“الكاتب سفيرُ بلده. والسفراء هم أوّلُ المدافعين عن مصالح بلادهم، وأكثرُ المعنيّين بنقل صورة جميلة عنها.” إذا كنتَ قد مررتَ على صفّ الأستاذ أدهم، طالبًا في قسم اللغة العربيّة وآدابِها، فلا شكّ في أنك سمعتَ هذه العبارة مرارًا، لا أحد يؤْلم الأستاذ أدهم أكثرَ من كاتبٍ يرمي مجتمعَه بكلّ الموبقات كي يَضمن لكتبه الرواجَ، ولنفسِه لقبَ “الكاتب الجريء،” فتنهال عليه الجوائزُ في الخارج.
يكتب الأستاذ أدهم القصّةَ القصيرة ويُدرّسها، منذ أن كأنت ملِكةً على عرش الأدب. وهو لا يَعْدم مواضيعَ جذّابةً لا تسيء إلى سمعة الوطن في الخارج، ولا الأسلوبَ القادرَ على تحويل تراب الكلمات إلى عبارات ذهبيَّة.
يستطيع الأستاذ أدهم أن يكتب، بلا انقطاع، عن الشهداء الذين روت دماؤهم ترابَ الوطن ــ فالأرض لا ترتوي من الدماء، والحكاياتُ قد تتشابه ولكنها لا تتطابق. وليس أسهلَ عليه من أن يلتقط مجذوبًا من هنا أو هناك، فيضيفَ إلى حكايته بعضَ التوابل، أو يختلقَ له حكايةً يرميها في وجه القارئ ــ والمجاذيبُ، على أيّ حال، موجودون في كلّ مجتمع، والحديثُ عنهم لا يوهن الشعورَ الوطنيّ.
وحين نَهَرَه موظّفٌ رسميّ لأن ملفَّه لا يزال ناقصًا، اكتفى بحمد الله على نعمة وجود أحد طلّابه القدامى في المكان بالصدفة، فتكفّل هذا بإنجاز المعاملة بنفسه، بعد أن عرَّف الحاضرين، بمن فيهم الموظَّف المغرور، بهويّة “القامة الأدبيّة العالية” الجالسة بينهم.
وعندما اصطدمتْ بسيّارته حافلةٌ تابعةً لهيئة رسميّة، يقودها سائقٌ متهوّر، صارخًا بوجوب إزاحة سيّارته وفتح الطريق، امتثل الأستاذ أدهم على الفور، بدلًا من انتظار الخبير. ولكنّه لم يفقد الأملَ في الوصول إلى حقّه، فحمل ملفًّا كبيرًا، ضمّنه صورًا فوتوغرافيّةً للسيّارة وإفاداتِ الشهود، وقصد مقرَّ الهيئة. وبعد ثلاث سنوات تفرّغ فيها تقريبًا لمتابعة هذه القضيّة، تعرَّف إلى نصف المسؤولين في البلد، بلا طائل. وكأن مقدّرًا أن يتعرّف إلى النصف المتبقّي، لولا أن عارضًا صحيًّا أقعده عن الحركة موقّتًا، ولم تنفع كلُّ المحاولات في دفعه إلى عرض قضيّته على الإعلام.
ولكنّ كريم الغضبان، وهو أحدُ طلبته، لم ينتظر إذنًا، فخصَّص عمودَه الأسبوعيّ للحديث عن معاناة أستاذه المتواصلة منذ حادثة الحافلة. فكان نصيبُه نفيًا وتكذيبًا من الأستاذ نفسه في العدد التالي. وكان قدرَ هذه العلاقة بينهما أن تبدأ بمشاجرة وتنتهي بأخرى؛ فقد كأن كريم طالبًا في السنة الأولى حين سمع من الأستاذ عبارتَه الشهيرة للمرَّة الأولى. ولمّا كأن هازلًا بطبعه فقد سأله على الفور: “دكتور، بينفع الكاتب يكون قنصل أو لازم سفير؟” ونجحتْ وساطاتُ الزملاء يومذاك في إعادة كريم إلى الصفّ، ولكنها لم تنجحْ في شطب لقب “القنصل” الذي سيلازم الأستاذ حتى مماته.
بعد التقاعد، دخل “القنصل” متأخّرًاً إلى العالم الافتراضيّ من بوَابة فيسبوك، بناءً على نصيحة صديقٍ له. ولكنّ صورَ النفايات المتراكمة في البلد آلمتْه، وهاله أن ينعدم الحسُّ الوطنيُّ إلى حدّ تباهي البعض بتصدير الفضيحة إلى العالم. فحسم أمرَه بأن مكانه ليس بين صبْية الفيس بوك، الذي غادره من دون أسف.
بعد فترة وجيزة، عاد مرغمًا إلى الفيس بوك، ليشارك في حملةٍ نظّمها الناشطون أنفسُهم لجمع التبرّعات لتأمين تكاليف علاج حفيدته، لمى. كأنت الطفلة الجميلة قد أصيبت بالسرطان، تزامنًا مع صدور دراساتٍ تؤكّد أن البلاد حازت المرتبةَ الأولى عالميًّا من حيث الإصابة بهذا المرض، وأن السبب الرئيس هو أزمةُ النفايات. وقد تعذّر تأمينُ الأدوية اللازمة للمصابين، إذ نُقلت الاعتماداتُ المخصَّصة لذلك إلى بندٍ يتعلّق بتزيين شوارع العاصمة بمناسبة الأعياد الدينيّة (موزَّعةً مناصفةً على جناحَي الوطن).
أذهلَ القنصلَ نجاحُ صبْية الفيس بوك في تأمين ثلاثة أرباع المبلغ المطلوب في وقتٍ قياسيّ. ولكنّ لمى خَذلت الجميع، إذ رحلتْ قبل إتمام المبلغ. كأن رحيلُها حدثًا وطنيًّا بعد أن دخلتْ صورتُها إلى كلّ بيتٍ وقلبٍ بفضل الصبْية، الذين فشلوا في إتمام مهمَّتهم ولكنهم نجحوا في تبديل نظرة القنصل إليهم.
كان رحيل لمى زلزالًا حقيقيًّا بالنسبة إلى القنصل. فشرع في كتابة مجموعته القصصيّة الأخيرة، لمى، التي نسفتْ كلَّ أفكاره القديمة عن الكتابة. فقد كأن، هو نفسُه، مندهشًا بما تضمَّنتْه، ومندهشًا بسرعة إنجازها أيضًا ــ فكأن قصصَها كأنت مرتّبةً على رفّ داخل جمجمته بانتظار اللحظة المناسبة للخروج.
حين أزفتْ لحظةُ الإعلان عن الكتاب الفائز بجائزة أفضل مجموعة قصصيّة عربيّة للعام الحاليّ، استغرب الحاضرون وجودَ أربعة كتّاب على المنصّة، في حين تتّسع القائمةُ القصيرةُ لخمسة. ولكنّ بعضَ العارفين أكّدوا أن القنصل هو الكاتبُ الخامس، وأنه لا يؤمن بفكرة الجوائز الأدبيّة من أصلها. وأضافوا أن دارَ النشر هي التي رَشَّحت الكتابَ للجائزة من دون علمه وموافقته. ولكنّ ما جهله “العارفون” هو أن الدار استأذنتْ أبناءَ القنصل في الترشيح؛ ذلك أنه لم يكن في حالةٍ تسمح له باتخاذ القرار وهو مرميّ على السرير بفعل المرض الخبيث الذي عزم على إلحاقه بحفيدته سريعًا، والكتابُ لم يخرج من المطبعة بَعدُ. وصبيحةَ يوم الاحتفال، وضع المرضُ يدَه على ظهره، ومنحه الدفعةَ الأخيرة، في غفلةٍ من القراء والمحبّين.
في ختام الاحتفال، قال رئيسُ اللجنة أن الجائزة ذهبتْ إلى مَن استحقّها بعد أن كان خيرَ سفيرٍ لبلاده، في حياته ومماته.
يكتب الأستاذ أدهم القصّةَ القصيرة ويُدرّسها، منذ أن كأنت ملِكةً على عرش الأدب. وهو لا يَعْدم مواضيعَ جذّابةً لا تسيء إلى سمعة الوطن في الخارج، ولا الأسلوبَ القادرَ على تحويل تراب الكلمات إلى عبارات ذهبيَّة.
يستطيع الأستاذ أدهم أن يكتب، بلا انقطاع، عن الشهداء الذين روت دماؤهم ترابَ الوطن ــ فالأرض لا ترتوي من الدماء، والحكاياتُ قد تتشابه ولكنها لا تتطابق. وليس أسهلَ عليه من أن يلتقط مجذوبًا من هنا أو هناك، فيضيفَ إلى حكايته بعضَ التوابل، أو يختلقَ له حكايةً يرميها في وجه القارئ ــ والمجاذيبُ، على أيّ حال، موجودون في كلّ مجتمع، والحديثُ عنهم لا يوهن الشعورَ الوطنيّ.
وحين نَهَرَه موظّفٌ رسميّ لأن ملفَّه لا يزال ناقصًا، اكتفى بحمد الله على نعمة وجود أحد طلّابه القدامى في المكان بالصدفة، فتكفّل هذا بإنجاز المعاملة بنفسه، بعد أن عرَّف الحاضرين، بمن فيهم الموظَّف المغرور، بهويّة “القامة الأدبيّة العالية” الجالسة بينهم.
وعندما اصطدمتْ بسيّارته حافلةٌ تابعةً لهيئة رسميّة، يقودها سائقٌ متهوّر، صارخًا بوجوب إزاحة سيّارته وفتح الطريق، امتثل الأستاذ أدهم على الفور، بدلًا من انتظار الخبير. ولكنّه لم يفقد الأملَ في الوصول إلى حقّه، فحمل ملفًّا كبيرًا، ضمّنه صورًا فوتوغرافيّةً للسيّارة وإفاداتِ الشهود، وقصد مقرَّ الهيئة. وبعد ثلاث سنوات تفرّغ فيها تقريبًا لمتابعة هذه القضيّة، تعرَّف إلى نصف المسؤولين في البلد، بلا طائل. وكأن مقدّرًا أن يتعرّف إلى النصف المتبقّي، لولا أن عارضًا صحيًّا أقعده عن الحركة موقّتًا، ولم تنفع كلُّ المحاولات في دفعه إلى عرض قضيّته على الإعلام.
ولكنّ كريم الغضبان، وهو أحدُ طلبته، لم ينتظر إذنًا، فخصَّص عمودَه الأسبوعيّ للحديث عن معاناة أستاذه المتواصلة منذ حادثة الحافلة. فكان نصيبُه نفيًا وتكذيبًا من الأستاذ نفسه في العدد التالي. وكان قدرَ هذه العلاقة بينهما أن تبدأ بمشاجرة وتنتهي بأخرى؛ فقد كأن كريم طالبًا في السنة الأولى حين سمع من الأستاذ عبارتَه الشهيرة للمرَّة الأولى. ولمّا كأن هازلًا بطبعه فقد سأله على الفور: “دكتور، بينفع الكاتب يكون قنصل أو لازم سفير؟” ونجحتْ وساطاتُ الزملاء يومذاك في إعادة كريم إلى الصفّ، ولكنها لم تنجحْ في شطب لقب “القنصل” الذي سيلازم الأستاذ حتى مماته.
بعد التقاعد، دخل “القنصل” متأخّرًاً إلى العالم الافتراضيّ من بوَابة فيسبوك، بناءً على نصيحة صديقٍ له. ولكنّ صورَ النفايات المتراكمة في البلد آلمتْه، وهاله أن ينعدم الحسُّ الوطنيُّ إلى حدّ تباهي البعض بتصدير الفضيحة إلى العالم. فحسم أمرَه بأن مكانه ليس بين صبْية الفيس بوك، الذي غادره من دون أسف.
بعد فترة وجيزة، عاد مرغمًا إلى الفيس بوك، ليشارك في حملةٍ نظّمها الناشطون أنفسُهم لجمع التبرّعات لتأمين تكاليف علاج حفيدته، لمى. كأنت الطفلة الجميلة قد أصيبت بالسرطان، تزامنًا مع صدور دراساتٍ تؤكّد أن البلاد حازت المرتبةَ الأولى عالميًّا من حيث الإصابة بهذا المرض، وأن السبب الرئيس هو أزمةُ النفايات. وقد تعذّر تأمينُ الأدوية اللازمة للمصابين، إذ نُقلت الاعتماداتُ المخصَّصة لذلك إلى بندٍ يتعلّق بتزيين شوارع العاصمة بمناسبة الأعياد الدينيّة (موزَّعةً مناصفةً على جناحَي الوطن).
أذهلَ القنصلَ نجاحُ صبْية الفيس بوك في تأمين ثلاثة أرباع المبلغ المطلوب في وقتٍ قياسيّ. ولكنّ لمى خَذلت الجميع، إذ رحلتْ قبل إتمام المبلغ. كأن رحيلُها حدثًا وطنيًّا بعد أن دخلتْ صورتُها إلى كلّ بيتٍ وقلبٍ بفضل الصبْية، الذين فشلوا في إتمام مهمَّتهم ولكنهم نجحوا في تبديل نظرة القنصل إليهم.
كان رحيل لمى زلزالًا حقيقيًّا بالنسبة إلى القنصل. فشرع في كتابة مجموعته القصصيّة الأخيرة، لمى، التي نسفتْ كلَّ أفكاره القديمة عن الكتابة. فقد كأن، هو نفسُه، مندهشًا بما تضمَّنتْه، ومندهشًا بسرعة إنجازها أيضًا ــ فكأن قصصَها كأنت مرتّبةً على رفّ داخل جمجمته بانتظار اللحظة المناسبة للخروج.
حين أزفتْ لحظةُ الإعلان عن الكتاب الفائز بجائزة أفضل مجموعة قصصيّة عربيّة للعام الحاليّ، استغرب الحاضرون وجودَ أربعة كتّاب على المنصّة، في حين تتّسع القائمةُ القصيرةُ لخمسة. ولكنّ بعضَ العارفين أكّدوا أن القنصل هو الكاتبُ الخامس، وأنه لا يؤمن بفكرة الجوائز الأدبيّة من أصلها. وأضافوا أن دارَ النشر هي التي رَشَّحت الكتابَ للجائزة من دون علمه وموافقته. ولكنّ ما جهله “العارفون” هو أن الدار استأذنتْ أبناءَ القنصل في الترشيح؛ ذلك أنه لم يكن في حالةٍ تسمح له باتخاذ القرار وهو مرميّ على السرير بفعل المرض الخبيث الذي عزم على إلحاقه بحفيدته سريعًا، والكتابُ لم يخرج من المطبعة بَعدُ. وصبيحةَ يوم الاحتفال، وضع المرضُ يدَه على ظهره، ومنحه الدفعةَ الأخيرة، في غفلةٍ من القراء والمحبّين.
في ختام الاحتفال، قال رئيسُ اللجنة أن الجائزة ذهبتْ إلى مَن استحقّها بعد أن كان خيرَ سفيرٍ لبلاده، في حياته ومماته.
أروقة الإبداع/ القصة: القنصل/ الكاتب: مهدي زلزلي
عبدالرحمن محمد -الواقع المعاش بكل تفاصيله المفرحة والمؤلمة كأن في كثير من الأوقات الحافز والدافع للعديد من الكتاب والشعراء، والكاتب اللبناني مهدي زلزلي من الكتاب المعاصرين الذين خاضوا هذه التجربة، واستطاع نقل الواقع بجلِّ تفاصيله، فتميزت أعماله بالوا
ronahi.net