صالح رحيم - الكتابةُ بالشفاه قراءةٌ بالفم

"نظراً لأن القبلة تجمع شخصين معاً من خلال تبادل المعلومات الحسية، عن طريق حواس الذوق والرائحة واللمس، وربما المراسيل الكيميائية الصامتة التي يطلق عليها الفيرومونات، فإن لديها القدرة على توفير كل أنواع التصورات عن الشخص الآخر"
شيرل كيرشنباوم
علمُ التقبيل
-مغارة الفم-
فيما يشبهُ الهزيمة، يتكرر الزمنُ على نحوٍ رتيب وقاسٍ بنفسِ المخالب ونفس الأنياب، لكنَّ يداً تنأى بكَ أو تشتِّتُ على بصرك الصورةَ وعلى بصيرتك الحكاية، فتشعر لبضع لحظات معدودات بلذةِ الانتصار غير غائب عن وعيك القلق على مستقبل اللحظة. ثم بعد ذلك، وطوال اللحظة تلك، يختفي الزمنُ تماماً كأنه مرتبطٌ بالجسد، الأمر يشبه الدخولَ إلى مغارة خارج الزمان والمكان، وبعزلةٍ تنأى بكَ عن قسوتهما، تتمُّ القُبلةُ باختفاءِ قطبينِ داخل المغارة، داخل الفعل، داخل اللاشيء، إنه الاتحادُ بالزمن، عبر الزمن، داخل الزمن وخارجه، تخريبُ المنطقِ هذا لا تقوم به سوى الشفاه.
-القبلةُ الخالقة-
في قصيدة للشاعر الإسباني غوستابو أدولفو بيكر، بترجمة عبد الهادي سعدون، يقول فيها:
"الريحُ تتنهدُ إذا عبرت فوق الأمواج
تقبلها
تلاعبها وتشكلها.
الشمسُ تقبل غيوم الغرب
وتصبغها بلون الأرجوان والذهب.
وكأن اللهب في الجذع المحترق
ينتثرُ إن قبلَ لهباً آخر.
بل حتى الصفصاف منحنياً بثقله
يلثمُ سطحَ النهر
فيعود بقبلة"
في القصيدةِ هذه، يريد الشاعرُ القولَ بأن ثمة قوتين يحتكم إليهما الوجود، هما القبلةُ والريح، هاتان القوتان مسؤولاتانِ عن خلقه وتدميره، وإعادة تكوينه من جديد، إذ تتدخل القبلةُ في تحريك الموجة أو تشكيلها، قبلَ التقبيلِ لم تكن القبلة شيئاً يذكر، وبقبلةِ الريحِ، تندفعُ الغيمةُ إلى تقبيلِ الشمسِ فتشتعل بالأرجوان والذهب.
للقبلةِ قدرة على مضاعفة هذا العالمِ أو تكثيره عندما يقبل اللهب لهباً آخر. أما الصفصافة المكسور ظهرها، فإنها تستعيد شبابها، بالتقبيل، أو إنها بالقبلةِ تولدُ من جديد.
-قبلةُ أمرئ القيس-
"قبلتها تسعاً وتسعين قبلة
وواحدة أخرى وكنت على عجل"
لا أظنني أكون مجانباً للصوابِ لو تناسيت بيت أمرؤ القيس، إذ إن الغرابة ليست بالتسع والتسعين قبلة أبداً، إنما الغرابة، كل الغرابة، بالواحدة التي على عجل، ولا ندري لم العجالة يا أمرأ القيس؟ هل كنت تبحثُ عن شيءٍ ما؟ أم أن شاغلاً لم يمنحك الانسجام بالطقس؟ لعلَّ قبلة أمرئ القيس الأخيرة كانت تطمح إلى مثل أخواتها إلى تدجين قلق الشاعر أو انتشاله مما هو غارق فيه. على أيةِ حالٍ نحن لا نعرف مصير القبلة المائة، أو تفاصيلها، لكنها في نفسِ الشاعر، تشير إلى عطشه وعدمِ اكتفاءه، تلك القبلة تكشف عن هوس الشاعر بالغرق، إلا أن المياه العجيبة تلفظه في اللحظة الحاسمة.
-قبلة غوستاف كليمت-
لا يتم التواصل بينَ المقبِّلِ والمقبَّل إلا بإغماض العينين، تكشف قبلة غوستاف كليمت عن خطاب حقيقي يجهر بأن الأشياء تحدثُ لحظةَ التقبيلِ على عواهنها، ليس هناك ما هو محسوب بدقة، بل إنَّ عمليةَ التواصل تجري من غير استئذان، يكاد الزوجانِ في اللوحة يصيران واحداً، تكاد ملامحهما تختفي وراء الأصفر البراق، الحياة تشتعل من جميع الجهات، الزوجان تحت وطأة لغةٍ يشترك بها جميع البشر، باللغة بين الجسدين في اللوحة، تنتفي الحاجة إلى اللسان. لا تكشفُ القبلة عن الآخر، بقدر ما تكشفُ عن نفسها، ثمة نزعة تعتري الفعل وتذهب به إلى التجلي عبر طقسٍ حميمي وخاص.

____
جريدة الصباح، تاريخ اليوم ٣١/١٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى