أمين الزاوي - كيف ندفن جزءاً من التراث دون السير في جنازة المجتمع؟

كلما كانت ممارسة الدين ممارسة شخصية حرة وفردية، حيث فيها يواجه المؤمن إلهه بطريقة مباشرة، من دون وسيط أو دخيل أو رقيب دنيوي سلطوي، تكون الممارسة الدينية مؤسسة على علاقة سليمة وصادقة وداخلية يتحقق فيها التشبع الروحاني.
وبقدر ما تكون ممارسة الدين حرة، مهما كان هذا الدين، يكون المؤمن متحرراً من ثقل الإملاءات السياسية والطائفية والإثنية التي توجه العبادة نحو استثمار سياسي أو أيديولوجي.
لقد علمنا التاريخ البشري بأن الحرية التي يفترض بأنها من أصل الدين لا من فرعه، لا يمكنها أن تتحقق إلا بتحقق شرطين أساسيين: أولهما التوزيع العادل للخيرات الثقافية والفنية والفلسفية بين أفراد المجتمع من دون تمييز، وثانيهما تحرير الدين بفصله عن المؤسسات السياسية ومؤسسات الدولة.
لقد ظل الدين، ولا يزال، بخاصة الديانات السماوية الثلاث، رأسمالاً كبيراً للسياسيين، فهم باستعمارهم "للدين" يسعون إلى تحويل طريق العبادة التي هي خاصة بالإله إلى طريق سياسي سيار لعبادة من يدعي بأنه ظل هذا الإله على الأرض.
ويسعى زعماء وقادة الدين السياسي إلى استغلال حال "الخشوع" التي هي درجة روحانية صافية عند المؤمن في توجهه للخالق والاستثمار فيها من أجل تحويلها إلى حال "خنوع" أو "طاعة عمياء" لخطاب سياسي يريد أن يعوض الخطاب الروحي أو الصوفي أو الأخلاقي.
إن هذه الحال من "الطاعة العمياء" لزعيم الدين السياسي هي التي أنتجت ما يسمى بفيالق "الانتحاريين" الدينيين في الديانات السماوية بالأساس.
لم يكن الدين يوماً من الأيام، بوصفه سلم أخلاق قبل كل شيء، عائقاً للنمو أو مانعاً للحياة المشتركة بين الأفراد والجماعات، فهناك شعوب تعيش في أوطان واحدة في ظل ديانات متعددة، وتتعايش في ما بينها من دون كبير صعوبة، لكن ظاهرة "تسييسه" هي التي قضت على فكرة الحياة المشتركة بين المختلفين عقائدياً.
أجدني ها هنا أفضل استعمال مصطلح "الحياة المشتركة" بديلاً عن "العيش المشترك"، فالعيش يعني البقاء على الحياة، أي عدم الموت، أما "الحياة المشتركة" فتعني التمتع المشترك بجماليات الحياة في الزمن والمكان وتثميرها وتثمينها.
فلسفياً: الحيوان يعيش أما الإنسان فيحيا.
إن الصراع على "السلطة" الدنيوية باسم الدين أو بالدين وفي الدين، السلطات السياسية والاقتصادية والمعرفية، هو من قتل "الدين" وحوله إلى "قنبلة" قابلة للانفجار في كل لحظة وفي كل زمان وفي كل مكان وفي جميع الأجيال، جيلاً بعد جيل.
ما عاشه ويعيشه العالم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا من عمليات إرهابية هي محصلة هذا "الدين السياسي" أو "الدين المسيس" المفرغ من الأخلاق.
وحتى يوم الناس هذا، كما يقال، لا يزال الدين أكبر رأسمال سياسي قادر على تفكيك الأمم، وتفتيت الأسر وإراقة دماء الأبرياء من دون تأسف ولا رحمة.
هناك تاريخ عريق لتجار "الدين" في جميع المجتمعات الذين جنوا على الإنسانية وأشعلوا حروباً وزرعوا غابات من الكراهيات على الكرة الأرضية.
ولا يزال "الدين السياسي" أو "الدين المسيس" أخطر من القنبلة النووية وأكثر فتكاً بالعباد والطير والأرض.
لقد حاولت بعض الأيديولوجيات أن تكرس وجودها بأن تتحول إلى "دين" من خلال القمع والعنف والرقابة وقمع الحريات كما هي تجربة النازية وتجربة الشيوعية الستالينية وتجربة الخمير الحمر.
علمتنا فترة تنويرية من تاريخ المسلمين في الأندلس بأنه كلما ساد العمران وتشبعت الشعوب بالثقافة والفنون ومارس العامة حياتهم من دون حجر أو منع وتعلموا اللغات الأجنبية و"العيش المتصل" بسلام مع المختلف، تراجع "الدين السياسي" أو "المسيس"، ونما "التدين" الفردي الإيجابي الخلاق، وارتفع منسوب التنافس الإيجابي على حب الحياة من خلال ترقية العلم والإبداع والاقتصاد والحرية.
كلما تراجعت سلطة "التدين السياسي" بدأ المجتمع في التعافي من الكراهية والعنصرية وتصالح المجتمع مع مبادئ "حقوق الإنسان"، وعلى رأسها حقوق المرأة والمساواة واحترام الحريات الفردية والجماعية وقبول التعدد الثقافي والإثني والعقائدي.
حين ندقق النظر في طبيعة مجتمعاتنا المعاصرة اليوم، نستنتج وبشكل واضح أنه كلما كثر "التدين" السياسي المظهري قل الدين الصافي المخبري، وسادت الفوضى بين الناس، بين المؤمنين والمؤمنين وبين المؤمنين وغير المؤمنين.
كلما حضر الدين المسيس بكثرة قلت الأخلاق وكثر النفاق وعامت المدن في الأوساخ وضاع المستقبل واختفى الحلم، وعاش المجتمع رهين عقدة "المظهر"، وتراجع "المخبر".
كلما أصبح "الدين المسيس" بديلاً عن "الأخلاق" الإنسانية المشتركة، مستعملاً خطاب العنف بديلاً عن الإقناع، والنقل بديلاً عن الاجتهاد، تراجعت المجتمعات وساد العنف وكثرت الجريمة بكل أشكالها، وقل العمل المنتج وكثر العمل الشكلي الخادع، وضعفت الدولة المركزية.
علينا أن ندرك، وهذا من أوراق التاريخ القديم والمعاصر، بأنه كلما ساد "التدين السياسي" سارع "الجميع" في جمع حطب نار الحروب، كل أشكال الحروب الجهنمية، الطائفية والسياسية والإثنية واللغوية.
كلما أصبح "الدين المسيس" ظاهرة عامة ضاغطة إلا وساد الخوف، وأصبح المجتمع، فرداً وجماعة، هشاً معرضاً لكل رياح الزعامات والانكسارات، وساد الخراب وانتفى النقد.
كلما عم "الدين المسيس" غاب الاجتهاد، وفرض الرأي الواحد بالسيف وبالاغتصاب وبالعنف ومصادرة الرأي الآخر.
كلما أصبح المجتمع ضحية "التدين السياسي" سقط الفرد والجماعة في مرض "فوبيا" الآخر، الآخر الديني أو الآخر الإثني أو الآخر الجنسي (المرأة والرجل).
يكمن حطب نار "الدين المسيس" في جزء كبير من التراث الذي كتبه الفقهاء ورجال الدين بطلب من السلطات السياسية عبر التاريخ، كتب على مقاساتهم وتحت الطلب، الذي يجب أن تكون لنا اليوم الشجاعة الفكرية لدفن جزء كبير منه ونهائياً، كي ننقذ الدين من جهة والمؤمن الصادق من جهة أخرى.
وكلما كانت الغلبة لرهط "الدين المسيس" في مجتمع ما، تعمل الأنظمة الديكتاتورية المركزية للاستحواذ عليه، شراء ذمم زعمائه، والتحالف معه، والاستثمار في "رأسمال العنف" الذي يملكه هذا الرهط، كل ذلك لتحصين وجودها، ولا تتوانى في استعماله كيد ثانية لضرب كل حلم في التغيير، ومن خلال رهط الدين المسيس وبلسانه تمنع الأنظمة المركزية الاجتهاد وتحارب حرية الرأي، وتقمع الحريات الفردية والجماعية بحجة الخوف من الفتنة تارة والخوف على الدين أو على الوطن.



- (المقال الأسبوعي، كل خميس، في أندبندنت اللندنية. مقال الخميس 17 نوفمبر 2022.
الرابط: https://www.independentarabia.com/.../%D9%83%D9%8A%D9%81...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى