هذا الزقاق الضيق الواقع في الطرف الأيمن للشارع الرئيس الذي يشق ساحة المخيم،يعتبر مدخلا لازدحام ثلاثة عشر بيتا تتقابل معظم أبوابها بشكل شبه دائري،خلف إحدى هذه الأبواب ولد حسام لعائلة تنحدر من قرية زرعين المهجرة الواقعة بالقرب من تقاطع طرق جنين العفولة وبيسان اللجون،حسام نما وترعرع هنا في هذا الزقاق وحوله،أصبح على أعتاب سن الشباب،وهو يتميز بأدبه واحترامه لأهله وبيئته،وخجله الفطري،بالمقابل كان شجاعا مقداما،لا يهاب في الحق،ولا يتراجع عن موقف يتبناه مهما كانت النتائج،حسام هذا لم يحالفه الحظ في إمتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، فقرر أن ينتسب للمدرسة الخاصة " العربية "،من أجل إعادة تقديم الإمتحان مرة ثانية،هناك تعرف على مجموعة من نشطاء في إيطار الشبيبة التابع لحركة فتح،وسرعان ما إندمج معهم،وأصبح يتلقى كتب التوعية بفصول القضية الفلسطينية،وتاريخ حركة فتح،ونضالاتها،وأعجب بالعمليات الفدائية التي نفذتها،ومنها عملية الساحل التي قادتها المناضلة الشهيدة " دلال المغربي"، كان يقرأ منشورات وكتب تتحدث عن العملية وتاريخها،كان يدقق في صورة المغربي وقتا طويلا...، هذا الشعور رفع مستوى الحب عنده للسير في خط النضال الوطني،فكان سبَّاقا للعمل ضمن إطار الشبيبة في كل نشاطاتهم التوعوية والتطوعية والنضالية...
*
المسير اليومي من البيت إلى المدرسة العربية طويل نسبيا،وهو بالضرورة يمر من أمام طريق مدرسة الزهراء الثانوية للبنات،كان يسير وحيدا في غالب الأيام، يمضي وقته في التفكير في قضية شعبه التي يتضح عمق مأساتها يوما بعد يوم، وكونه شاب في بداية العمر،كانت عيونه تسترق النظر إلى الطالبات السائرات يوميا إلى مقاعد الدراسة،حتى لفته تلك الطالبة ذات البشرة الحنطية الصافية،والتي تشبه إلى حد بعيد المناضلة دلال المغربي خاصة بتسريحة شعرها،أمعن النظر،وصار ينزل كل صباح في نفس موعد نزولها لكي يراها في الطريق حتى ألتفتت إليه،ولاحظت النظرة الطويلة التي يسلطها عليها ذلك الشاب الوسيم الذي يعتمر الكوفية الفلسطينية على كتفه،والتي أصبحت تربكها، وتدفع نفسها للتفكير بسبب هذا الاهتمام،ومع الأيام أصبح ينثر فوق نظرته إبتسامة تلقتها بقبول خجول،وردت بمثلها، فشجعته على متابعتها من بعيد ليعرف مكان بيتهم،حتى لا يفتقدها في الإجازة الصيفية،وكون البيت الذي كانت تسكن فيه يقع في طرف مرج بن عامر،المحاط بالسهول وبيارات الحمضيات،والمساحات الشاسعة المفتوحة،التي أتاحت له السير في الطرق الموازية للبيت،من أجل الحصول على نظرة ولو من بعيد..
كانت التحية الأولى رفع اليد،والرد بالمثل، فكرت السبحة حتى كان الحديث الأول،بالتحية والكلام ببعض الكلمات،والتي لم تسعفه في التعبير عن المشاعر التي تخالجه تجاه تلك السمراء،فقرر أن يشرح ما في هواه في رسالة كتبها على ورقتيتن خلعهما من أحد دفاتره،وإنتظر الصباح،وأومأ لها صباحا بوجود رسالة،ليعود عند الظهيرة بانتظارها عند الطريق المخفي الموصل للبيت، فألقى الرسالة أرضا،عندما رآها قادمة من بعيد،فإلتقفتها من على الأرض،وأخفتها بنوع من المغامرة والخوف،وعجلت في الوصول إلى بيتهما وإغلاق باب غرفتها والشروع بقرأتها على الفور في حالة من الفرح الغامر،فهذه الكلمات الحالمة كانت مثل الماء الزلال الذي يطفأ ظمأ العطش في عمق الصحراء...
*
جاءه الجواب بالقبول والرضا،وبأن نفس المشاعر تخالجها إتجاهه،ومع الأيام نما الحب بينهما،ودخل في طقوس شبه يوميه،كان حسام فيها يحج دائما لمحيط بيتهم مساء، يقتنص فرصة يستطيع أن يجدها في حديقة بيتها،فيكلمها وتكلمه، ويحدثها وتحدثه،هو من خارج السور وهي من داخله،يرسمان حلما للمستقبل،ويتعاهدان بالوفاء والإخلاص،وأن يجمعهما مستقبلا بيت الزوجية والاستقرار،ويغوصان في الأحلام بعيدا،حتى أنهما تكلما عن أسماء الأولاد والبنات اللذين سيكون حسام والدهم ولينا وأمهم...
قبل أن يمر عام على هذه العلاقة،حل الربيع،وحلت معه المناسبات الوطنية،وإقتربت ذكرى يوم الأرض الخالد،الاحتلال المتوجس من قيام القوى والفعاليات الوطنية بإحياء هذه المناسبة، قام بحملة اعتقالات شملت العشرات من المخيم والمدينة والقضاء والاقضية الأخرى،كان من بين من دُوهِم منزله في منتصف الليل للاعتقال حسام،لم يعثر المحتلون على حسام، لقد كان حيث يكون قلبه،سلطات الاحتلال إعتقلت شقيه الأصغر بشكل تعسفي لإجبار حسام لتسليم نفسه،عاد حسام إلى البيت صباحا،فعلم بالمداهمة والاعتقالات،وقرأ طلب الاستدعاء الذي تركته له السلطات لمراجعة مقر ما كان يسمى
" الحكم العسكري"...،كانت والدته خائفة جدا على أخيه الأصغير الذي إحتجز مكانه،هدأ من روع والدته وقال لها .. لا تقلقي.. سيعود...
إنبرى إلى ركن من البيت،وكتب رساله قصيرة للينا يخبرها بها بما حدث،ويعاهدها على الثبات في الاعتقال،ثباتا وصمودا يضمن له الإفراج بعد انتهاء مدة التوقيف،وسار صباحا نحو منطلق طريقها الصباحي،ألقى لها الرسالة عندما اقتربت منه وقـــــــــــــال :- أريد منك أن تقرأيها الآن
ففعلت.. ونظرت إليه وبكت...
فقال : لا تبكي .. أعاهدك أن أعود سريعا...
ومضى ..
*
كانت مدة التوقيف في معتقل الفارعة ثمانية عشر يوما، سجل فيها حسام صمودا رائعا،لم يقدم للمحققين رغم قسوتهم أي اعتراف، أو أي كلمة، لا عن نشاطاته،ولا عن نشاطات حركته ورفاق دربة،ولما أزعج المحققين ثبات حسام، شتموه وضربوه بقوة،فما كان منه إلا أن وجه اللكمات للمحقق الفج الذي كان يطلق على نفسه لقب " أبو خنجر"، فتداعى عليه الضباط والجنود وأوسعوه ضربا،لكنه لم ينكسر،وأمضى أيامه في زنازين العزل في أقبية التحقيق،حتى اليوم الثامن عشر من التوقيف،حيث أطلق سراحه مساء،وعاد لجنين وهو يحمل أماناته التي تسلمها من إدارة المعتقل وهي هويته الشخصية وساعة ورباط الحذاء وبعض النقود، وكشاف صغير ،كان يستخدمه ليلا عندما يذهب لمنطقة بيت لينا...
ساعة تقريبا،وصل الشارع المحاذي لبيت لينا، حيث يفكر عقله ويشتاق قلبه،كان الظلام قد حل،وعندما أصبح مقابل البيت،أشغل الكشاف وأطفأه ثم كرر ذلك مرات عدة،كانت لينا في المطبخ المقابل لذلك الطريق،تقوم بتنظيف الأواني، تفاجأت .. تركت المطبخ،وخرجت بغير وعي نحو الطريق.. لتلقاه بعيون دامعة
قال لها : الم اقل لك أني سأعود
*
كانت هي من عائلة متوسطة الحال نسبيا،وهو من عائلة فقيرة،هذا الفرق بينهما كسره الحب، لكن عائلتها بالذات لم تكن لتوافق أصلا على وجود مثل هكذا علاقة،وعندما وجدت والدتها بالصدفة إحدى الرسائل بين ملابسها،سارعت بتوبيخها، وأبلغت والدها بالأمر،فصفعها وهددها بإرغامها على ترك المدرسة وطلب منها أن لا تكلمه وان تتركه، قال لها:- هو ليس من مستوانا...
وكان هذا رأي شقيقتها الاكبرالتي عارضت بشدة هذه العلاقة،وسعت لإفشالها،لكنها رغم قوة شخصيتها تراجعت أمام إصرار حسام وتعلق لينا به،حيث التقت بها عدة مرات،وطلبت منه أن يترك أختها لأسباب كثيرة منها أن هذه العلاقة لن يكتب لها النجاح لأسباب أهمها المستوى الاجتماعي.. فكان رده الإصرار على التمسك بها ما دامت تريده...
*
غيبة المعتقل مرة أخرى،وقضت محكمة الاحتلال بسجنه لمدة عامين كاملين، لم تغب خلالها عن ذاكرته،كان يعد الأيام والساعات حتى يخرج إليها،ويتقدم من خطبتها،وكان ينتظر الزيارة كل شهر لعله يحصل على خبر يداوي بعضا من شوقه، خبر يتخيله،ويعيش صوره ويجتر به ذكرياته القديمة،ويضيف به ذكرى جديدة، كانت سنتين أثقل عليه من وزن العمر الشقي،...خرج للحرية بعد إنقضاء المدة،وقد دخلت إنتفاضة الحجارة سنتها الأولى،فزاره الأهل والجيران والمعارف والأصدقاء، أحدهم همس في أذنيه:-
هل صحيح أن لينا تم عقد قرانها على شاب آخر؟؟
ذهل ما وقع ما سمع..فسأله :- هل أنت متأكد مما تقول؟؟
رد الصديق: أجل لقد رأتهما بأم عيني في السوق،ولما إستفسرت عن ذلك الشاب التي تسير معه، فقالوا خطيبها...
خرج حسام من بيته المزدحم بالمهنئين،وذهب يبحث عن شيء يخلصه من هذه الدنيا.. وجد لترا من الكاز... فشربه دون تردد بقصد الانتحار...وسقط أرضا،فهرع الجميع،ونقلوه للمشفى لإنقاذ حياته..
*
بعد هذه الصدمة، أصبح صديق الوحدة والشرب،إعتزل الكل،إلا صديقا له كوخ في مزرعته،يحتسي الخمر كل المساء،فكان يذهب إليه،ويقاسمه المائدة... ويستفيض في الحديث.. والشكوى وألم الضياع.. وكان يوصيه بأن يسكب عليه الماء قبل أن يعود على البيت،حتى لا يلاحظ أحد من أهله حالته.. إلا في يوم إشتد الشوق به،فطلب من صديق الكأس أن يحرمه من رشة الماء هذا المساء،لأنه ذاهب إلى مهوى فؤاده ليسأله السؤال الكبير...
مضى حسام نحو البيت مساء،إقتحمه وهو يحمل سكينا،لم يكن والد لينا ولا والدتها هناك،طرق الباب الخارجي،خرجت شقيقتها..طلب رؤية لينا.. رفضت في بادئ الأمر...لكنه إصر، وهدد باستعمال السكين.. أو قتل نفسه... شعرت شقيقتها أنه ثَمِلْ
فسألته :- هل أنت سكران ..؟؟
قال :- نعم..
أشفقت منه،وهي ترى دموعه تنساب على خديه،فنادت أختها لينا،فنزلت من غرفتها وإنفجرت بالبكاء عندما شاهدت حسام، وجلسا معا يتعاتبان...
قالت له: أين كنت لما تركتني؟؟
قال لها : كنت معتقلا... أنت التي تركتني وبعتني وخطبتي
قال :- أرغمني أهلي ولم أكن أريده .. لذلك فسخت عقد القرآن
قال لها :- لا زلت أحبك
قالت : وأنا أكثر مما تتخيل
قال:- لقد نكثتي العهد... لماذا فعلت هذا ونهض وتركها تبكي بمرارة.
فلحقته أمترا ثم جثت على ركبتها تبكي خسارته وحظها السيء.
*
حدث نفسه بضرورة اتخاذ القرا،الابتعاد والنسيان،وطلب من أهله البحث له عن عروس من المخيم يتزوجها وتكون شريكة حياته،فكان،وتزوج،وأنجب البنين والبنات،وسمى أولاده كما كان يعدها،والتحق بعمل رسمي في إحدى دوائر السلطة الوطنية بعد إقامتها في الوطن،كان يميل للتوسيع على أولاده،أقتنى سيارة متواضعة،وأخذ يحملهم بها إلى السوق، يبتاع لهم البوظة والذرة والعصائر،ذات يوم وبينما كان يزاحم لشراء حبات من البوظة لابناءه، التفت للخلف، فرأى سيارة ترقبة، فيها امرأتان ،هي وأختها..
إبتسمت بحزن وأشارت إليه هل هؤلاء أولادك؟؟
رد بعد أن بلع صدمته ومفاجأة :- نعم
قالت :- ماذا أسميتهم؟؟
فرد عليها بلحن الأسماء الثلاثة التي كان وعدا بينهم
فبكت، اختصر الرحلة وعاد،لقد نكأت جرح قلبه..
وبالرغم من أنها تزوجت، وأنجبت إبنتان،إلا انه لا يزال يقول،أطلب من الله معجزة تحقيق لي أعيش معها لأيام معها تحت سقف واحد،نترجم أحلامنا التي لم تمت رغم مرور نحو ثلاثين عاما... فلا زلت اعشق "دلال المغربي.".. ولا زلت أرسم صورتها كلما ضيّق الشوق صدري.
*
المسير اليومي من البيت إلى المدرسة العربية طويل نسبيا،وهو بالضرورة يمر من أمام طريق مدرسة الزهراء الثانوية للبنات،كان يسير وحيدا في غالب الأيام، يمضي وقته في التفكير في قضية شعبه التي يتضح عمق مأساتها يوما بعد يوم، وكونه شاب في بداية العمر،كانت عيونه تسترق النظر إلى الطالبات السائرات يوميا إلى مقاعد الدراسة،حتى لفته تلك الطالبة ذات البشرة الحنطية الصافية،والتي تشبه إلى حد بعيد المناضلة دلال المغربي خاصة بتسريحة شعرها،أمعن النظر،وصار ينزل كل صباح في نفس موعد نزولها لكي يراها في الطريق حتى ألتفتت إليه،ولاحظت النظرة الطويلة التي يسلطها عليها ذلك الشاب الوسيم الذي يعتمر الكوفية الفلسطينية على كتفه،والتي أصبحت تربكها، وتدفع نفسها للتفكير بسبب هذا الاهتمام،ومع الأيام أصبح ينثر فوق نظرته إبتسامة تلقتها بقبول خجول،وردت بمثلها، فشجعته على متابعتها من بعيد ليعرف مكان بيتهم،حتى لا يفتقدها في الإجازة الصيفية،وكون البيت الذي كانت تسكن فيه يقع في طرف مرج بن عامر،المحاط بالسهول وبيارات الحمضيات،والمساحات الشاسعة المفتوحة،التي أتاحت له السير في الطرق الموازية للبيت،من أجل الحصول على نظرة ولو من بعيد..
كانت التحية الأولى رفع اليد،والرد بالمثل، فكرت السبحة حتى كان الحديث الأول،بالتحية والكلام ببعض الكلمات،والتي لم تسعفه في التعبير عن المشاعر التي تخالجه تجاه تلك السمراء،فقرر أن يشرح ما في هواه في رسالة كتبها على ورقتيتن خلعهما من أحد دفاتره،وإنتظر الصباح،وأومأ لها صباحا بوجود رسالة،ليعود عند الظهيرة بانتظارها عند الطريق المخفي الموصل للبيت، فألقى الرسالة أرضا،عندما رآها قادمة من بعيد،فإلتقفتها من على الأرض،وأخفتها بنوع من المغامرة والخوف،وعجلت في الوصول إلى بيتهما وإغلاق باب غرفتها والشروع بقرأتها على الفور في حالة من الفرح الغامر،فهذه الكلمات الحالمة كانت مثل الماء الزلال الذي يطفأ ظمأ العطش في عمق الصحراء...
*
جاءه الجواب بالقبول والرضا،وبأن نفس المشاعر تخالجها إتجاهه،ومع الأيام نما الحب بينهما،ودخل في طقوس شبه يوميه،كان حسام فيها يحج دائما لمحيط بيتهم مساء، يقتنص فرصة يستطيع أن يجدها في حديقة بيتها،فيكلمها وتكلمه، ويحدثها وتحدثه،هو من خارج السور وهي من داخله،يرسمان حلما للمستقبل،ويتعاهدان بالوفاء والإخلاص،وأن يجمعهما مستقبلا بيت الزوجية والاستقرار،ويغوصان في الأحلام بعيدا،حتى أنهما تكلما عن أسماء الأولاد والبنات اللذين سيكون حسام والدهم ولينا وأمهم...
قبل أن يمر عام على هذه العلاقة،حل الربيع،وحلت معه المناسبات الوطنية،وإقتربت ذكرى يوم الأرض الخالد،الاحتلال المتوجس من قيام القوى والفعاليات الوطنية بإحياء هذه المناسبة، قام بحملة اعتقالات شملت العشرات من المخيم والمدينة والقضاء والاقضية الأخرى،كان من بين من دُوهِم منزله في منتصف الليل للاعتقال حسام،لم يعثر المحتلون على حسام، لقد كان حيث يكون قلبه،سلطات الاحتلال إعتقلت شقيه الأصغر بشكل تعسفي لإجبار حسام لتسليم نفسه،عاد حسام إلى البيت صباحا،فعلم بالمداهمة والاعتقالات،وقرأ طلب الاستدعاء الذي تركته له السلطات لمراجعة مقر ما كان يسمى
" الحكم العسكري"...،كانت والدته خائفة جدا على أخيه الأصغير الذي إحتجز مكانه،هدأ من روع والدته وقال لها .. لا تقلقي.. سيعود...
إنبرى إلى ركن من البيت،وكتب رساله قصيرة للينا يخبرها بها بما حدث،ويعاهدها على الثبات في الاعتقال،ثباتا وصمودا يضمن له الإفراج بعد انتهاء مدة التوقيف،وسار صباحا نحو منطلق طريقها الصباحي،ألقى لها الرسالة عندما اقتربت منه وقـــــــــــــال :- أريد منك أن تقرأيها الآن
ففعلت.. ونظرت إليه وبكت...
فقال : لا تبكي .. أعاهدك أن أعود سريعا...
ومضى ..
*
كانت مدة التوقيف في معتقل الفارعة ثمانية عشر يوما، سجل فيها حسام صمودا رائعا،لم يقدم للمحققين رغم قسوتهم أي اعتراف، أو أي كلمة، لا عن نشاطاته،ولا عن نشاطات حركته ورفاق دربة،ولما أزعج المحققين ثبات حسام، شتموه وضربوه بقوة،فما كان منه إلا أن وجه اللكمات للمحقق الفج الذي كان يطلق على نفسه لقب " أبو خنجر"، فتداعى عليه الضباط والجنود وأوسعوه ضربا،لكنه لم ينكسر،وأمضى أيامه في زنازين العزل في أقبية التحقيق،حتى اليوم الثامن عشر من التوقيف،حيث أطلق سراحه مساء،وعاد لجنين وهو يحمل أماناته التي تسلمها من إدارة المعتقل وهي هويته الشخصية وساعة ورباط الحذاء وبعض النقود، وكشاف صغير ،كان يستخدمه ليلا عندما يذهب لمنطقة بيت لينا...
ساعة تقريبا،وصل الشارع المحاذي لبيت لينا، حيث يفكر عقله ويشتاق قلبه،كان الظلام قد حل،وعندما أصبح مقابل البيت،أشغل الكشاف وأطفأه ثم كرر ذلك مرات عدة،كانت لينا في المطبخ المقابل لذلك الطريق،تقوم بتنظيف الأواني، تفاجأت .. تركت المطبخ،وخرجت بغير وعي نحو الطريق.. لتلقاه بعيون دامعة
قال لها : الم اقل لك أني سأعود
*
كانت هي من عائلة متوسطة الحال نسبيا،وهو من عائلة فقيرة،هذا الفرق بينهما كسره الحب، لكن عائلتها بالذات لم تكن لتوافق أصلا على وجود مثل هكذا علاقة،وعندما وجدت والدتها بالصدفة إحدى الرسائل بين ملابسها،سارعت بتوبيخها، وأبلغت والدها بالأمر،فصفعها وهددها بإرغامها على ترك المدرسة وطلب منها أن لا تكلمه وان تتركه، قال لها:- هو ليس من مستوانا...
وكان هذا رأي شقيقتها الاكبرالتي عارضت بشدة هذه العلاقة،وسعت لإفشالها،لكنها رغم قوة شخصيتها تراجعت أمام إصرار حسام وتعلق لينا به،حيث التقت بها عدة مرات،وطلبت منه أن يترك أختها لأسباب كثيرة منها أن هذه العلاقة لن يكتب لها النجاح لأسباب أهمها المستوى الاجتماعي.. فكان رده الإصرار على التمسك بها ما دامت تريده...
*
غيبة المعتقل مرة أخرى،وقضت محكمة الاحتلال بسجنه لمدة عامين كاملين، لم تغب خلالها عن ذاكرته،كان يعد الأيام والساعات حتى يخرج إليها،ويتقدم من خطبتها،وكان ينتظر الزيارة كل شهر لعله يحصل على خبر يداوي بعضا من شوقه، خبر يتخيله،ويعيش صوره ويجتر به ذكرياته القديمة،ويضيف به ذكرى جديدة، كانت سنتين أثقل عليه من وزن العمر الشقي،...خرج للحرية بعد إنقضاء المدة،وقد دخلت إنتفاضة الحجارة سنتها الأولى،فزاره الأهل والجيران والمعارف والأصدقاء، أحدهم همس في أذنيه:-
هل صحيح أن لينا تم عقد قرانها على شاب آخر؟؟
ذهل ما وقع ما سمع..فسأله :- هل أنت متأكد مما تقول؟؟
رد الصديق: أجل لقد رأتهما بأم عيني في السوق،ولما إستفسرت عن ذلك الشاب التي تسير معه، فقالوا خطيبها...
خرج حسام من بيته المزدحم بالمهنئين،وذهب يبحث عن شيء يخلصه من هذه الدنيا.. وجد لترا من الكاز... فشربه دون تردد بقصد الانتحار...وسقط أرضا،فهرع الجميع،ونقلوه للمشفى لإنقاذ حياته..
*
بعد هذه الصدمة، أصبح صديق الوحدة والشرب،إعتزل الكل،إلا صديقا له كوخ في مزرعته،يحتسي الخمر كل المساء،فكان يذهب إليه،ويقاسمه المائدة... ويستفيض في الحديث.. والشكوى وألم الضياع.. وكان يوصيه بأن يسكب عليه الماء قبل أن يعود على البيت،حتى لا يلاحظ أحد من أهله حالته.. إلا في يوم إشتد الشوق به،فطلب من صديق الكأس أن يحرمه من رشة الماء هذا المساء،لأنه ذاهب إلى مهوى فؤاده ليسأله السؤال الكبير...
مضى حسام نحو البيت مساء،إقتحمه وهو يحمل سكينا،لم يكن والد لينا ولا والدتها هناك،طرق الباب الخارجي،خرجت شقيقتها..طلب رؤية لينا.. رفضت في بادئ الأمر...لكنه إصر، وهدد باستعمال السكين.. أو قتل نفسه... شعرت شقيقتها أنه ثَمِلْ
فسألته :- هل أنت سكران ..؟؟
قال :- نعم..
أشفقت منه،وهي ترى دموعه تنساب على خديه،فنادت أختها لينا،فنزلت من غرفتها وإنفجرت بالبكاء عندما شاهدت حسام، وجلسا معا يتعاتبان...
قالت له: أين كنت لما تركتني؟؟
قال لها : كنت معتقلا... أنت التي تركتني وبعتني وخطبتي
قال :- أرغمني أهلي ولم أكن أريده .. لذلك فسخت عقد القرآن
قال لها :- لا زلت أحبك
قالت : وأنا أكثر مما تتخيل
قال:- لقد نكثتي العهد... لماذا فعلت هذا ونهض وتركها تبكي بمرارة.
فلحقته أمترا ثم جثت على ركبتها تبكي خسارته وحظها السيء.
*
حدث نفسه بضرورة اتخاذ القرا،الابتعاد والنسيان،وطلب من أهله البحث له عن عروس من المخيم يتزوجها وتكون شريكة حياته،فكان،وتزوج،وأنجب البنين والبنات،وسمى أولاده كما كان يعدها،والتحق بعمل رسمي في إحدى دوائر السلطة الوطنية بعد إقامتها في الوطن،كان يميل للتوسيع على أولاده،أقتنى سيارة متواضعة،وأخذ يحملهم بها إلى السوق، يبتاع لهم البوظة والذرة والعصائر،ذات يوم وبينما كان يزاحم لشراء حبات من البوظة لابناءه، التفت للخلف، فرأى سيارة ترقبة، فيها امرأتان ،هي وأختها..
إبتسمت بحزن وأشارت إليه هل هؤلاء أولادك؟؟
رد بعد أن بلع صدمته ومفاجأة :- نعم
قالت :- ماذا أسميتهم؟؟
فرد عليها بلحن الأسماء الثلاثة التي كان وعدا بينهم
فبكت، اختصر الرحلة وعاد،لقد نكأت جرح قلبه..
وبالرغم من أنها تزوجت، وأنجبت إبنتان،إلا انه لا يزال يقول،أطلب من الله معجزة تحقيق لي أعيش معها لأيام معها تحت سقف واحد،نترجم أحلامنا التي لم تمت رغم مرور نحو ثلاثين عاما... فلا زلت اعشق "دلال المغربي.".. ولا زلت أرسم صورتها كلما ضيّق الشوق صدري.