كاهنة عباس - عن ترجمة الشفق الاحمر

يتشكل العالم من موجودات ومشاهد ، ما انفكت حواسي تترجم صورها شكلا ومضمونا، لتحولها إلى لغة تفقهها، كأن تتحدث عن الشفق الأحمر دون استعمال الألوان، فالشفق زمنيا ظاهرة قديمة ما انفكت تكرر ، لذلك يوّلد مشهدها في نفوسنا الحنين إلى ما فات ، دون أن ننتبه الى حدوثها حينا.
وللزمن أسرار مثل استعادة ما ولّى في هيئة أخرى ، الحدوث المختلف والمتشابه ، أن يبعث فينا الحاجة الى توليد المعنى واستنباط حكاية أخرى تروي ما تجدد .
خارج سياق اللغة، علينا أن ندرك أن للألوان معاني متعددة ، كأن يرتبط الأصفر بالموت والأحمر بالحياة وأن ينشأ مزجهما لغة الشفق التي تعني لحظة البدايات والنهايات .
لذلك تاهت حواسي بين الأزمنة والأمكنة سعيا لترجمة ما شاهدت وما عاينت ، فلون الشفق حادث لا محالة في غياب أي تاريخ يحكيه، وأنا في انبهار اللحظة الأولى دون القدرة على وصف ما شاهدته،باعتباره علامة استئناس وغربة، جمال يأخذك إليه في صمت، كأنك لم تعتده قط وأنت الشاهد عليه في كل مرة، تعيد على نفسك هذه الأسئلة : ما الذي يود أن يرويه، ما هي الرسالة التي يبعثها إلينا، في كل مرة ، هل هي : الضوء المنهار ، اللون المنطفئ بتؤدة، إشارة تعيد رسم خريطة السماء ، انسحاب النهار ، انتشار السكون هنا وهناك ، حركة الشمس الخفية ، دورانها ، الزمنية، اللحظة العابرة ، السفر في الزمان ، عبور الوقت من حالة إلى حالة ، الدعوة إلى غياب الأشكال والألوان إثر انسدال ستار الظلمة ، الانحدار ،أي بلغة الترجمة: السكون/الحركة، الغياب/الحضور، الزوال/الانبعاث، البداية/النهاية ؟ كأني بالشفق الأحمر شمعة كبيرة تبعث في المكان ضوءها الخافت، قبل أن تنطفئ ،كي تنشر من حولها أجواء من الأنس والطمأنينة .
إنها معان سابقة لوجودي ،متصلة بالكون، خاضعة لسنن أجهلها ،ما عدا أن الهواء الذي أستنشقه هو نابع من الفضاء الذي يحتضن الشفق ، وأن يقظتي ومنامي لهما علاقة بالضوء،وأن سكينة الليل ستأخذني بعد حين إلى سبات عميق فأغيب عن جسدي للسفر إلى عالم الغيب، فذاتي التي لم افلح في تعريفها ،هي التي تسعى الى امتلاك المدى وإدماجه في حكايتها الصاخبة المتقلبة وزاوية الضوء التي ما تزال تضيء العالم، صوّرته ركحا لمسرح يتهاوى ، تتقارب أشكاله وألوانه ، قبل أن تنساق خلف دورة التحول والانهيار والزوال .
مشهد سريالي ،يذكرنا بأن لا فرق حقيقي بين الحسي و الروحي، بين الواقعي و الخيالي ، أن أعمالنا تتبخر مثل الضوء الذي يدفعها الى البروز وأن لا بقاء لها ولا لأقوالنا ، فهل يكون الشفق علامة على عبثية وجودنا ،كما عرفها الفيلسوف الفرنسي ألبار كامو : بأنها الهوة التي تفصل الإنسان عن العالم ، لعدم انسجامهما ، لان سعيه على الأرض سيبقى دون معنى ولا جدوى ؟ وهل تكون نفس الإنسان وذاته منفصلين الانفصال التام عن العالم ، أم أنهما جزء لا يتجزأ منه ؟
ترشدني ترجمتي المتواضعة للشفق الأحمر ، بان اقتراب الليل ، يبعث في النفس الحاجة إلى السكينة والنوم ، لاتصالها بدورة النهار والليل ،ومعنى ذلك أن جزءا منها متصل بالعالم وجزؤها الأخر منفصل عنه ،إنه الجزء السارد المتحدث ، المتكلم ، المفكر ، الفاعل .
أما عن دوران النفس العاشقة ورقصها حول محور وجودها ثم نزوعها الى الاتحاد بالمطلق ، فقد جعلها تكتشف أبعادا وحقائق أخرى خارج منطق التناقض والثنائية ، لإتباع ما فاض به القلب من وجد و معرفة ، فتتجاوز نسبيا كل لغة وفكر وسؤال وبحث وعلة ومعنى وجدوى ، تلك الهوة الفاصلة بين تطلعات الإنسان وتصوراته وسنن العالم وأنظمته أي الجانب العبثي للوجود .
لقد بليت بحب الشفق الأحمر ، فبت أبحث عن مفردات تعيد صياغته على صفحتي هذه بينما كنت أكتبها ،فإذا بنوره الخافت بدأ يبوح بأسراره قبل أن ينطفئ هاهنا.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى