فاطمة وهيدي - قلوب ضالة

صوت دوي الأعيرة النارية قض مضجعه. قام بسرعة وتحسس الطاولة الصغيرة الموضوعة بجوار سريره، باحثًا عن نظارته وهو يستعيذ بالله، سرت رجفة في أوصاله وتسارعت أنفاسه، فكر في استطلاع الأمر من خلال شباك غرفته المطل على الشارع الترابي الوحيد المار بوسط القرية النائية.
كان سعيدًا بموقع منزله المكون من غرفتين وصالة صغيرة، لقربه من مقر فرع المصنع، الذي انتقل إليه برغبته منذ شهرين.
هذه القرية البائسة لا يوجد بها شيء مهم سوى فرع مصنع السيراميك، الذي يعمل به منذ سنوات طويلة، كان السبب المعلن لانتقاله المفاجئ لهذا الفرع هو القرارات المجحفة من إدارة المصنع، لكن الأسباب الحقيقية كانت كثيرة!
توقف صوت الأعيرة، فظن أنَّ ما سمعه كان كابوسًا، لكنه ما لبث أن طمأن نفسه، حتى سمع الصوت مرة أخرى، لكنه هذه المرة كان أقرب، فتأكدت شكوكه، وتذكَّر ما سمعه منذ أيام!
كانت الأنباء تسري كالنار في الهشيم، عن مداهمة عصابة لبعض القرى المجاورة، وجل قلبه عندما شعر أنَّ ما ظنه إشاعات تنم عن فراغ سكان القرية وتؤكد ظنه فيهم، ما هي إلا حقائق لا تبتعد عنه سوى خطوات معدودة.
تراجع عن فكرة فتح الشباك، حينما اقترب صوت الأعيرة النارية أكثر، وفكر في اللجوء إلى مخبأ، يتوارى فيه عن أعين اللصوص حينما يصلون إلى منزله.
قام وحرص على المشي على أطراف أصابعه، كي لا يُحدث جلبة تجعلهم يفطنون إلى وجود أحد في هذا البيت، باحثًا عن مأوى قد يطول المكوث فيه ربما لساعات طويلة، لم يبحث طويلًا؛ فسرعان ما وجد ضالته. دولاب الخزين القابع في المطبخ، شكله الخارجي يوحي بعد وجود شيء به، وهي حقيقة، فمنذ مجيئه لم يضع أي شيء فيه، فلا حاجة له لتخزين الأطعمة، ما يحتاجه فقط هو ما يشتريه، فالسفهاء هم من يضيعون أموالهم ويضعونها في شكل أطعمة مكدسة، فكنزه من القناعة لا حدود له.
فتح باب الدولاب بحرص حتى لا يُصدر صريرًا، جلس القرفصاء بداخله وسحب الباب بأطراف أصابعه وأغلقه على نفسه. كانت رائحة العطن خانقة؛ تلك الرائحة النابعة من الحائط الذي يُغلفه الدولاب، والذي يفصله عن جاره اللدود "مأمون"، كم يتمنى الآن أن تداهم هذه العصابة دار مأمون، ليشفي غليله منه، بعد أن رفض أن يزوجه ابنته "حسناء" بحجة أنها ما زالت صغيرة.
هو يدرك أنَّ مأمون حين أشاع في البلد أنه لا يريد أن يزوج ابنته البكر لرجل تعدى الخمسين عامًا، ولديه أبناء في عمرها، على الرغم من أنه أخبره باستعداده لشراء غرفة نوم جديدة لها، كان طماعًا، لأنه كان قد سبق ولمح له أنه يمكن أن يقبل زواجه من ابنته إذا فرش كل البيت بأثاث جديد، بالإضافة إلى الشبكة والمهر، وهو الذي كان يدفعها للحضور إليه حاملة صينية عامرة بصنوف الطعام حينما جاء إلى البلد واستلم عمله الجديد، لم تكن جميلة ولا متعلمة، لكنها كانت تجيد الدلال وحتما كانت تجيد أعمال المنزل والطهي، مما كان سيوفر عليه الحاجة إلى شراء وجبة جاهزة كل يوم بعد انتهاء العمل، وكانت ستريحه من عناء غسل ملابسه في نهاية الأسبوع.
لم يشغله كل ذلك حين قُبل طلبه بالرفض، لكن ما أزعجه أنَّ جهلاء القرية اعتقدوا أنه مراهق وبخيل.
ساد السكون، بعد أن مرت قرابة الساعة، وسمع صوت مؤذن القرية. ينقر على الميكرفون؛ إيذانًا باقتراب صلاة الفجر، فبدأ يتنفس الصعداء، وشعر أنه لا يطيق البقاء في هذا المكان المظلم الكئيب كقبر، فتح الباب بحذر وقام يتحسس طريقه في اتجاه غرفته، متوجسًا خيفة من عودة العصابة مرة أخرى.
ما إن هم بالجلوس على سريره، حتى عاد صوت الأعيرة النارية وارتفع نباح الكلاب، قفز من سريره بعد أن التقط هاتفه الجوال، وجرى صوب مخبأه مرة أخرى. مرتجفًا جلس القرفصاء، واضعًا يده على فمه والأخرى على صدره، محاولًا الاحتفاظ بهدوئه والسيطرة على صوت أنفاسه المتلاحقة ونبضات قلبه المتسارعة، لكن دقات عنيفة على باب بيته جعلته يفقد صبره وثوابه. انتابه شعور بالحاجة إلى التبول، لكن خروجه من دولاب الخزين الذي يجلس بداخله كان يمثل إقدامًا على الانتحار.
بالطبع لن يخرج، حتى وإن اضطر للتبول على نفسه، لن يشعر أحد بما حدث، وخاصة أنه يعيش وحيدًا، بعدما تركته زوجته وأبناؤه.
لا، لم يتركوه..
هو الذي فعلها، بعدما ضج من تصرفاتهم جميعًا.
زوجته كانت مربط الفرس، وهي التي أشعلت الأحداث في المنزل، لحوحة. كثرة طلباتها اللا متناهية جعلته يضج. كل يوم وهو عائد من عمله تمطره بسيل من الطلبات، وإذا حدث ولبى طلباتها، تعايره بأنه ينتقي أنواعًا رديئة من الخضراوات والفاكهة ليدفع ثمنا أقل، أو أنه تناسى بعض الطلبات، ليس ذلك فقط، لكنها لا تمل ولا تكل من تكرار إلحاحها بضرورة الانتقال من المنزل الذي يقيمون فيه مثل أخواتها الذين انتقلوا جميعًا إلى بيوت أوسع وفي مناطق أرقى كما تقول، وكأن الإنسان يجب أن يتنصل من ماضيه، وإذا حسم الأمر بعدم رغبته في الانتقال، تتحدث حول ضرورة تغيير بعض الأجهزة المنزلية التي أصابها عطب أو الأثاث الذي تكسرت بعض أجزائه نتيجة سوء استخدامهم.
أما إذا انتهت هذه المناقشات، تحول حديثها عن رغبتها في الذهاب لقضاء أسبوع في إحدى المدن الساحلية؛ هربًا من حر الصيف، أو الاشتراك في جمعية من أجل السفر لأداء مناسك الحج مثل جارتهم.
حتى هاتفه الذي أحضرته له هديةً بمناسبة عيد ميلاده الخمسين، أخبرته أنها اقتطعت ثمنه من مصروفها هي والأولاد، فقبل الهدية على مضض، بعد أن حذرهم من معاودة مثل هذه التصرفات التي تَنم عن استهتارهم وعدم معرفتهم بقيمة النقود الذين ينفقونها ببذخ.
أما ابنه، ذلك المتكاسل الذي يهوى الجلوس في المنزل أمام التلفاز، متابعًا مباريات كرة القدم التي لا عائد ولا طائل منها، فقد استساغ البقاء بلا عمل بعد تخرُّجه، وكان كلما عَنفه وأمره بالنزول والبحث عن عمل ليخفف عنه عبء مصاريفه، واجه موجات الغضب العارمة بالانزواء في غرفته، وآثر عدم الخروج منها في وجوده.
لم يتبقَ إلا ابنته، التي كان يعتقد أنها تميل إلى جانبه ولا تعجبها تصرفات أمها وأخيها، لكنها بعد أن أنهت دراستها المتوسطة، بقيت في المنزل هي الأخرى، إلى أن طلبها جارهم الموظف في هيئة النقل العام للزواج،
فاعترضت في البداية لعدم معرفتها به، لكنها ما لبثت أن وافقت، بعدما أوضح لها أنه يراه شخصًا مناسبًا قادرًا على التكفُّل بمتطلبات الزواج ومتطلباتها هي، لأنه ابن وحيد، وأبوه يريد أن يرى حفدته سريعًا.
لم تمر أيَّام على الخطبة، حتى بدأت طلبات الأم تزداد معبرة عن رغبتها في دعوة العريس وأهله لتناول الغذاء أو العشاء معهم، وبدأت الابنة في تقليد أمها وازدادت طلباتها، وبدأت تعبر عن رغبتها في شراء بعض المستلزمات لمنزلها الجديد، الأمر الذي جعله يشعر بالندم والتسرع في موافقته على خطبة الابنة، وجعلها تعبر عن استيائها من رفضه بانتهاج نهج أخيها.
كلُّ ما سبق كان كفيلًا بتحويل المنزل إلى جحيم، وجعله يُقدم على طلب النقل لفرع المصنع الموجود في قرية نائية، للابتعاد عنهم وعن مشاكلهم التي باتت تؤرقه كل لحظة.
كانت خلافاته مع مديره كفيلة بموافقة المدير على طلب النقل والعمل على سرعة تنفيذه، وهو لا يدرك حجم سعادته بهذا النقل الذي سيجعله يوفر جزءًا كبيرًا من راتبه المهدر في طلبات لا تنتهي.
لم يزد راتبه نتيجة انتقاله سوى مائتي جنيه، لكنه قرر أن يرسل مبلغا محددا كلَّ أول شهر لزوجته، ليجبرها على التكييف مع الوضع الراهن، وخاصة أنه أصبح مسئولًا عن بيتين.
ازداد هياج الكلاب وارتفع صوت نباحهم واقترب دوي الأعيرة النارية من منزله، دقائق مرت كالدهر، وسمع صوت اقتراب أقدام من منزله.
في لحظة وجد نفسه يلعن زوجته وأبناءه ومديره والظروف التي جعلته يفكر في الانتقال لهذه القرية البائسة، وتخيل مشهد اقتحام العصابة للمنزل، وعثورهم عليه مختبئًا في الدولاب، وعبثهم في كل شيء بحثًا عن أموال أو شيء ثمين للاستيلاء عليه، واستياءهم من عدم العثور على غايتهم، لعدم احتفاظه بمبالغ كبيرة في المنزل، وقيامهم بقتله غيظًا منه.
شعر بقلبه يكاد يتوقف من الرعب وبروحه تحلق بعيدًا حيث زوجته وأبناؤه، وتخيل مشهد عزائه.
هل حقًّا سيحزنون عليه ويلومون أنفسهم أنهم سبب كلِّ ما حدث؟!
ها هي ذي زوجته ترتدي ملابس سوداء حدادًا عليه. تجلس بجوار أختها، تهمس في أذنها، ترى هل تتفق معها على تغيير أثاث المنزل بالأموال التي سترثها، أم تخطط للسفر إلى إحدى المدن الساحلية بعد انتهاء أيَّام العزاء.
تجول ببصره سريعًا، فوجد ابنته تجلس هي الأخرى بجوار والدة خطيبها، وتتحدث معها. حتمًا تحدد موعد شراء مستلزمات بيت الزوجية، وربما تدعوها لتناول العشاء معهم هي وخطيبها بعد فض مجلس العزاء.
لم يتبق سوى الابن، ولن يكون حاله خيرًا منهما، لا بد أنه ما زال قابعًا في غرفته، يخطط لكيفية إنفاق ماله وخاصة أنه سيفوز بنصيب الأسد من الميراث.
لم يتحمل هذه الأفكار السوداء، فأغمض عينيه وهز رأسه وكأنه ينفضها لتبتعد عنه، فاهتز الهاتف في يديه وارتفع صوت نغمة تشي بوجود رسالة جديدة، حاول كتم صوت الهاتف بكلتا يديه، وهو ينصت في محاولة لمعرفة ما آلت إليه الأمور في الخارج، شعر أنَّ الخطر بات قريبًا جدًّا، حتى إنه لو قام بالاتصال بالبوليس لنجدته، سيكون قد عجل بالنهاية، لأنهم سيسمعون صوته ويحددون مكانه.
فتح الرسالة الواردة، فوجدها من أحد المستشفيات الخاصة بأمراض القلب، تعلن عن حاجتها لتبرعات، وأنهم سيقومون بعمل لوحة باسم كل متبرع على لوحة شرف بمدخل المستشفى.
حملق في الرسالة وشعر أنها جاءت في الوقت المناسب، سيُخلد اسمه ويتذكره المئات بل الآلاف.
من دون تفكير، استخدم الهاتف في الولوج إلى صفحة حسابه في البنك، وقام بعمل تحويل بكامل رصيده لصالح مستشفى القلب.
في اللحظة التي كان يفكر فيها مترددًا في إتمام عملية التحويل، فاجأه صوت دقات عنيفة على باب المنزل، فضغط زر التحويل ولفظ الشهادتين، قبل مداهمة اللصوص للمنزل.
ارتفع صوت جاره مأمون مناديًا باسمه وهو يدق الباب بعنف، قائلًا:
- الصلاة يا أستاذ.
قام مسرعًا فارتطم رأسه بالرف العلوي للدولاب، فخرج زاحفا على يديه، من دون تفكير فتح الباب وهو يرتجف متسائلًا:
- مأمون! ما الذي حدث، هل هناك قتلى؟
أجاب مأمون ساخرًا وهو ينظر إلى سرواله المبلول:
- الكثير..
- وهل أبلغتم النجدة؟
سأله مأمون متعجبًا:
- لماذا؟!
- ألم تقل إنَّ هناك الكثير من القتلى؟
قهقه مأمون قائلًا:
- القتلي، كلاب ضالة.. كانت هناك حملة للقضاء عليهم.


فاطمة وهيدي / مصر

[HEADING=2][/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى