فتحي عثمان - اتفاقية بريتوريا: نظرة دبلوماسية.. 2 من 2

2/2

بالإشارة إلى ما سبق فإن المذكرات والسير الشخصية تبدو أكثر دسامة من المقررات الخاصة بالدبلوماسية وأسرار التفاوض. على سبيل المثال نذكر هنري كيسنجر، مرة أخرى، وهو من المع الدبلوماسيين في القرن العشرين من حيث التأهيل والممارسة وسبق له تأليف عدة كتب منها كتاب "الدبلوماسية" الذي يؤرخ للنظام العالمي وموقع العلاقات الدولية فيه؛ ولكن كتابه الذي يسرد تجربته كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية تحت عنوان: "سنوات البيت الأبيض" يقدم شخصيات من لحم ودم وتجارب واقعية ويحكي عن حروب وشخصيات وهو بذلك نموذج لتلك الكتابات التي تكشف غموض الدبلوماسية والتفاوض واسراره. وينبغي اتخاذ الحيطة عند قراءة كيسنجر، فهو وحسب المصالح التي يمثلها، يمجد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهو من حيث لا يدري يصيبها في مقتل كذلك.
والمذكرات ترصد لنا المشاعر في اللحظات الحاسمة كتلك اللحظات الحرجة التي قرر فيها الرئيس السادات حزم حقائبه وأعطى الأمر لوفده المرافق في كامب دافيد للعودة إلى القاهرة بسبب تعنت مناحيم بيغن؛ هنا بلغت الإثارة قمتها، تماما مثل ما هو الحال في أفلام هيتشكوك، وقام الرئيس كارتر وفي مسعى محموم لإنقاذ التفاوض بالهرولة بين مقري إقامة الوفدين حتى استطاع تليين مواقف الجانب الإسرائيلي وقرر السادات مواصلة الحوار. هذه الساعات العصيبة والتوتر وخيبات الأمل والفرح بالتوصل إلى مخارج واتفاقات كلها ترسمها السير والمذكرات.
مبعوث الاتحاد الافريقي اوباسانجو والذي قاد الوساطة حتى التوقيع على اتفاق بريتوريا بين الحكومة الاثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في الثمانين من العمر، ونتمنى له عمرا مديدا حتى يسرد لنا خفايا هذا الاتفاق واسراره.
اتفاق بريتوريا:
وبالعودة إلى اتفاق الفرقاء الاثيوبيين فإن اسرار التفاوض والمهارات الدبلوماسية والضغوط لن تكون معروفة حتى حين وضعها في كتب، لكن في هذه الأثناء فإن كل من كتب عن الاتفاق مؤيدا له وواصفا له بأنه انتصار لإثيوبيا وللقارة فهو على حق ولم يجانبه الصواب مطلقا، فلا شيء أعظم من حقن الدماء وتوفير الطعام وسيادة الأمان وتلك الحاجات الأساسية أشار لها الاتفاق في ديباجته.
الطرف الحكومي:
نبدأ بالطرف الحكومي في التفاوض ونشير إلى ما كتبه البروفيسور اليكس دي وال مدير معهد السلام بكلية فلتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تفتس المرموقة في الولايات المتحدة، وله عدة مؤلفات عن افريقيا، وهو أيضا محلل شئون افريقيا للبي بي سي ومن أوائل الذين كتبوا عن اتفاق بريتوريا. ولا يخفي دي وال تعاطفه مع تيغراي. من وجهة نظره فإن الاتفاق جاء كانتصار كاسح لأبي أحمد ضد جبهة تيغراي. ويعزي دي وال تفوق ابي أحمد إلى استعماله "سلاحين" فتاكين وهما: سلاح "التجويع" ضد المدنيين، وسلاح "الضربات العسكرية الموجعة". ويخشى دي وال من أن نجاح أبي أحمد في استخدام هذين السلاحين قد يدفعه مستقبلا لتكرار استخدامهما.
بالطبع لا يمكن التغاضي عن المؤشرات في الأرض، فهي كانت حاسمة في تحديد مخرجات التفاوض، فنحن لا نعرف تماما، وحتى الآن إلى ماذا يعزى التفوق الحكومي، هل للضغوط أما للضمانات الموعودة أو حتى لمهارة وفد الحكومة المفاوض.
أول مظاهر هذا التفوق هو قدرة الوفد الحكومي فرض تصور عام متوافق عليه بأن التفاوض يتم بين حكومة شرعية لدولة عضو في الاتحاد الافريقي مقابل حركة "تمرد" إقليمي، وضمن الوفد أن مخرجات التفاوض يجب أن تضع هذا الفرق الحاسم في الحسبان.
تمخض عن الفرق الجوهري فوز الفريق الحكومي بانتزاع حق "احتكار القوة القهرية" أو حق "احتكار العنف" بإقرار الاتفاق بأن الجيش الاثيوبي هو القوة الشرعية الوحيدة المسلحة مما يعنى حل قوات تيغراي، نصا، وتفكيك المليشيات الأخرى بما ذلك المليشيات المؤيدة للحكومة.
وبهذا حقق أبي احمد ما عجز عنه الفريق البشير في صراعه ضد الحركات المسلحة في دارفور، رغم اختلاف المعطيات. فالبشير رغم حربه الدامية ضد الحركات المسلحة لم يستطع ضمان احتكار الدولة للعنف.
يضاف إلى ذلك دخول الفريق الحكومي التفاوض مع قادة تيغراي ليس كممثلين لحكومة الإقليم؛ بل كقادة للجبهة الشعبية وهذا بمثابة الغاء فعلي لنتائج الانتخابات التي تمت في الصيف الماضي واعتمدتها جبهة تيغراي كأداة لمناهضة شرعية الحكومة المركزية. وبتسليم الطرفين بأن الدستور والحل السلمي هما سبيل حل الخلافات مستقبلا أكد الجانبان الاعتماد على الحوار ونبذ الاقتتال.
الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي:
المؤشرات في الميدان كانت حاسمة لقادة جبهة تيغراي. أهم مؤشر ليس هو الضربات العسكرية المتلاحقة ضد قوات الجبهة؛ بل الحصار المفروض على وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين والمجاعة التي باتت تهدد الملايين من المواطنين. محاربو جبهة تيغراي يمكنهم خسارة المدن واللجوء إلى الجبال وشن حرب عصابات، ولكن هذا الخيار، الذي طبقوه من قبل واستعادوا به عاصمة اقليمهم، بات شبه مستحيل الآن، وذلك بسبب أن حرب العصابات لا يمكن شنها بدون سند شعبي قوي ومتواتر. المجاعة وعدم الأمان في هذا الحالة لن يساعدا على شن حرب عصابات. فما كان من خيار الا وضع البندقية على الأرض والتركيز على انقاذ الأرواح. أما أبناء تيغراي والذين يرفضون الاتفاق ويدعون إلى مواصلة الحرب يبدو أنهم لا يضعون المجاعة التي تأكل شعبهم في الحسبان.
ضمان وصول المساعدات الإنسانية وبقاء التنظيم كقوة سياسية، رغم التهديدات بإبادة التنظيم، والاحتفاظ بالدستور الذي صاغته الجبهة للبلاد، ورفع اسم التنظيم من قائمة المنظمات الإرهابية وعودتها لحكم الإقليم بالتوافق مع السلطة المركزية كل تلك مكاسب سياسية لا يمكن التقليل منها. هذه المكاسب جاءت عبر آلية تفاوض تقوم على مبدأ "الكل رابح" وتقسيم مخرجات التفاوض بشكل مرض بين الطرفين.
ارتريا من التحالف إلى التعاقد:
المواجهات العسكرية بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تيغراي اعتمدت على استراتيجية بناء التحالفات السياسية والعسكرية. فهناك من جهة تحالف الحكومة الفيدرالية والحكومة الارترية وحكومة إقليم العفر والمليشيات الأمهرية، وتحالف جبهة تيغراي وجيش تحرير الاورومو من جهة اخرى. ونص الاتفاق على "ضمان أمن الجميع" وهذا يعني أن التحالفات السياسية والعسكرية لن تكون مقبولة لتحقيق السلام بين الأطراف؛ وأن السلام المنشود يفرض حالة تحول من سياسات الأحلاف إلى سياسة التعاقد التي يمثل اتفاق بريتوريا قمة هرمها. وهذا تحول كبير إذا التزم به كل الأطراف.
هذا التحول يعني أيضا الفك التدريجي للتحالفات القائمة، "الاتفاق نص على عدم السماح لجبهة تيغراي بتكوين أي تحالف مستقبلا"، ومن ضمن التحالفات المهددة بالتفكك هو حلف اسمرا وأديس ابابا. فأسمرا حققت تقدما عسكريا حد من انتصارها الحاسم توقيع اتفاق السلام، وأن أبي أحمد عندما فتح القفص أطار عصفور الانتصار الذهبي من بين يدي دكتاتور اسمرا العجوز، وبناء على هذا الفهم ستعمل اسمرا على هدم الاتفاق بمختلف الطرق.
من ناحية أخرى، قد يبدو توقيع الاتفاق من قبل جبهة تيغراي تحقيقا لاستراتيجية قديمة تتمثل في شق جدار التحالف بين افورقي وابي احمد.
تاريخيا تعتبر هذه الاستراتيجية قديمة، حيث يشير المؤرخ الفرنسي ارمان لوفيفر، بأن نابليون بونابرت، والذي كتب لوفيفر عشرين مجلدا في التأريخ لحقبته، ارتكب خطأ حياته القاتل، وفقد سلطانه وحياته بسبب استعداء قوتين عظميين لا طاقة له بهما وهما: الإمبراطورية النمساوية، والتي تمثل قوة برية قارية، وبريطانيا والتي تمثل قوة بحرية عظمي. وحسب رأي لوفيفر المبني على معرفة دقيقة بالشئون الدولية في تلك الفترة، كان على نابليون مصالحة فيينا لإحداث شق في تحالف لندن وفيينا وكسب جولة أخرى للبقاء.
وبناء على هذه الاستراتيجية فإن الشقوق في جدار الحلف بين اسمرا وأديس ابابا لن يطول أمد ظهورها. وذلك لسبب أن مطلب افورقي من الحرب لا تحققه اتفاقية السلام وهو القضاء التام على الوجود العسكري والسياسي للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وهو ما لم يتحقق. ويبدو أن اسياس في هذه الحرب يعيش التراجيديا التي عبر عنها جورج برنارد شو بالقول هناك مأسآتين في الحياة: الأولى أن تخسر مرادك؛ والثانية هي أن تحصل عليه.
سيناريوهات الغد:
السلوك السياسي للدول والجماعات السياسية في المنطقة كلها يقوم على سياسة المحصلة الصفرية: وهي المحصلة التي تؤكد بأن أي مكسب للآخرين هو خسارة للذات. وهذه الحالة جسدتها الحرب الأخيرة في اثيوبيا، بحيث أن مكسب لمقلي كان هو خسارة لأديس ابابا واسمرا معا، وهذا الأمر تؤكده الخطابات المجنونة للحرب والداعية لإبادة كل طرف للآخر. وبناء على هذا الفهم لن يعدم هذا الاتفاق متربصين به يسعون إلى تخريبه قبل أن يجف الحبر الذي كتب به. وحاكم اسمرا هو من أوائل الذين حيدهم هذا الاتفاق ولن يقبل بوضعية التعاقدات على حساب التحالفات التي تعب كثيرا في صنعها وبدأت في تغيير وجه المنطقة. ومن المحتمل وبناء أيضا على سياسة المحصلة الصفرية أن يتحالف افورقي وغلاة الأمهرة والذين يجمعهم معه كرههم ورغبتهم في إنهاء جبهة تيغراي وتغيير الدستور الاثيوبي، وليس من المستبعد أن يتحالفوا ضد الاتفاق الجديد مما سيدفع أبي أحمد وجبهة تيغراي لتكوين حلف جديد مقابل الحلف الأمهري الارتري، وفي هذه الحالة سيفتح أبي احمد ذراعيه على اتساعهما على أعداء افورقي المحليين والدوليين. على الأقل هذا ما علمتنا إياه دروس قادة المنطقة وممارساتهم السياسية المتكررة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى