د. زياد العوف - العَلمانية والمواطَنة والدّولة المدنيّة

تردّدتُ طويلاً قبل أنْ أشرعَ في كتابة هذه المقالة؛ فالموضوع شائك، وتناولُه أشبهُ بالسير في حقل من الألغام، ناهيكَ عمّا يحيط به من سوء الفهم والآراء المسبَقة الخاطئة، ليس عند عامة القرّاء فحسبُ، بل لدى كثير من خاصّتهم أيضاً.
لكنّ التدقيق فيما آلتْ إليه أحوال مجتمعاتنا من اضطرابات وصراعات دموية تكاد تأتي على وجودنا ذاته، وما تكشّفتْ عنه من اختلافات وتناقضات عرقيّة ودينية وطائفية وأيديولوجية في مجتمعات كنّا نظنّها تقف على أرض صلبة من التجانس والتوافق، ناهيك عن
الانحدار المتسارع الذي يَسِم المسار السياسي في معظم أقطارنا العربية، والوضع المتردّي، كي لا أقولَ البائس، الذي تعيشه هذه الأقطار لأسباب عديدة، لعلّ من أهمّها سوء الإدارة والاستبداد واستشراء الفساد والتخلّف العام في معظم مناحي الحياة، كلّ ذلك جعلني أُقْدِمُ على طرح الموضوع بصرف النظر عن الحساسيات والإشكاليات التي قد يثيرها لدى الكثيرين.
غير أنّي سأحاول، قدر الإمكان ، اعتماد الدقّة والموضوعية في طرح الوقائع والأفكار بغية مساعدة القارئ على تكوين صورة صادقة عن هذه المفاهيم تمكيناً له، فيما أرجو، من اتّخاذ الموقف الصحيح المبنيّ على العلم والمعرفة والمجرّد من النَزَعات والأهواء.
العَلمانية والمواطَنة والدّولة المدنية أقانيمُ ثلاثة يلزم بعضها بعضاً.
أمّا العَلْمانية ( بفتح العين لا بكسرها ) فإنّها منسوبة إلى ( العَلْم )
وهو العالَم؛ فالعَلمانية على ذلك هي ما يقابل الديني أو الكهنوتي، وليست من العِلْم الذي هو نقيض الجهل، وإن كان العِلْم يمثّل إحدى الركائز التي تقوم عليها العَلْمانية.
يتعلّق الأمر هنا بالفصل بين ماهو روحي أو دينيّ من جانب، وبين ماهو زمنيّ أو دنيويّ من جانب آخر.
أيّ الفصل بين مايُعرَف بالسلطة الروحية والسلطة الزمنية.
يقوم الفِكر العَلمانيّ على التمييز بين الإنسان الفرد وبين الشخص العام، أيّ المواطن، فلا يطغى أحدهما على الآخر؛ إذ يملك الإنسان الفرد مطلق الحرية في ما يتبنّاه من آراء أو معتقدات، وتضمن العَلمانية له كلّ الحقوق والشروط الموضوعية لتحقّقها دون المساس بحقوق وحرية الآخرين، لكنّها لا تتبنّاها كما أنّها لا تتبنّى سواها.
لعلّ الهدف الأسمى الذي تسعى إليه العَلمانية يتمثّل في ركيزتين اثنتين:
١- الفصل بين العام والخاصّ.
٢- سيادة الإرادة الحرّة في الحياة المشتركة.
ما يتطلّب الإعلاء من شأن العقل، ويقظة الضمير، والسمو الأخلاقيّ.
إنّ العلمانية تقف على النقيض من النظام الشموليّ بنوعيه: الدينيّ والأيديولوجيّ ( الشيوعية على سبيل المثال ) إنّها ليست ضدّ الأديان ولا الأيديولوجيات مهما كانت، لكنّها تضعها في حيّزها الخاص الذي لا يطغى على المجموع ولا يُلزمهم بها.
بل إنّها معنية بإفساح المجال لمعتنقيها ومساعدتهم على ممارستها،بحيث يحفظها من الاستغلال السياسي أو غيره من جهة، ويحول دون طغيانها على المخالفين لها من جهة أخرى.
العَلمانية إذاً لا تعني الإلحاد، كما يظنّ كثير منّا، أو كما يروّج أعداؤها من المتاجرين بالدين أو بالسياسة ، الذين يسوّقون لمثل هذه الأفكار، تمكيناً للأنظمة المستبدة على اختلافها، وطمعاً في ما يحقّقونه من مكاسب ومناصب على حساب أبناء مجتمعاتهم.
الإنسان الفرد في المجتمع العَلْماني حرّ في ما يعتقد وفي ما يمارس من شعائر؛ إنّه مؤمن أو ملحد أو لا هذا ولا ذاك، لكنّ هذا الانتماء أو ذاك لا يجعله متميّزاً عن باقي أفراد المجتمع. إنّه هنا في هذا الفضاء العام هو المواطن في دولة المواطَنة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات واحترام القانون دون تمييز.
الأقنوم أو الأصل الثاني في هذا المثلّث هو ( المواطَنة ) : إنّ أفراد المجتمع العَلْمانيّ هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات في ظلّ الدستور المتّفق عليه ومجموع القوانين التفصيليةالناظمة له. يرتبط المواطنون فيما بينهم وبين الدولة بعقد اجتماعيّ يكون مناط احترام الجميع.
المواطنون أناس أحرار تحكمهم قناعاتهم ومبادئهم في إطار القانون الذي يحترمه الجميع، وليسوا( رعايا ) يُنعِم عليهم الحاكم ، مهما كانت تسميته، بالعطف والمكْرُمات متى شاء، ويمنعها عنهم إذا أراد.
أمّا ( الدولة المدنية ) - مع بعض الاختلاف في مدلولها - فإنها وحدها القادرة على احتواء العَلمانية وتطبيق مبادئها من خلال ( العقد الاجتماعيّ ) الذي يربط بينها وبين مواطنيها.
إنها مجموع المنظومات والمؤسسات القادرة على تحقيق مفهوم المواطَنة والديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، والتطبيق الرشيد لمبدأ الفصل بين الدين والدولة، وبين الخاصّ والعام، والسهر على حماية المواطنين والارتقاء بهم في شتّى المجالات دون تمييز.
ولا ريب أنْ تحقيق هذه الأهداف يتطلّب اعتماد التسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات تحت مظلّة القانون التي تظلّل المواطنين جميعاً دون أيّ تمييز.
منذ أكثر من قرن من الزمان كان أعلامنا الكبار، من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده وعبد الرحمن الكواكبي قد قطعوا شوطاً بعيداً في ما كتبوه ودعوا له حول الحُكْم الرشيد، ولامسوا بشكل أو بآخر بما يتناسب وعصرَهم، مفهومَ الدولة المدنية والعَلمانية، لكنّنا، بكلّ أسف، لم نتابع مسيرتهم المباركة وبقينا أسارى التردّد والحيرة وعدم اليقين مؤثرين استحضار التاريخ، والتغني بأمجاد الماضي على التفاعل مع العصر والمشاركة الفاعلة في الحضارة الحديثة متذرّعين بتآمر الأعداء، متعلّلين بالرؤى والأوهام.
أرجو أنْ أكون قد قاربتُ التوفيق فيما طرحت من قضايا وأفكار، راجياً لأمّتنا التّقدّم والازدهار.
تنويه:
أعيدُ نشر المقال للضرورة؛ إذ لا يزال الموضوع ملحّاً في ظلّ ما تعانيه مجتمعاتُنا من تدهور متسارع في كلّ المجالات الحيويّة.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى