د. سيد شعبان - صاحب الزمان

في كفرنا حكايات تروى، تسري مع النيل كما الموج، نتبلع بها في أيام الجوع، نرتديها أسمالا تستر أجسادنا، نلزم الصمت حيث يشوي ظهورنا السوط، نحدث أنفسنا سرا؛ لذا جمدت شفاهنا وصارت عضوا عاطلا عن العمل ككل أجسادنا؛ نسترخي في القيلولة على ظهورنا فيمرح الذباب، نفتح أفواهنا لما يجودون علينا به، نشكر ونحمد؛ وإلا يكون النفي والحرمان سبيلنا؛ وهل بعد غضب أهل الولاية مأمن؟
يتوارثوننا كابرا عن كابر، نقبل أياديهم وخصورنا عارية، نتمسح بأعتابهم وأجسادنا ضامرة. تلك يد فضلهم التي لا ترد، نتعلق بأذيالهم ونتمرغ أمام عتبة البيت العالي، من يقترب منهم يشرب الماء الطاهر من يد سيدنا وبعدها تكون الرتبة والقرب.
لا يبدو أن مولانا صاحب العمامة الخضراء مشغول عن دراويشه، يمنعه أمر من أن ينام الليل، احمرت عيناه، سمن جسده، يأتيه المدد فيصفون دواءه؛ يلتهم ديكا أحمر؛ يعتصر سبعة أزواج من حمام بري؛ كم
يتعب نفسه ﻷجلنا!
تركنا عند مدخل الخيمة يقتلنا الجوع، ويلفحنا حر بؤنة، لديه عمل بالداخل؛ سمعنا أصوات طرب، يخرج الجن من جسد رمانة، إنه يعتاد على ذلك كلما طاف به الحال، علينا السمع والطاعة، يقوم من مقامه في لمح البصر ومن ثم يداوي أهل البلايا.
حاولت مرة أن أنظر إليه، جاء بهلول وأعمى عيني برماد الكانون، يقال تلك كرامة سيدنا صاحب الزمان، يطلعونه على نزواتي؛ لكنه يبقى علي، يراني ذا نفع، كثرت غيباته ونحن نلتمس له الأعذار، ما عاد يشهد الحضرة، فقدت حلقة الذكر أثره، أجبنا على السائلين بأنه دخل السرداب ولن يعود إلا محملا بالوصايا والأوراد؛ يربض حماره منذ سنوات في هذا المكان، صرنا نقدسه؛ أليس حامل العهد وخادم المبجل النسيب؟
فسد الزمان ولا بد لحكيمه أن يعيد الميزان المختل. لا حاجة بنا لقمح الشتاء ففي البراري تكفي الأعشاب، ولا طاقة لنا بلحوم الخراف ففي الأفاعي زاد لمن يسيرون في طريق الأنس بصاحب الكلام.
يتمادى مولانا مع رمانة طربا وصهيلا؛ يتحرق ضرام رغائبي، ليلة وراء أخرى.
بهلول أمسك بي عند ركن الخيمة الأيسر؛ صاح مجنون من كشف الستر ولمولانا أن يعاقبه، صاحب الحضرة في متاهة النشوة، وهل يشغله لص أو يرده متطلع؟
سرقت عصاه، ارتديت عمامته، على حين غفلة صعدت أريكته؛ أرغيت وأزبدت، تفلت يمنة ويسرة؛ صرت المجذوب الذي جاءهم بالسر؛ أعطوني خاتم الولاية شربت من حوض العشق، ترنمت بأحاجي الأقطاب، علقت مسبحة من عظم خروف العيد.
الجوعى ألوف تطوف بالخيمة تطلب المدد، تطلب الرغيف، ترجو الشفاء، تحاول أن تنال البركة؛ سيدنا في عالمه يستخفه الطرب، من قائل أصابه الهوى بلوثة، آخر يعلل بمقام القرب من الحضرة؛ هذا هراء، أنا به أدرى، عاش زمانا يجري في درب رمانة؛ صبية لها عينا غزال، براه الصد وأكله البرد والقر، وللجسد رغبة، ألقى عمامته وتطوح عاريا، حيث بحر الجنون.
كلما ذاق انجرف، والدروايش هنا يبتهلون أن يعود حاملا إليهم الزاد: خرقة تكسو أجسادهم العارية، كسرة خبز مغموسة في مرق شاة عرجاء تملأ بطونهم الهزيلة.
مجنون إن تركها بعد أن وجدها، وما يفعل بهؤلاء؟
لهم أن يسبحوا بمحامده التى لا تحصى؛ جمعهم على طريق الحب، ساق إليهم المدد؛ كلمات وأوراد.
يعبث البق في أجسادهم، عليهم أن يرضوا بالقضاء، جحود أن يسألوا الشفاء، إنها ذنوبهم التي لم تغفر بعد.
هو بالداخل حيث الدواء من رمانة، والعالة ليمكثوا أربعين حتى يعود صاحب الزمان من خلوته؛ يحمل أكياسا من كلام معسول، يصدقه الوالهون ويتمنون منه القرب.
وصاياه محفوظة في صندوق خشبي تحمله بغلة تقف تنتظر عودته، يسير بنا إلى الطريق، ننتظر هنا أم نتفرق في الأرض؟
لم نأخذ يوما قرارا، هراء أن نرنو بأبصارنا إلى الضفة الأخرى، تربض هناك جنيات تلهمتا؛ هكذا حذرنا مولانا، الزمام بيديه وإلا تخطفتنا الغربان السوداء، كم يخاف علينا!
هممت أن أكشف السر، تذكرت نصيحة أمي؛ مجنون من عاند سيده!
أخذتهم في سبحة وراء الخيمة، طفنا بمقامه ثلاثة أشواط، ندعو ونبتهل، أعلم أنهم كذبة؛ يقودهم ولع النشوة، صوت صاحب الزمان يأتي إلى أسماعنا طريا، غني وللحنه شجى!
أعدهم أنه يستخلفني عليهم، يطلب مني ثريدا، أحلب لهم شياه القابعين في الأرض السوداء، سيجدون الكنز المخفي، يتبعونني في خنوع.
ألتفت ورائي وأحثو التراب في مدخل الخيمة، أرجمه سبع جمرات!
تبعتنى رمانة، إنها حلوة، لي مقام يحتاجها، هل باعته وأرادت عمودا لخيمتها، صوت أمي يرن صداه في أذني" حية تسعى"!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى