محمد مزيد - امرأة المطر

خرجتُ من الشقة متذمراً، بعد نقاش حاد مع زوجتي، " الى أين أنت ذاهب الدنيا تمطر بشدة " قلت، قبل أن أصفق الباب خلفي" ذاهب أمتع نظري بالفراشات" هذا هو التعبير الذي دائما يضايقها، لأنه يعني التسكع ساعات، بعيداً عن رتابة الشقة.
أشتد المطر في الخارج، هرعت فورا الى نفق الترام الذي يقع بالقرب من عمارتنا، نزلت بسرعة على السلم الكهربائي، اتقاءً من البلل الذي قد يصيبني بالزكام، لاحظت ان لا أحدا ينتظر ترام الساعة الحادية عشر، سوى امرأة تجلس على آخر مصطبة. نفضت المياه عن شعري وملابسي وتقدمت بخطوات وئيدة الى المصطبة التي تجلس عليها المرأة، كانت متلفعة بقمصلة سوداء ذات غطاء للرأس، لم يبن لي وجهها، تنظر الى الأرضية بحزن، ساعة المحطة تشير الى أن الترام سيأتي بعد ثلاث دقائق، وليس من الجائز بالنسبة لي ترك المصطبات الأخرى الفارغة والجلوس قرب المرأة، لكن ما دام المطر يهمي في الاعلى، كل شيء جائز عندي، وأنا أهرب من روتين حياتي، ممتعضا، كنت أريد بضعة دقائق من الصمت بعيدا عن سلاطة اللسان، في أجواء بيتية خانقة، قلت لنفسي لأخرج ساعة، ما دمنا نسكن قريبا من محطة الترام ، ها أنذا، وما أن جلست بالطرف الاخر من المصطبة التي تجلس عليها المرأة حتى نفضت هي عن رأسها قبعة القمصلة، شعرها أسود يتمرغل على كتفيها، أتابع بطرف خفي جمالها، وجهها مستدير، تشع بشرته بالضوء، من دون مكياج، سوى صبغة حمراء خفيفة على الشفتين، أخرجت شيئا من حقيبتها، ولم أتوقع ان تستخرج مرآة صغيرة لتنظر الى وجهها ، لابد انها على موعد غرامي ، او عائدة الى البيت تريد الا يبدو على وجهها اثار التعب من يوم حافل ربما بالكد والشقاء، نظرت الى حذائها الجلدي الأسود لا ترتدي الجواريب في شهر نوفمبر البارد ، تنورتها قصيرة جدا ، لكن القمصلة السوداء عطت حتى فخذيها ولم يبن منها الا القليل، يلمعان بسبب بللهما وضوء مصابيح المحطة البرتقالية، ربما هي مثلي مستاءة من أجواء شقتها وأبلغت زوجها انها ستغيب من نقنقته وتدخله في شؤونها الحياتية الخاصة، هربت منه لمدة ساعة لتشم هواء عليلا وتستمع باجواء المطر، حشرت المرأة في حقيبتها الصغيرة والتفتت الى جهتي ولما رأتني احدق بها ، ابتسمت ابتسامة مجروحة ، لم يكن وجهها وجها اعتياديا يمكن نسيانه بسهولة ، ثمة رصعتان انحفرتا على خديها، طيرت عقلي من جمالهما، رأيت عينيها السوداوين تضحكان أيضا، وهناك كحل يحيط بهما، كما لو كان اطارا للوحة، وشفتين عامرتين، نهض السرور في داخل الرجل الحزين الذي يجلس بجانبها، وبدأت تعزف في روحي موسيقى المطر والهسهسات العجيبة، كنت مأخوذا بالابتسامة الشحيحة التي رشقتني بها ، اذ انني منذ عشر سنوات لم اجرؤ على الحديث مع امرأة غريبة لانني أعرف أن نساء هذه المدينة يمكن أن تنفجر بسهولة بوجهك اذا ما تماديت معها وتقربت منها عنوة، وعرفت مؤخرا، أن المرأة هي التي تبادر إذا ارادت، إن اعجبت بشيء ما في الرجل، وهي التي ترفض، اذا نفرت منه، فاذا ارادت لا يمكنك ان ترفض طلبها في الحديث او مصاحبتها الى أي مكان ترغب فيه، الرجل مسكين على الدوام، يتصور انه هو الذي يصطاد النساء، ولكن العكس هو الصحيح، بعض الرجال يتلقون ردا قاسيا يصل الى مستوى جرح الكرامة، ولست من الرجال الذين يمكن أن تجرح كرامتهم بسهولة، لذلك تلفعت بالصمت والهدوء حتى انتهاء مدة الانتظار قبل مجيء الترام، وما إن انقضت الدقائق الثلاث، حتى جاء، صعدت قبلي، وجلست في مقعد يتسع لشخصين، جلست بجانبها، بالرغم من أن الترام فارغ، كان يمكنني الجلوس في أي مقعد آخر، ولما لامست فخذها بساقي، التفتت الي، وابتسمت، ابتسامتها العجيبة، أوحت لي بشيء لا يغرب عن بالي، تحرك الترام، خرج من النفق، مازال المطر يهمي في الخارج، لصقت فخذي بفخذها فلم تبعده ، هذه إشارة ثانية على انني اسير في الطريق الصحيح لكتابة قصيدة المطر، بقينا ملتصقين هكذا خارج الزمن، حتى بدأ الترام يعبر حدود المدينة، صعد سفوح الجبل، بقي يصعد ونحن نراقب بعضنا البعض من خلال مرآة زجاج النافذة، حيث تنعكس عليها صورتينا، كانت هي تبتسم للمرآة وأنا أبتسم للمرآة، بقينا نتبادل الابتسامات في مرآة النافذة، بنهم ويغمرنا شعور جارف بالحب، من رأسينا حتى اقدامنا، حتى صعد بنا المترو الى قمة الجبل، ثم أخذ يعبر بنا السكة المقررة له، وصار يخترق الفضاء الأسود، صاعدا الى السماء، صاعدا الى النجوم، صاعدا الى الغيوم التي كانت تنث مطرا شفيفا عذبا على الدنيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى