات الصوتية الغريبة ويكفّ عن التركيز لفهم محتواها اللفظي.
"
أجرى بحثاً في الـ "نيت" وقرأ كتباً عن الموضوع، واقتنع بما قاله أساطين الطب النفسي من أنها مجرد هلوسة سمعية مصدرها خلل في الدماغ.
"
لكنه في مرة من المرات، وبعد فراغه من الاغتسال ومشاعر الراحة والانتعاش تغمره، ركّز من دون قصد على النقيق واكتشف رسالة صوتية تطلب شيئاً محدداً: "نريد معلومات عن النبي شعيب". اعتراه الذهول، وتذكّر أنه في رحلته إلى شلال "بني مطر" انفرد عن رفاقه لقضاء الحاجة، فقابل شيخاً له قرنان صغيران في رأسه، قدّر عمره بأكثر من مائة عام، يحرس زهرة خضراء، فاقع لونها، سماها "زهرة النبي شعيب" فغافل الرجل الطاعن في السن وأكلها، ثم لاذ بالفرار قبل أن ينتبه إلى فعلته.
كررت الرسائل الصوتية الطلب ذاته بإلحاح، فلم يعرف ماذا يفعل. ثم اشترى كرّاسة، وبدأ بتدوين محتوى الرسائل مؤرِخاً لها باليوم والساعة. دوّن ثلاث عشرة نقة مكررة، ثم تلقى رسالة مختلفة: "اشرب من ماء الزهرة". لم يفهم في البداية ما هو المقصود، ثم هداه تفكيره إلى الحل.
في اليوم التالي لم يركض إلى الشركة، ولكنه سافر إلى الريف، وقصد شلال "بني مطر" وشرب منه حتى تضلّع. بحث عن الشيبة المبتلى بالقرنين فلم يجده، سأل عنه القرويين معطياً أوصافه فلم يعرفه أحد.
بعد فترة من الصمت والترقّب، تلقى في الساعة الثانية بعد منتصف الليل رسالة صوتية جديدة: "انفخ الحوصلة وتكلم". فهم على الفور ما هو المقصود، فركّز قواه العقلية وسحب نفساً عميقاً وأرسل قدراً من الهواء بقوة الإرادة إلى الزائدة الجلدية خلف صوان أذنه، فانتفخت حتى بدا وكأن له رأسين على رقبته، ثم تكلم متلعثماً: "مرحباً اسمي ثهوان الـ..". لم يسمع صوتاً بشرياً، وإنما صدر منه نقيق بنغمة عالية جداً، فأصيب بالهلع وزفر الهواء قاطعاً الاتصال، فانكمشت حوصلته إلى حجمها السابق، واختبأ تحت بطانيته وهو يرتعد.
اقرأ أيضًا : ما فعله غونتر غراس
في اليوم التالي وهو منهمك في عمله بالشركة، هاجمه النقيق حاملاً رسالة صوتية بثت الطمأنينة في نفسه: "مرحباً ثهوان/ نريد معلومات عن النبي شعيب".
جمع المعلومات المتوفرة عن النبي شعيب في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وبسرعة أتقن النقيق الذي يحمل رسائله الصوتية للطرف الآخر المجهول، وفي ظرف نصف ساعة انتهى من إرسال المعلومات المطلوبة.
بعد خمسة أيام تلقى رسالة صوتية أسعدته أيّما سعادة: "المعلومات عن النبي شعيب قيّمة/ أحسنت يا ثهوان".
في المساء بادر هو بإرسال رسالة صوتية: "من أنتم"؟ بعد دقيقة أتاه النقيق حاملاً الجواب، شعر به يأتي من جوف الزائدة الجلدية سالكاً طريقه إلى دماغه: "نحن سكان كوكب برّاخات". أثار الجواب حماسته الشديدة، ومضى يُوجه لهم الأسئلة:
- أين موقعكم؟
- نجم قنطور الأقرب.
- أنتم تبعدون عن الأرض حوالي أربع سنوات ضوئية فقط/ نحن قريبون من بعضنا جداً.
- أرسلنا لكم ملايين الرسائل/ أنت أوّل أرضي يرد علينا.
- كيف هي أشكالكم؟
- نشبهكم إلى حد ما.
- هل يملك كل برّاخي زائدة في عنقه للتخاطب؟
- زعنفتان أنيقتان عن يمين وشمال/ حجمهما متناسب مع حجم رؤوسنا/ لقد سلكنا طريقاً مختلفاً للتطور.
- لذلك لم نتمكن من سماع رسائلكم/ رغم أننا نمتلك أجهزة متطورة جداً.
- نحن نستخدم وسائل نمّتها الطبيعة فينا من أجسادنا ذاتها/ نستخدمها للتواصل فيما بيننا ومع سكان الكواكب الأخرى/ لا نلجأ أبداً إلى الأدوات المصنوعة.
- هل هناك كواكب أخرى فيها كائنات حية؟
- نعم/ عددها بالمليارات.
تتابعت الحوارات لعدة أشهر، وكان يسجل كل شيء في كراسات مرقمة ومؤرخة يحتفظ بها في مكان سري.
طلبوا معلومات كثيرة تتعلق بجغرافيا الأرض ومعادنها، فلم يتردد في تزويدهم بها بدقّة المحاسب المعهودة.
ثم على حين غرة، تلقى نقيقاً شديد الخفوت، وكأنه آت من مكان بعيد جداً. وبصعوبة تمكّن من فهم محتوى الرسالة التي اقشعر لها بدنه: "إنذار إلى كوكب الأرض/ كوكب شريد يكتظ بالأشرار يقترب من نظامكم الشمسي/ إنذار إلى كوكب الأرض".
ظلّت الرسالة الرهيبة تتكرر من دون انقطاع طيلة الليل. لم يذق طعم النوم، واعتراه قلق شديد. قبيل أن يشق الصباح طريقه، استرد رباطة جأشه وحسم أمره بالتواصل مع الطرف الآخر بنقيق حذر: "نريد المزيد من التفاصيل". حدس بأهمية اللحظات التالية، ليس له وحده، ولكن للبشرية بأسرها، فأحضر كراسة جديدة وقلماً، وأرّخ بتأريخ اليوم، وانتظر. بعد خمس دقائق أتاه الرد:
- كوكب برّاخات يسبح في الفضاء البين نجمي/ لا يرتبط بأي نجم/ له غلاف جوي حديدي يحفظ له الحرارة والرطوبة على سطحه/ نواته الداخلية بدأت تبرد/ درجات الحرارة في انخفاض تدريجي منذ ألفي عام/ الحياة على ظهر الكوكب مهددة بالانقراض/ يبحث البرّاخيون عن كوكب جديد صالح للحياة يهبطون إليه.
- غلاف حديدي/ هل هذا كوكب أم سجن؟!
- وصلت إلى الحقيقة بنفسك/ كل مجرمي الكون مسجونون هناك/ إنهم محرومون من رؤية السماء/ يعيشون في ظلام دامس/ يتواصلون مع الكواكب الأخرى عبر الموجات الصوتية.
- كيف استدلوا إلى موقعنا؟
- في مدين ..(تشويش) شجرة ..(تشويش) الأيكة..(تشويش شديد).
لم يفهم شيئاً لكنه شعر بخطورة الموقف، وأنه بات مكشوفاً، كتب كلمات تحذير واضحة ثم نق نقيقه الأخير:
- ماذا نفعل لمواجهتهم؟
قبل أن يصله الجواب، باغته نقيق خارق صعقه، فأحس وكأن دماغه قد انشق إلى نصفين، ثم خر ميتاً.
بعد أسبوع تم إبلاغ الشرطة عن اختفائه، وفي اليوم الثامن توجهت عناصر من البحث الجنائي، وحفنة من أقاربه وزملائه في الشركة إلى القبو المتواضع الذي عاش فيه. أعلنت الشرطة أن الوفاة طبيعية، نتيجة نزيف في الدماغ. وقام موظفو شركة "الأيكة" باسترداد السجلات المحاسبية الخاصة بشركتهم، وتداول أقاربه في شأن ميراثه. وأما تلك الكراسة التي دوّن فيها وصيته الأخيرة مؤملاً إنقاذ البشرية وتحذيرها من الهول القادم، فلم يلتفت إليها أحد.
نزل في شارع "حدة" الراقي، ويمم باتجاه شركة "الأيكة" التي يعمل محاسباً فيها. كان منظره مثيراً للارتياب، وهو يجري كأنما الشرطة تطارده، ببذلته ذات المربعات البنية الغامقة، وربطة العنق الخضراء التي كان يتلاعب بها الهواء.
لديه ذلك النوع من الجنون السلوكي الذي يتعارف أهالي صنعاء على تسميته بـ"الجنان اللوزي" أي أنه من الناحية العقلية سليم تماماً، لكن تصرفاته خارجة عن المألوف.
فعلاً، هو يتصرف كشخص غير راشد. لكن في ما يتعلق بعمله في قسم الحسابات، فإن له سمعة أسطورية، لديه تركيز هائل في الأرقام، التي يطلق عليها أسماء اعتباطية لها علاقة بذكرياته، فهو لم يرتكب خطأً قط، ويشهد له رؤساؤه بأنه عقلية محاسبية فذة، من مسك الدفاتر إلى تدقيق الحسابات.
اقرأ أيضًا : البيضة الزرقاء
رتبت شركة "الأيكة" رحلة ترفيهية إلى شلال "بني مطر" في ضواحي صنعاء. وتمنّى نفر من الموظفين ألا يخرج معهم، بغضاً منهم لغرابة أطواره. إلا أنه سجل وحضر، وتولى الإدارة المالية لمصروفات الرحلة. هناك أثار استغرابهم بسبب أكله ثمرة البابايا بقشرتها وببذورها السوداء، وبعث الاشمئزاز في نفوس قلة منهم، لقيامه بأكل النمل الذي كان يصطاده بعلب زجاجية فيها بقايا من مربى المشمش.
بعد عودته من تلك الرحلة بدأت تظهر عليه الأعراض؛ لقد قام بأمر يخرج عن الاعتدال، فظهرت حبة صغيرة خلف أذنه الشمال، وصار يسمع أصواتاً تشبه نقيق الضفادع، تأتي كهبّات الزوابع، تخفت تارة وتقوى تارة أخرى.
في غضون أسابيع تضخمت وصارت بحجم الليمونة، وكانت تتأرجح على عنقه كبالونة. واستمر النقيق يسطع متقطعاً، وازداد شعوره بأنه يتلقّى رسائل صوتية من مصدر مجهول، لأنه في لحظات تركيز فائقة، كان يستطيع أن يميز حرفاً أو حرفين.
اقرأ أيضًا: الروائي المخيب للآمال
تحت إلحاح أصدقائه زار عدداً من الأطباء، وكلهم أشاروا عليه بإجراء عملية جراحية عاجلة لاستئصال الكيس الجلدي المنتفخ المتدلي خلف أذنه. لكنه لم يرضخ، وقرر أن يتأنى حتى تختفي تلك البلوى من تلقاء نفسها.
تابعت الحبة النمو حتى صارت بحجم البرتقالة، لينة من الخارج وفارغة من الداخل، ويمكن ضغطها بالأصابع، ثم تتمدد كما كانت عند رفع الأصابع عنها، وكأنها طبلة أذن خارجية. لم تكن تؤلمه ولا منظرها الشنيع يحرجه، ولم يجد حاجة إلى أن يغطيها بشال ليخفيها عن الأنظار. لم يضق صدره بفضول الناس وأسئلتهم المكرورة، وتحمّل بصبر منقطع النظير، إعطاء الردود الصادقة لكل واحد منهم. لكنه لم يخبر أحداً بمسألة النقيق الذي أضحى يأتيه بتواتر أكثر وبنغمة أعلى وضوحاً، وبشيء من التركيز كان يمكنه أن يميّز مقاطع صوتية كاملة.
أجرى بحثاً في الـ "نيت" وقرأ كتباً عن الموضوع، واقتنع بما قاله أساطين الطب النفسي من أنها مجرد هلوسة سمعية "paracusia" مصدرها خلل في الدماغ. فقرر أن يتجاهل تلك النبضات الصوتية الغريبة ويكفّ عن التركيز لفهم محتواها اللفظي.
"
أجرى بحثاً في الـ "نيت" وقرأ كتباً عن الموضوع، واقتنع بما قاله أساطين الطب النفسي من أنها مجرد هلوسة سمعية مصدرها خلل في الدماغ.
"
لكنه في مرة من المرات، وبعد فراغه من الاغتسال ومشاعر الراحة والانتعاش تغمره، ركّز من دون قصد على النقيق واكتشف رسالة صوتية تطلب شيئاً محدداً: "نريد معلومات عن النبي شعيب". اعتراه الذهول، وتذكّر أنه في رحلته إلى شلال "بني مطر" انفرد عن رفاقه لقضاء الحاجة، فقابل شيخاً له قرنان صغيران في رأسه، قدّر عمره بأكثر من مائة عام، يحرس زهرة خضراء، فاقع لونها، سماها "زهرة النبي شعيب" فغافل الرجل الطاعن في السن وأكلها، ثم لاذ بالفرار قبل أن ينتبه إلى فعلته.
كررت الرسائل الصوتية الطلب ذاته بإلحاح، فلم يعرف ماذا يفعل. ثم اشترى كرّاسة، وبدأ بتدوين محتوى الرسائل مؤرِخاً لها باليوم والساعة. دوّن ثلاث عشرة نقة مكررة، ثم تلقى رسالة مختلفة: "اشرب من ماء الزهرة". لم يفهم في البداية ما هو المقصود، ثم هداه تفكيره إلى الحل.
في اليوم التالي لم يركض إلى الشركة، ولكنه سافر إلى الريف، وقصد شلال "بني مطر" وشرب منه حتى تضلّع. بحث عن الشيبة المبتلى بالقرنين فلم يجده، سأل عنه القرويين معطياً أوصافه فلم يعرفه أحد.
بعد فترة من الصمت والترقّب، تلقى في الساعة الثانية بعد منتصف الليل رسالة صوتية جديدة: "انفخ الحوصلة وتكلم". فهم على الفور ما هو المقصود، فركّز قواه العقلية وسحب نفساً عميقاً وأرسل قدراً من الهواء بقوة الإرادة إلى الزائدة الجلدية خلف صوان أذنه، فانتفخت حتى بدا وكأن له رأسين على رقبته، ثم تكلم متلعثماً: "مرحباً اسمي ثهوان الـ..". لم يسمع صوتاً بشرياً، وإنما صدر منه نقيق بنغمة عالية جداً، فأصيب بالهلع وزفر الهواء قاطعاً الاتصال، فانكمشت حوصلته إلى حجمها السابق، واختبأ تحت بطانيته وهو يرتعد.
اقرأ أيضًا : ما فعله غونتر غراس
في اليوم التالي وهو منهمك في عمله بالشركة، هاجمه النقيق حاملاً رسالة صوتية بثت الطمأنينة في نفسه: "مرحباً ثهوان/ نريد معلومات عن النبي شعيب".
جمع المعلومات المتوفرة عن النبي شعيب في القرآن الكريم والكتاب المقدس، وبسرعة أتقن النقيق الذي يحمل رسائله الصوتية للطرف الآخر المجهول، وفي ظرف نصف ساعة انتهى من إرسال المعلومات المطلوبة.
بعد خمسة أيام تلقى رسالة صوتية أسعدته أيّما سعادة: "المعلومات عن النبي شعيب قيّمة/ أحسنت يا ثهوان".
في المساء بادر هو بإرسال رسالة صوتية: "من أنتم"؟ بعد دقيقة أتاه النقيق حاملاً الجواب، شعر به يأتي من جوف الزائدة الجلدية سالكاً طريقه إلى دماغه: "نحن سكان كوكب برّاخات". أثار الجواب حماسته الشديدة، ومضى يُوجه لهم الأسئلة:
- أين موقعكم؟
- نجم قنطور الأقرب.
- أنتم تبعدون عن الأرض حوالي أربع سنوات ضوئية فقط/ نحن قريبون من بعضنا جداً.
- أرسلنا لكم ملايين الرسائل/ أنت أوّل أرضي يرد علينا.
- كيف هي أشكالكم؟
- نشبهكم إلى حد ما.
- هل يملك كل برّاخي زائدة في عنقه للتخاطب؟
- زعنفتان أنيقتان عن يمين وشمال/ حجمهما متناسب مع حجم رؤوسنا/ لقد سلكنا طريقاً مختلفاً للتطور.
- لذلك لم نتمكن من سماع رسائلكم/ رغم أننا نمتلك أجهزة متطورة جداً.
- نحن نستخدم وسائل نمّتها الطبيعة فينا من أجسادنا ذاتها/ نستخدمها للتواصل فيما بيننا ومع سكان الكواكب الأخرى/ لا نلجأ أبداً إلى الأدوات المصنوعة.
- هل هناك كواكب أخرى فيها كائنات حية؟
- نعم/ عددها بالمليارات.
تتابعت الحوارات لعدة أشهر، وكان يسجل كل شيء في كراسات مرقمة ومؤرخة يحتفظ بها في مكان سري.
طلبوا معلومات كثيرة تتعلق بجغرافيا الأرض ومعادنها، فلم يتردد في تزويدهم بها بدقّة المحاسب المعهودة.
ثم على حين غرة، تلقى نقيقاً شديد الخفوت، وكأنه آت من مكان بعيد جداً. وبصعوبة تمكّن من فهم محتوى الرسالة التي اقشعر لها بدنه: "إنذار إلى كوكب الأرض/ كوكب شريد يكتظ بالأشرار يقترب من نظامكم الشمسي/ إنذار إلى كوكب الأرض".
ظلّت الرسالة الرهيبة تتكرر من دون انقطاع طيلة الليل. لم يذق طعم النوم، واعتراه قلق شديد. قبيل أن يشق الصباح طريقه، استرد رباطة جأشه وحسم أمره بالتواصل مع الطرف الآخر بنقيق حذر: "نريد المزيد من التفاصيل". حدس بأهمية اللحظات التالية، ليس له وحده، ولكن للبشرية بأسرها، فأحضر كراسة جديدة وقلماً، وأرّخ بتأريخ اليوم، وانتظر. بعد خمس دقائق أتاه الرد:
- كوكب برّاخات يسبح في الفضاء البين نجمي/ لا يرتبط بأي نجم/ له غلاف جوي حديدي يحفظ له الحرارة والرطوبة على سطحه/ نواته الداخلية بدأت تبرد/ درجات الحرارة في انخفاض تدريجي منذ ألفي عام/ الحياة على ظهر الكوكب مهددة بالانقراض/ يبحث البرّاخيون عن كوكب جديد صالح للحياة يهبطون إليه.
- غلاف حديدي/ هل هذا كوكب أم سجن؟!
- وصلت إلى الحقيقة بنفسك/ كل مجرمي الكون مسجونون هناك/ إنهم محرومون من رؤية السماء/ يعيشون في ظلام دامس/ يتواصلون مع الكواكب الأخرى عبر الموجات الصوتية.
- كيف استدلوا إلى موقعنا؟
- في مدين ..(تشويش) شجرة ..(تشويش) الأيكة..(تشويش شديد).
لم يفهم شيئاً لكنه شعر بخطورة الموقف، وأنه بات مكشوفاً، كتب كلمات تحذير واضحة ثم نق نقيقه الأخير:
- ماذا نفعل لمواجهتهم؟
قبل أن يصله الجواب، باغته نقيق خارق صعقه، فأحس وكأن دماغه قد انشق إلى نصفين، ثم خر ميتاً.
بعد أسبوع تم إبلاغ الشرطة عن اختفائه، وفي اليوم الثامن توجهت عناصر من البحث الجنائي، وحفنة من أقاربه وزملائه في الشركة إلى القبو المتواضع الذي عاش فيه. أعلنت الشرطة أن الوفاة طبيعية، نتيجة نزيف في الدماغ. وقام موظفو شركة "الأيكة" باسترداد السجلات المحاسبية الخاصة بشركتهم، وتداول أقاربه في شأن ميراثه. وأما تلك الكراسة التي دوّن فيها وصيته الأخيرة مؤملاً إنقاذ البشرية وتحذيرها من الهول القادم، فلم يلتفت إليها أحد.