المغامرة لها رائحة نفاذة جذبت أنفها المزكوم بالأمنيات الخائبة. هي في حاجة ماسة لإيقاف أية سيارة تمر براكب مجهول حتى يصطحبها لمكان جديد. إنها ليست رخيصة ولن تختار وسيما أو سيارة فارهة، فقط يمكنها الاكتفاء بامرأة عجوز أو سيارة أجرة منبعجة الحواف من كثرة الحوادث. هي تحب الوجوه الباهتة، تضفي عليها بعضا من روحها فتعكس نورا خالصا على وجه العالم.
في جزء شفاف منها تجد أنها تشبه فتاة ريفية جاءت من خلف سنابل صفراء وجاموسة تعتلي ظهرها، تحتك بها لتنبت داخلها المتعة والحكايات. اليوم ستوقف سيارة نقل كبيرة وتذهب معها أينما تشاء، ومن يدري ربما يكون سائقها الحزين المتآكلة أسنانه بتكالب الزمن والسجائر والقهوة الثقيلة السوداء هو المنشود، الذي ستغترف من الليل والطريق واحتكاك فخذه الناحل بفخذها المكتنز بالفضول والدهشة بريق عينيها الزئبقية. فعيناها تتسع ولا تعكس شيئا وربما تعكس كل شيء.
كقطار زائر يسير على قضبان غير مرئية، هي تعرف وجهتها، ولا تخشى الغربة أو الغرباء. تحتفي بكونها قادرة على النوم في عراء ليل كالح أو تحت شمس سماء محرقة. تضع القوانين لكي تكسرها.
أحتاج إلى سر أخفيه حتى عن نفسي. إلى تجربة حب مختلفة مع قط شقي. نذهب ليلا إلى ضفة النهر. نمتزج مع ذكريات العابرين ودموع بائعات الهوى التائبات وضحكات السكارى والعرق النازف من قُطّاع طرق يصرون على اللهو بالوحدة والليل. أحتاج أن أكون أخرى بعيدة عن الأحلام المتمردة الصغيرة. فالتجربة تحتاج إلى مجرب وأنا هنا بعيدة عن تلك الزوجة والأم. أنا هنا في بلد بعيد مع ذات جديدة تمتلئ بالحب والتجريد.
هذا السائق شيخ رث الثياب ولا يشبه قطي الشقي ولا حكايتي المنتظرة. جواره ربما أغفو قليلا فيستمتع هو بخيالات خائبة وأستمتع أنا بعذاباته وذكرياته ودمعته التي انحدرت غصبا. الشوارع في الليل تنبئ بالبدايات الجديدة أو النهايات السريعة وأنا أنتظر كلتيهما ومن يأتِ أولا يأخذني إلى حيث يريد.
تدون في دفترها حتى لا تنسى هدفها الأساسي من رحلتها؛ تبحث عن أسرار جديدة تخبئها في روحها حتى تملك صمتا لطيفا في حضرة زوجها وابنتها، فيشعران بأن الحال على ما يرام. هي بسكونها تصنع جوا ساحرا تحب تمضية العمر برفقته، صبر دأب على الكمون في الصمت.
الصمت بصيرة ترىبها بقايا أحمر الشفاه على ياقة قميص زوجها، وتشم بها رائحة الأحضان والقبل الملتهبة على خديه فتبتسم لطيبته وقدرته على العودة آمنا للبيت، وقلبه مطمئن لساذجتها. قردة لا ترى، لا تسمع، وبالتأكيد لا تتكلم. لا بأس، هو لم يعلمها ركوب سيارة جديدة كل مساء، ما تفعلهتعرف أنها تحبه بالسليقة.. وخيانته لها لم تقدها إلى شيء، فقط أهدت روحها السلام وأعتقتها من ثقل الذنب. مواثيق غفران جعلت من الخيانة بهجة تؤدي إلى توبة وحزن تحتاج إليه في الصباحات المثقلة بلزوجة الحياء.
أحس وكأنني ريشة تملك قلب حجر يثقلها، ويمنعها من الإحساس بخفة وزنها. كل ما يحيط بي يرى تلك الخفة الظاهرة فيغبطني عليها، وأنا الوحيدة المعلقة في منتصف مصيدة الفراغ، لا أملك القدرة على الارتقاء لأعلى لثقل قلبي، ولا أملك نعمة السقوط والرضاء بواقعية الارتطام بالأسفل لشدة الريح. الأفكار تلاحقني ثم تقودني لحالة قديمة؛ أتقنت منذ زمن دور الباحثة عن طمأنينة الوصول لنهاية سعيدة تشبه نهايات الحكايات الخيالية التي كانت تحكيها جدتيوأنا مستلقاة جانبها فوق السرير النحاسي.
في طفولتي كنت أملك في بيتها غرفة ضيقة ذات سقف مفرّغ ومفتوح على السماء. في البداية كانت حوائط الغرفة خانقة،وتطاردني فألجأ إلى الاستلقاء والنظر لأعلى. إلا أن مساحة إدراكيخرجت عن سيطرة الضيقفبدأ بالاتساع عن طريق كوات صغيرة لا نهائية تنبثق من كل الحوائط الجانبية حتى الأرضية تنشق من تحتي لينفتح العالم برحابة. ينظر إليّ الواقف بالأسفل فيرى نجمًا يسكن سماء وردية، وينظر إليّ الواقفبالأعلى فيرى لؤلؤة مختبأة في بحر لُجّيّ،والاتجاهاتالمحيطة بي لا يدرك بعضها البعض، وفي المنتصف المعلق هنايسمح لي إدراكي باستغلال ضيق زاوية رؤيتهم. استمددت قوتي من ضعفهم.
أنا لا أبالغ فكل ما أدونه حقيقة مجردة. إحساسي يصل إلى درجة الشعور. يتجسد إلى وحش مستغل جائع. ينهشنيمن الداخل بضراوة.
هل أصف لكَ الفراغات التي أراها بمجرد غلق عينيّ؟
هل أصف قدرتي على...؟
لا أجرؤ على الاعتراف، ولا أعرف مما أخشى. أجدني فجأة قاسية، أنانية إلى أقصى حد. أحاول التخلص من كل ما يكبلني حتى من ذاتي. طعنت نفسي ملايين المرات ولم أختفِ للحظة واحدة. وقوع البلاء أفضل من ترقبه. أهرب من سيارة إلى أخرى لأتحول من شخص إلى آخر أكتشفه.. لأيام، لأسابيع، لسنين.. لأي وقت تحتاجه التجربة.
مازلت أحتفظ ببعض الإنسانية والذكريات والحكايات. هل ما أفعله جزء مني، ولا يمكنني الفكاك منه؟ هل يسري في دمي فيجبرني على الصمت لساعات؟
أراقب نفسي الآن في شبق وخوف.
"هدى الليل بصوته على جسر الصدى/
وبدأت ساعاته تسافر في المدى.."
صوت "فايزة أحمد" يأتي من مذياع سيارة النقل، التي تتهادى في الليل. دون مقدمات تنقضّ روحها فوق روحه وتبدأ في ملحمة رقصها. السيارة تتأرجح بشدة ثم تصعد لأعلى تتعلق في الهواء بخيط غير مرئي، تسير مع قطارها على نفس القضبان.السائق من صدمته يفتح فاه، وهي تسحب ذكرياته. العرق يسيل على جبهتها من سخونة الذكريات وكثرتها، وهو يغوص في حالة عدمية، وكأنه وليد يحيا في عالم سرمدي، من دوائر بيضاء.
المارة في الصباح الباكر يعثرون على شيخ تائه لا يحمل ذاكرة ولا لغة ولا أي شيء. يحمل عينين زجاجيتين، وفي قلبه نقطة سوداء مظلمة وكأنها ثقب قديم يربطه بالعدم.
في جزء شفاف منها تجد أنها تشبه فتاة ريفية جاءت من خلف سنابل صفراء وجاموسة تعتلي ظهرها، تحتك بها لتنبت داخلها المتعة والحكايات. اليوم ستوقف سيارة نقل كبيرة وتذهب معها أينما تشاء، ومن يدري ربما يكون سائقها الحزين المتآكلة أسنانه بتكالب الزمن والسجائر والقهوة الثقيلة السوداء هو المنشود، الذي ستغترف من الليل والطريق واحتكاك فخذه الناحل بفخذها المكتنز بالفضول والدهشة بريق عينيها الزئبقية. فعيناها تتسع ولا تعكس شيئا وربما تعكس كل شيء.
كقطار زائر يسير على قضبان غير مرئية، هي تعرف وجهتها، ولا تخشى الغربة أو الغرباء. تحتفي بكونها قادرة على النوم في عراء ليل كالح أو تحت شمس سماء محرقة. تضع القوانين لكي تكسرها.
أحتاج إلى سر أخفيه حتى عن نفسي. إلى تجربة حب مختلفة مع قط شقي. نذهب ليلا إلى ضفة النهر. نمتزج مع ذكريات العابرين ودموع بائعات الهوى التائبات وضحكات السكارى والعرق النازف من قُطّاع طرق يصرون على اللهو بالوحدة والليل. أحتاج أن أكون أخرى بعيدة عن الأحلام المتمردة الصغيرة. فالتجربة تحتاج إلى مجرب وأنا هنا بعيدة عن تلك الزوجة والأم. أنا هنا في بلد بعيد مع ذات جديدة تمتلئ بالحب والتجريد.
هذا السائق شيخ رث الثياب ولا يشبه قطي الشقي ولا حكايتي المنتظرة. جواره ربما أغفو قليلا فيستمتع هو بخيالات خائبة وأستمتع أنا بعذاباته وذكرياته ودمعته التي انحدرت غصبا. الشوارع في الليل تنبئ بالبدايات الجديدة أو النهايات السريعة وأنا أنتظر كلتيهما ومن يأتِ أولا يأخذني إلى حيث يريد.
تدون في دفترها حتى لا تنسى هدفها الأساسي من رحلتها؛ تبحث عن أسرار جديدة تخبئها في روحها حتى تملك صمتا لطيفا في حضرة زوجها وابنتها، فيشعران بأن الحال على ما يرام. هي بسكونها تصنع جوا ساحرا تحب تمضية العمر برفقته، صبر دأب على الكمون في الصمت.
الصمت بصيرة ترىبها بقايا أحمر الشفاه على ياقة قميص زوجها، وتشم بها رائحة الأحضان والقبل الملتهبة على خديه فتبتسم لطيبته وقدرته على العودة آمنا للبيت، وقلبه مطمئن لساذجتها. قردة لا ترى، لا تسمع، وبالتأكيد لا تتكلم. لا بأس، هو لم يعلمها ركوب سيارة جديدة كل مساء، ما تفعلهتعرف أنها تحبه بالسليقة.. وخيانته لها لم تقدها إلى شيء، فقط أهدت روحها السلام وأعتقتها من ثقل الذنب. مواثيق غفران جعلت من الخيانة بهجة تؤدي إلى توبة وحزن تحتاج إليه في الصباحات المثقلة بلزوجة الحياء.
أحس وكأنني ريشة تملك قلب حجر يثقلها، ويمنعها من الإحساس بخفة وزنها. كل ما يحيط بي يرى تلك الخفة الظاهرة فيغبطني عليها، وأنا الوحيدة المعلقة في منتصف مصيدة الفراغ، لا أملك القدرة على الارتقاء لأعلى لثقل قلبي، ولا أملك نعمة السقوط والرضاء بواقعية الارتطام بالأسفل لشدة الريح. الأفكار تلاحقني ثم تقودني لحالة قديمة؛ أتقنت منذ زمن دور الباحثة عن طمأنينة الوصول لنهاية سعيدة تشبه نهايات الحكايات الخيالية التي كانت تحكيها جدتيوأنا مستلقاة جانبها فوق السرير النحاسي.
في طفولتي كنت أملك في بيتها غرفة ضيقة ذات سقف مفرّغ ومفتوح على السماء. في البداية كانت حوائط الغرفة خانقة،وتطاردني فألجأ إلى الاستلقاء والنظر لأعلى. إلا أن مساحة إدراكيخرجت عن سيطرة الضيقفبدأ بالاتساع عن طريق كوات صغيرة لا نهائية تنبثق من كل الحوائط الجانبية حتى الأرضية تنشق من تحتي لينفتح العالم برحابة. ينظر إليّ الواقف بالأسفل فيرى نجمًا يسكن سماء وردية، وينظر إليّ الواقفبالأعلى فيرى لؤلؤة مختبأة في بحر لُجّيّ،والاتجاهاتالمحيطة بي لا يدرك بعضها البعض، وفي المنتصف المعلق هنايسمح لي إدراكي باستغلال ضيق زاوية رؤيتهم. استمددت قوتي من ضعفهم.
أنا لا أبالغ فكل ما أدونه حقيقة مجردة. إحساسي يصل إلى درجة الشعور. يتجسد إلى وحش مستغل جائع. ينهشنيمن الداخل بضراوة.
هل أصف لكَ الفراغات التي أراها بمجرد غلق عينيّ؟
هل أصف قدرتي على...؟
لا أجرؤ على الاعتراف، ولا أعرف مما أخشى. أجدني فجأة قاسية، أنانية إلى أقصى حد. أحاول التخلص من كل ما يكبلني حتى من ذاتي. طعنت نفسي ملايين المرات ولم أختفِ للحظة واحدة. وقوع البلاء أفضل من ترقبه. أهرب من سيارة إلى أخرى لأتحول من شخص إلى آخر أكتشفه.. لأيام، لأسابيع، لسنين.. لأي وقت تحتاجه التجربة.
مازلت أحتفظ ببعض الإنسانية والذكريات والحكايات. هل ما أفعله جزء مني، ولا يمكنني الفكاك منه؟ هل يسري في دمي فيجبرني على الصمت لساعات؟
أراقب نفسي الآن في شبق وخوف.
"هدى الليل بصوته على جسر الصدى/
وبدأت ساعاته تسافر في المدى.."
صوت "فايزة أحمد" يأتي من مذياع سيارة النقل، التي تتهادى في الليل. دون مقدمات تنقضّ روحها فوق روحه وتبدأ في ملحمة رقصها. السيارة تتأرجح بشدة ثم تصعد لأعلى تتعلق في الهواء بخيط غير مرئي، تسير مع قطارها على نفس القضبان.السائق من صدمته يفتح فاه، وهي تسحب ذكرياته. العرق يسيل على جبهتها من سخونة الذكريات وكثرتها، وهو يغوص في حالة عدمية، وكأنه وليد يحيا في عالم سرمدي، من دوائر بيضاء.
المارة في الصباح الباكر يعثرون على شيخ تائه لا يحمل ذاكرة ولا لغة ولا أي شيء. يحمل عينين زجاجيتين، وفي قلبه نقطة سوداء مظلمة وكأنها ثقب قديم يربطه بالعدم.