يسير خلفهن بتمهل، راشقا عينيه في أجسادهن، لكنه سرعان ما يتذكر صاحب المزرعة، ذلك الرجل، الذي تهون عليه روحه، و لا تهون عليه خسارة حبة عنب واحدة، و لا يتحمل قلبه خسارة جنيه واحد، يتخيله منفعلا، يوشك أن يصاب بجلطة قلبية أو دماغية من فرط الغضب؛ يخشى أن يستبعده، و يأتي بمقاول أنفار آخر؛ فيستفيق من شروده، و ينيم ذئبه مؤقتا، و ينهمك في تفحص الشجيرات بعيني صقر، فإذا ما وقعت عيناه على عنقود منسي على سوقه، أو حبات كروم انفرطت في الصندوق البلاستيكي، أقام الدنيا و لم يقعدها. و بعد وابل من التوبيخ، يخرج دفتره من سيالة قفطانه الفضفاض، و يخصم ما شاء من أجرة الفتاة المهملة، التي عادة ما تقابل ذلك بالتوسل و الرجاء، و ربما ألجأها تعنته و تشدده إلى البكاء؛ إذ كان أشد ما يفزع فتيات المزرعة أن تمس أجورهن من قريب أو بعيد؛ إذ كانت أجورا هزيلة، لا تغيظ عدوا، و لا تسر حبيبا، تسد حاجتهن بالكاد. كان المقاول في قرارة نفسه يرى أنه لو أرخى الحبل قليلا، لهزأت به الفتيات، و لأفلت من يديه الزمام، و لدمرت الفتيات محصول المزرعة، و ربما دفعه هذا الشعور إلى الإسراف في الغلظة. و الحاصل أنه كان يتلذذ بتوسل أولئك الكادحات إليه، فكان يزداد تصلبا، كلما ازددن توسلا، و كان يرفع خيزرانه في نهاية المطاف، و يهوي بها على جسد الفتاة المهملة كعقاب بديل، يعقبه إلغاء الخصم؛ فإذا ما اعترضت الفتاة أو تذمرت، أنقدها ما تبقى من أجرتها، و لم يسمح لها في صباح اليوم التالي بركوب سيارته، أو العمل تحت إمرته من الأساس.
في الأجوار نجوع و قرى، لكل منها مقاول أنفار، يشحن سيارته كل صباح بعمالة من أهل نجعه أو أهل قريته، و يتوجه إلى مزرعة من مزارع الموالح و الفواكه، و لما كانت كل قناة تضيق بمائها أتفق مقاولو الأنفار فيما بينهم أن يكتفي كل منهم بعمالة نجعه أو قريته، كما اتفقوا على توحيد الأجرة، بحيث يرضى العامل أو العاملة بحاله، و لا يتطلع إلى تحسين دخله في مكان آخر. و من فرط إخلاص مقاولي الأنفار لاتفاقهم؛ تشابهت طباعهم، بل ملابسهم، و عصيهم، و دفاترهم.
(٢)
ما إن يشقشق النهار، حتى يخرجن من بيوتهن، و قد ارتدين قبعات الخوص، تحمل أيديهن أكياسا، تحوى أرغفة الخبز، و شيئا من الغموس. يقبلن من أنحاء متفرقة، كلهن قاصرات، لا تتجاوز أعمارهن السادسة عشرة، يتوجهن جميعا إلى ساحة النجع، حيث ينتظرهم، رجل طويل القامة معكوف الأنف، واسع العينين، يرتدي جلبابا زيتي اللون، و تقبض يمينه على عصا خيزران رفيعة. تلتف البنات حول مقاول الأنفار؛ فيسجل أسماءهن الواحدة تلو الأخرى في دفتره، و سرعان ما يكتظ صندوق السيارة المكشوف بأجسادهن، التي التصق بعضها ببعض. كانت السيارة تقطع مسافة طويلة لنقل أولئك القاصرات للعمل في إحدى مزارع الكروم البعيدة؛ فموعد جني العنب حل، و العناقيد طابت على أغصانها. و في الطريق يضرب تيار الهواء البارد وجوه البنات، و أجسادهن المرتعدة؛ فيزددن التصاقا، حتى تكاد لحومهن أن تعصر. تصل السيارة إلى المزرعة، فيقفن في طابور طويل، و يبدأ المقاول في توزيع العمل. تنتظم شجيرات الكروم في خطوط مستقيمة متوازية، يعهد إلى كل بنت بخط من هذه الخطوط، و تقوم بفصل العناقيد عن أغصانها بمقص صغير، و تضعها بحرص في صندوق بلاستيكي كبير، فإذا ما امتلأ، حملته فوق رأسها، و أخرجته إلى الظل، و التقطت صندوقا آخر فارغا، و عادت إلى خطها.
(٣)
لم ترفع يدها، كما تفعل البنات، و لم تتعجل تدوين اسمها، لقد بدت مترددة غارقة في خجلها، لم يكن المقاول قد رآها من قبل، لكنها جذبت انتباهه من أول وهلة؛ فتعمد أن يجعلها الأخيرة. و كان من وقت إلى آخر يتفحصها بنظرة طويلة، فإذا ما التقت عيناها بعينيه، ارتد طرفها إلى الأرض سريعا، و احمر وجهها، و ظهر عليها الارتباك.
و في المزرعة التمع وجهها تحت أشعة الشمس؛ فبدت كقطعة بلور لامعة، بينما نظر المقاول إلى جسدها الفائر على غير أوان؛ فانقلبت أحواله رأسا على عقب، و عوى الذئب في صدره، و أبى النوم و الكمون.
جاء رفض الفتاة قاطعا؛ فقد أنفت أن تبقى إلى جواره كما طلب إليها، و أنفت أن تقوم بخدمته سائر النهار مقابل مبلغ إضافي، يزاد على أجرتها المعتادة. و لما لم يتعود المقاول أن ترد فتاة له طلبا، غاظه هذا الرفض؛ فأخشن للفتاة القول، و أمرها بأن تتوجه إلى خط من خطوط المزرعة؛ لتبدأ عملها دونما إبطاء.
(٤)
مر النهار ثقيلا، كان المقاول منحرف المزاج، كان يتحدث بعصبية مفرطة، و وسط هذا الجو المكهرب، أسرف في تصيد الأخطاء للفتاة، و لما لم تتوسل إليه، لم يجد سبيلا إلى رفع خيزرانه عليها؛ فثبت الخصم، و تقاضت الفتاة في نهاية اليوم ما تبقى من أجرتها؛ فعقدت النية على عدم العودة مجددا؛ إذ كانت تدرك جيدا ما يرمي إليه المقاول.
حاشية
ثمة كائن هلامي لزج، يطبق على الدور و الصدور، هو ثقيل كالصخر، يلجئ الفتيات إلى احتمال ما لا يحتمل، و كلما قررن التذمر أو الاعتراض، حام فوق رءوسهن كما يحوم الوطواط، لم تكن فتاة البلور أحسن حالا من زميلاتها؛ فما إن صارحت أمها بعدم رغبتها في التوجه إلى المزرعة مرة أخرى، حتى التصق بوجهها هذا الكائن اللزج؛ فلم تجد مفرا من الخروج في الصباح، حتى تتخلص منه، و لو قليلا.
(٥)
ربما راهن المقاول نفسه، و عندما رآها في صباح اليوم التالي وسط الفتيات، التمعت عيناه ببريق الفرحة بعدما كسب الرهان؛ فقد كان يعلم أن هذا الكائن اللزج، الذي أخرجها بالأمس، سوف يسدي إليه جميلا بإخراجها اليوم. انتشى المقاول، لكنه أخفى سعادته، و تعمد تجاهل وجود الفتاة من الأساس، و لما لم يبق سواها أمامه، نظر إليها بمؤخرة عينه، و سألها مجددا عن اسمها، و دونه في دفتره. و في المزرعة عاملها بذات الغلظة، و تمادى في تعسفه، و بمرور الأيام، اشتد الأمر على الفتاة؛ فرضخت إلى رغبته في النهاية، و ظلت إلى جواره تجهز له النارجيلة، و تعد له الشاي، و تستمع إلى حكاياته المملة، و تجيب عن أسئلته السمجة، و في ذات نهار طلب إليها أن تحضر غرضا من أغراضه، التي عادة ما يضعها في خص قريب، حيطانه من بوص، و سقفه من جريد، و ما إن دخلت الفتاة الخص، حتى فوجئت بالمقاول يقتحم عليها المكان، و يدنو منها بسرعة، و قبل أن تطلق صرختها الأولى، كمم فمها بيد، و جال بيده الأخرى على صدرها، ثم أخرج مبلغا من المال، و وعدها بمثله إن هي طاوعته، فما كان منها إلا أن أزاحت يده بقوة؛ فتناثرت النقود على الأرض، بينما حاولت هي الإفلات من بين ذراعيه، اللتين أطبقتا عليها كالكماشة. فما كان من المقاول إلا أن جذبها نحوه مرة أخرى، و سارع بطبع قبلة ساخنة على عنقها؛ فشعرت بحر أنفاسه، و لما أوشكت مقاومتها أن تخور، غرست أسنانها في كفه، و خمشت جلده بأظفارها، فانتزع يده من بين أسنانها، و راح يتوجع، فانتهزت الفتاة الفرصة، و أطلقت عدة صرخات مدوية، بينما هجم هو عليها مرة أخرى و كمم فمها من جديد، لكنه فوجئ بفتيات المزرعة يقتحمن عليهما الخص؛ فذهل مكانه للحظات، ثم دفع الفتاة بعيدا، و انحنى؛ ليلتقط خيزرانه، لكن الفتاة سبقته إليها، و ما إن هوت على جسده بعصاه الرفيعة، حتى انهالت عليه عصوات أخرى قطفت منذ لحظات من شجيرات الكروم، و بعد أن أوسعته الفتيات ضربا، انسحبن جميعا، و غادرن المزرعة سريعا، بينما ظل المقاول ممددا على الأرض، لا يقوى على الحراك من فرط الألم، و بعد دقائق تحامل على نفسه، و نهض بصعوبة بالغة؛ و ما إن خرج من الخص، حتى أبصر الصناديق المحطمة، و عناقيد العنب المدهوسة الملتصقة بالتراب، و قبل أن يستفيق من ذهوله أبصر صاحب المزرعة مقبلا بوجه، تلوح منه نيران الغضب.
في الأجوار نجوع و قرى، لكل منها مقاول أنفار، يشحن سيارته كل صباح بعمالة من أهل نجعه أو أهل قريته، و يتوجه إلى مزرعة من مزارع الموالح و الفواكه، و لما كانت كل قناة تضيق بمائها أتفق مقاولو الأنفار فيما بينهم أن يكتفي كل منهم بعمالة نجعه أو قريته، كما اتفقوا على توحيد الأجرة، بحيث يرضى العامل أو العاملة بحاله، و لا يتطلع إلى تحسين دخله في مكان آخر. و من فرط إخلاص مقاولي الأنفار لاتفاقهم؛ تشابهت طباعهم، بل ملابسهم، و عصيهم، و دفاترهم.
(٢)
ما إن يشقشق النهار، حتى يخرجن من بيوتهن، و قد ارتدين قبعات الخوص، تحمل أيديهن أكياسا، تحوى أرغفة الخبز، و شيئا من الغموس. يقبلن من أنحاء متفرقة، كلهن قاصرات، لا تتجاوز أعمارهن السادسة عشرة، يتوجهن جميعا إلى ساحة النجع، حيث ينتظرهم، رجل طويل القامة معكوف الأنف، واسع العينين، يرتدي جلبابا زيتي اللون، و تقبض يمينه على عصا خيزران رفيعة. تلتف البنات حول مقاول الأنفار؛ فيسجل أسماءهن الواحدة تلو الأخرى في دفتره، و سرعان ما يكتظ صندوق السيارة المكشوف بأجسادهن، التي التصق بعضها ببعض. كانت السيارة تقطع مسافة طويلة لنقل أولئك القاصرات للعمل في إحدى مزارع الكروم البعيدة؛ فموعد جني العنب حل، و العناقيد طابت على أغصانها. و في الطريق يضرب تيار الهواء البارد وجوه البنات، و أجسادهن المرتعدة؛ فيزددن التصاقا، حتى تكاد لحومهن أن تعصر. تصل السيارة إلى المزرعة، فيقفن في طابور طويل، و يبدأ المقاول في توزيع العمل. تنتظم شجيرات الكروم في خطوط مستقيمة متوازية، يعهد إلى كل بنت بخط من هذه الخطوط، و تقوم بفصل العناقيد عن أغصانها بمقص صغير، و تضعها بحرص في صندوق بلاستيكي كبير، فإذا ما امتلأ، حملته فوق رأسها، و أخرجته إلى الظل، و التقطت صندوقا آخر فارغا، و عادت إلى خطها.
(٣)
لم ترفع يدها، كما تفعل البنات، و لم تتعجل تدوين اسمها، لقد بدت مترددة غارقة في خجلها، لم يكن المقاول قد رآها من قبل، لكنها جذبت انتباهه من أول وهلة؛ فتعمد أن يجعلها الأخيرة. و كان من وقت إلى آخر يتفحصها بنظرة طويلة، فإذا ما التقت عيناها بعينيه، ارتد طرفها إلى الأرض سريعا، و احمر وجهها، و ظهر عليها الارتباك.
و في المزرعة التمع وجهها تحت أشعة الشمس؛ فبدت كقطعة بلور لامعة، بينما نظر المقاول إلى جسدها الفائر على غير أوان؛ فانقلبت أحواله رأسا على عقب، و عوى الذئب في صدره، و أبى النوم و الكمون.
جاء رفض الفتاة قاطعا؛ فقد أنفت أن تبقى إلى جواره كما طلب إليها، و أنفت أن تقوم بخدمته سائر النهار مقابل مبلغ إضافي، يزاد على أجرتها المعتادة. و لما لم يتعود المقاول أن ترد فتاة له طلبا، غاظه هذا الرفض؛ فأخشن للفتاة القول، و أمرها بأن تتوجه إلى خط من خطوط المزرعة؛ لتبدأ عملها دونما إبطاء.
(٤)
مر النهار ثقيلا، كان المقاول منحرف المزاج، كان يتحدث بعصبية مفرطة، و وسط هذا الجو المكهرب، أسرف في تصيد الأخطاء للفتاة، و لما لم تتوسل إليه، لم يجد سبيلا إلى رفع خيزرانه عليها؛ فثبت الخصم، و تقاضت الفتاة في نهاية اليوم ما تبقى من أجرتها؛ فعقدت النية على عدم العودة مجددا؛ إذ كانت تدرك جيدا ما يرمي إليه المقاول.
حاشية
ثمة كائن هلامي لزج، يطبق على الدور و الصدور، هو ثقيل كالصخر، يلجئ الفتيات إلى احتمال ما لا يحتمل، و كلما قررن التذمر أو الاعتراض، حام فوق رءوسهن كما يحوم الوطواط، لم تكن فتاة البلور أحسن حالا من زميلاتها؛ فما إن صارحت أمها بعدم رغبتها في التوجه إلى المزرعة مرة أخرى، حتى التصق بوجهها هذا الكائن اللزج؛ فلم تجد مفرا من الخروج في الصباح، حتى تتخلص منه، و لو قليلا.
(٥)
ربما راهن المقاول نفسه، و عندما رآها في صباح اليوم التالي وسط الفتيات، التمعت عيناه ببريق الفرحة بعدما كسب الرهان؛ فقد كان يعلم أن هذا الكائن اللزج، الذي أخرجها بالأمس، سوف يسدي إليه جميلا بإخراجها اليوم. انتشى المقاول، لكنه أخفى سعادته، و تعمد تجاهل وجود الفتاة من الأساس، و لما لم يبق سواها أمامه، نظر إليها بمؤخرة عينه، و سألها مجددا عن اسمها، و دونه في دفتره. و في المزرعة عاملها بذات الغلظة، و تمادى في تعسفه، و بمرور الأيام، اشتد الأمر على الفتاة؛ فرضخت إلى رغبته في النهاية، و ظلت إلى جواره تجهز له النارجيلة، و تعد له الشاي، و تستمع إلى حكاياته المملة، و تجيب عن أسئلته السمجة، و في ذات نهار طلب إليها أن تحضر غرضا من أغراضه، التي عادة ما يضعها في خص قريب، حيطانه من بوص، و سقفه من جريد، و ما إن دخلت الفتاة الخص، حتى فوجئت بالمقاول يقتحم عليها المكان، و يدنو منها بسرعة، و قبل أن تطلق صرختها الأولى، كمم فمها بيد، و جال بيده الأخرى على صدرها، ثم أخرج مبلغا من المال، و وعدها بمثله إن هي طاوعته، فما كان منها إلا أن أزاحت يده بقوة؛ فتناثرت النقود على الأرض، بينما حاولت هي الإفلات من بين ذراعيه، اللتين أطبقتا عليها كالكماشة. فما كان من المقاول إلا أن جذبها نحوه مرة أخرى، و سارع بطبع قبلة ساخنة على عنقها؛ فشعرت بحر أنفاسه، و لما أوشكت مقاومتها أن تخور، غرست أسنانها في كفه، و خمشت جلده بأظفارها، فانتزع يده من بين أسنانها، و راح يتوجع، فانتهزت الفتاة الفرصة، و أطلقت عدة صرخات مدوية، بينما هجم هو عليها مرة أخرى و كمم فمها من جديد، لكنه فوجئ بفتيات المزرعة يقتحمن عليهما الخص؛ فذهل مكانه للحظات، ثم دفع الفتاة بعيدا، و انحنى؛ ليلتقط خيزرانه، لكن الفتاة سبقته إليها، و ما إن هوت على جسده بعصاه الرفيعة، حتى انهالت عليه عصوات أخرى قطفت منذ لحظات من شجيرات الكروم، و بعد أن أوسعته الفتيات ضربا، انسحبن جميعا، و غادرن المزرعة سريعا، بينما ظل المقاول ممددا على الأرض، لا يقوى على الحراك من فرط الألم، و بعد دقائق تحامل على نفسه، و نهض بصعوبة بالغة؛ و ما إن خرج من الخص، حتى أبصر الصناديق المحطمة، و عناقيد العنب المدهوسة الملتصقة بالتراب، و قبل أن يستفيق من ذهوله أبصر صاحب المزرعة مقبلا بوجه، تلوح منه نيران الغضب.