أمل الكردفاني- بيت المتنبئ الذي لا معنى له

ولما كان والدي عبقرياً في المجاز، فقد كان يستخدم بيت المتنبئ كثيراً في الخطاب، وهو الذي يقول فيه:
كُـــلَّـــمَـــا أَنْـــبَـــتَ الـــزَّمَـــانُ قَــنَــاةً
رَكَّــبَ الْــمَــرْءُ فِــي الْــقَــنَــاةِ سِـنَـانَـا

وكنت أفهم البيت كلما استخدمه والدي في معرض الحديث فهم السياق، حتى ليخيل إليَّ أن له معنى.
ثم أنني لما أنفرد مع نفسي وأتفكر فيه، لا أجد له في حقيقته معنى. وإذا كان الله قد سخر لنا العجم فأصلحوا حال حيرتنا بالتكنولوجيا، لجأت إلى الانترنت لأقرأ في شروحات الشارحين وتاويلات المُتأولين لهذا البيت، فلم أجد لهم حسماً. فهم يتأولون البيت كيفما اتفق، وبدا لي أن هذا البيت الشعري، فيه سر باتع. فهو -وهو بغير ذي معنى- يصلح لأن يتحور ويُتَأَّول لكل معنى. فيجوز أن يكون بيتاً يدل على شر الإنسان كما ذهب البعض، ويجوز أن يكون قدحاً في الزمان نفسه. ويجوز أن يعبر عن الحزن، والعدم، واليأس، والأمل.. وكل ما يتخيله المرء ولذلك كان والدي يستخدمه في معارض شتى من الحديث، فلما تسمعه تحسبه وكانه نُظِم من أجل ذلك السياق، ثم تسمعه في معرض آخر فتحسبه خلاف ذلك.
لكن في البيت مسألتان:
أنه بيت حسن الوزن والتموسق بشكل بديع، وفيه حسرة غامضة، وتدفق، يضع الإنسان في قلب الزمن. فلا اعتبار للإنسان إلا به. ذلك أن الكلمتين لهما وقع رنان في أذن السامع: (إنسان-زمان). وكم من مؤلفات الفلاسفة ما استخدمت فيها الكلمتان كالوجود والزمان لهايدجر، والإنسان يبحث عن معنى،..الخ. ذلك أن كلتا الكلمتين تضعنا في مواجهة مع كينونتنا ومع حضورنا في الوجود. وهذا ما يجعل بيت المتنبئ فيه سحر غامض وليونة متكيفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى