أمل الكردفاني - لحم الكلاب.. قصة قصيرة

- يا إلهي.. إن صدمتي في الكيانة الهيدروبيولوجية أكبر من اقتراحها بفرم لحوم هؤلاء الرضع وجعلها طعاماً للكلاب. لا شك عندي أن هذه الكيانة كانت تخدعنا منذ أن تم اختراعها قبل خمسين عاماً، صدقناها رغم قصورها الذي أفضى إلى تكدس جثث الرضع.
- انتم أيها الأخلاقيون من..
- ارجوك لا تقاطعني فليس هذا من لياقة الحديث في برلماننا الكوني هذا..
يتنحنح البرلماني ويواصل:
- على أي حال.. أنا اقتربت من إنهاء حديثي.. وأختصره بأن هذه الكيانة الهيدروبيولوجية قد اخطأت في توقعاتها وإذا كانت قد أخطأت الآن فليس من المستبعد أنها كانت تخطئ منذ مائة عام وأن كل استجاباتنا لتوقعاتها كانت خاطئة.. نعم.. إنها تبدو متكاملة كالآلهة لكن يبدو أنها ليست كذلك.. تعمل هذه الكيانة بإندماج كيميائي فونتومي على توقع مصائرنا، ليس تنبوءً بل توقعاً مؤكداً على أن كل فرد فينا سيختار ما إذا كان سيحب أكل الفاكهة أم شرب اللبن في المساء.. وقد تم اختبارها لمدة خمسين عاماً قبل أن يتم وضعها كراسم للمصائر.. لمصائرنا كبشر كونيين.. تقول لنا بأن هذا الرضيع سيكبر وسيكون قاتلاً مجرماً.. فماذا نفعل؟ إننا بكل بلاهة نزهق روحه.. تقول لنا بأنه سيكون رياضياً بارعاً فندعمه بأفضل أنواع التعليم الأكاديمي.. أنتم طبعا تتذكرون السنوات الأولى حينما توقعت بأن الرضيع -والذي أصبح اسمه روماني- سيكبر وسيغتال السيد إكس رئيس برلماننا الكوني في ذلك الوقت.. كان ذلك توقعاً ملفتاً للنظر ومثيراً للجدل.. لقد قالت الغالبية الأخلاقية بأن روماني لن يفعل ذلك ولكنه خذلهم وفعل. منذ ذلك الوقت ونحن نصدق كل ما تقوله هذه الكيانة.. كانت قصة مفصلية.. أليس كذلك؟.. للأسف لا تستطيع الكيانة أن تتوقع أفعال وسلوكيات الإنسان قبل ولادته اي الأجنة وهذا القصور الخطير أفضى بنا إلى السماح بإزهاق أرواح ملايين الرضع حول العالم.. غير أننا يجب أن نضع حداً لكل ذلك الإضطراب الذي ةحدثته تلك الكيانة الشيطانية.. يجب أن نوقفها وأن نترك الإنسان يتحرك في دروبه وهو يجهل مصيره.. إنني أرى ذلك.. لأنني أعتقد بأن خلو العالم من روماني لم يمنحه السلام فقط ولكن سلبه حيويته، فالمجرمون أيضاً لهم أهميتهم في الوجود، فهم يكشفون لنا عن قصورنا البشري ويحددون لنا بتمردهم على قيم المجتمع قصورنا المجتمعي.. يجب أن نزهق روح هذه الكيانة الشيطانية لا أن نزهق أرواح هؤلاء الرضع الأبرياء.. أشكركم سادتي.

تتوهج عدسة عيني برلماني آخر وهو يتأهب للتعليق:
- حسنٌ.. مرحباً بكم.. إنني.. هة.. إنني لا أجيد الخطابة.. تعرفون ذلك طبعاً.. لكنني أعرف نقاط الضعف التي تكمن في حديث البرلماني السابق وسأوجزها لكم.. إنه حديث ممل.. ولكنني سأتجنب تكرار جدل كلاسيكي منذ ظهور الحضارة الإنسانية، منذ السفسطائيين وسقراط وأفلاطون وارسطو وحتى هيجل وكانط ونيتشه وهايدجر وغيرهم.. إنه الجدل حول الأخلاق بين كونها مطلقة أم نسبية. لكن من الضروري أن أقول بأننا تجاوزنا تلك النزعات الأخلاقية منذ قرون.. سقط عالم المثل القديم وأصبحنا نكتشف ذاتنا بصورة أسرع وأكبر.. لهذا نحن هنا اليوم.. في برلمان كوني.. هل تصدقون أننا تجاوزنا عالم الحروب وصناعة الأسلحة الفتاكة ووصلنا لعالم الترفيه والتسلية والضحك وانتاج ما يشبع حاجتنا للسلام الإجتماعي فقط.. إنها نعمة.. نعمة لم نصل إليها عبر الأخلاق وإنما عبر البراغماتية والحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة.. أفضت اللا أخلاقية إلى قمة الأخلاقية.. أليس ذلك معجزة.. طحن أجدادنا بعضهم لتتساوى قواهم ومن ثم يهدأوا ويركنوا إلى قوانين عادلة تضمن المساواة بينهم في الحقوق والواجبات.. نعم أفضت الحروب اللا أخلاقية إلى العدالة.. لأنهم أضحوا مجبرين عليها.. ولذلك فالسيد البرلماني يريد أن يعيدنا إلى نقطة الصفر من جديد.. إلى جدل أخلاقي عقيم وقديم.. الكيانة التي تجمع كل البيانات عنا وتحللها وتتوقع كل تصرفاتنا وتؤكد خياراتنا لأن أدمغتنا هي التي تحكمنا لا نحن من نحكمها.. أسلوب تفاعلات ادمغتنا هو الذي يسيطر علينا لا نحن من نسيطر عليه.. تعلمت الكيانة عبر ذكائها أن تقوم بتحليل كل تلك الأرقام الهائلة من البيانات في سرعة خاطفة أسرع من الفكرة.. متوقعة بأنني الآن سأقول ما قلت وأن ذلك البرلماني ااسابق سيقول ما قاله بالحرف الواحد وبأن قطة طفلتي ستتقيأ طعامها لأن أمعاءها مصابة ببكتريا ما نتيجة إعطائي لها طعاماً يسبب لها الحساسية دون أن أدري.. نعم تفعل الكيانة كل ذلك وهكذا تجنبت عشرات المرات إطعام قطتي طعاماً تتحسس معدتها منه.. ثم يأتي ذلك البرلماني الأخلاقي ويزعم بكل بساطة أننا يجب ان نزهق روح تلك الكيانة الشيطانية؟ دون أن يسأل نفسه كيف أن هذه الكيانة جنبتنا وجنبت كل الكائنات الحية الألم؟ إنه يريد أن يعيدنا إلى الألم مرة أخرى.. بحسب كل إحصائيات الدول في تجمعنا الكوني هذا فإن البشرية لم تحتاج لإنشاء مستشفى منذ خمسين عاماً، والمستشفيات التي كانت موجودة مسبقاً تم إغلاقها لعدم وجود مرضى. ارتفع متوسط الأعمار لمائة وخمسين عاماً بنسبة عالية للصحة في كل أجهزة الجسم. وليس من المستبعد ونحن قد أدركنا مستقبلنا أن نتمكن من الوصول إلى "صفر موت".. أي بكل اختصار.. الخلود.. هل تتذكرون هذه الكلمة التي كانت شائعة في الأدب الكلاسيكي وأساطير الآلهة القديمة.. لقد أصبحت ماثلة أمام أعيننا وستتحقق خلال بضع سنين من الآن..
يمص سبابته ويضيف:
- عفواً لقد تكلمت كثيراً ولذلك احتجت لجرعة ماء..(يضحك) ما كان أجدادنا ليتوقعوا بأن أجسادنا ستتمكن من الإكتفاء ذاتياً حتى أننا نشرب الماء من أصابعنا.. ماء نقي.. وكل ذلك بفضل الكيانة.. وذلك السيد المحترم يريدنا أن نزهق روحها.. أشكركم..
تشع عين برلماني آخر ويبدأ في الحديث، يبدو أنه أخنف لذلك يخرج صوته من أنفه مبهماً قليلاً:
- حسن.. مساء الخير.. لا أعلم إن كان هذا صباح أم مساء.. فلست من يتحكم في الشمس الصناعية الكونية.. يبدو أنها سيدة لا تحب النوم.. ولكن.. لا بأس.. أقول بأن السيدين قد تجاوزا حدود أجندة اجتماعنا.. وانخرطا في نقاش أخلاقي عقيم.. نحن اجتمعنا هنا لنناقش شيئاً محدداً وهو: كيف سنتخلص من ملايين جثث الرضع؟ كنا قد طرحنا هذا السؤال على الكيانة والتي قالت بأننا سنفرم جثثهم ونصنع منها طعاما للكلاب.. ولقد شعر البعض بالغثيان من توقعات الكيانة التي لا تنتمي للأخلاق الإنسانية بصلة.. ربما حساسون قليلاً.. نعم.. طرح البرلماني الأول تساؤلاً جوهرياً وهو أنه إذا كانت الكيانة قد أخطأت التوقعات هنا فلا شك أنها أخطأت في الماضي.. إنه تساؤل جؤهري لكنه لا يتعلق بأجندة اجتماعنا اليوم.. لو كنت أعلم بأن أجندة الاجتماع ستتغير لفضلت اللعب كمصارع افتراضي.. (يضحك البرلمانيون) لكن.. لكن الكيانة لم تشر إليَّ بتغيير أجندة الاجتماع.. ويبدو أن هذا قد يكون الخطأ الثاني لتوقعات الكيانة.. لذلك دعوني أسألكم وتقوموا بالتصويت المباشر عبر الترميز البؤبؤي: هل نتحدث عن أخطاء الكيانة أم كيفية التخلص من جثث الرضع.. ألفٌ وباءٌ.. (يصمت قليلاً) حسنٌ.. يبدو أن هناك صوت واحد فقط الذي يقول بنقاش أخطاء الكيانة ولا شك عندي أنه صوت البرلماني الأول (يضحك البرلمانيون).. إذاً فلنبق في خط أجندتنا وهو كيفية التخلص من جثث الرضع.. هناك خيارات محدودة: دفنهم، حرقهم، إغراقهم في المحيط، لكن لن يكون من بين خياراتنا فرمهم وتحويلهم لطعام للكلاب.. الآن.. ما رأيكم؟.. تفضل أيها السيد.. إنك تبدو نشطاً هذا اليوم..
- لأنني طلقت زوجتي مساء البارحة
(يضحك البرلمانيون)
يستطرد:
- كما قال البرلماني الثاني فنحن وصلنا إلى ما وصلنا إليه عندما تخلصنا من أوهامنا المثالية.. منذ أن بتنا نفكر بهذه الطريقة النفعية ونحن نحقق السلام الكوني لأنفسنا.. لذلك علينا أن نناقش المسألة من خلال هذه الآيدولوجيا التي توصل إليها أجدادنا بعد تجارب قاسية.. (يقول بسرعة) هذا ما تبنيته أنا وزوجتي لنصل إلى الطلاق.. لقد أصبح لها عشيق وأنا كذلك لي عشيقة.. والمسألة ببساطة لماذا نبقى معاً وما الذي يضطرنا إلى فعل ذلك.. أصدقكم القول أنني كنت أخاف من الطلاق لأن ذلك قد يجعل عشيقتي تطلب الزواج وأنا لا اريد التورط مرة اخرى (يضحك البرلمانيون) غير أن عشيقتي هدأت من روعي وقالت بأنها لا تحتاج للإنتقال معي.. فنحن في الألفية الثالثة ومع ذلك لا زلنا نتمسك ببعض مؤسساتنا القديمة.. على أية حال.. أقول ذلك لأؤكد بأن نقاشنا يجب أن يتأسس حول الأضرار والمنافع لكل وسيلة وليس على أي جانب أخلاقي.. هذا ما أردت قوله وما أريد سماعه من المتحدثين الآخرين..
تتوهج عين برلماني ويبدأ في الحديث:
- اشكركم جميعاً.. ولا أعلم لماذا شنف السيد البرلماني آذاننا بالحديث عن طلاقه.. لم ارَ أي رابط بين أجندتنا ومسألة طلاقه حتى إذا كان قد افتعل ذلك للترفيه عنا.. ولكن المسألة جدية يا سادة.. ولا تحتمل المزاح.. والوقت عندنا ليس مفتوحاً فيجب أن ننهي مسألة الجثث المتكدسة هذه خلال ساعتين من الآن..
- ادخل في الموضوع إذاً..
- لا تقاطعني لأنني انتقدت حديث ذلك البرلماني الذي ينتمي لآيدولوجيتك البائسة..
- أنت..
- يا سيد لا تقاطعني فلا وقت لدي.. والآن.. دعونا نناقش الخيارات.. الخيار الأول هو دفن هذه الملايين من الجثث.. إن هذا خيار كلاسيكي، لكنه خيار صعب.. لسبب بسيط.. أن دفن هؤلاء في اليابسة يعني تلويث اليابسة بهذه الكمية الهائلة من الجثث.. وكذلك فإن دفنها في البحر أو إغراقها قد يؤدي إلى تلوث بيئي.. ألا تعلمون كيف تم إزهاق أرواح هؤلاء الملايين من الرضع.. تعلمون طبعاً.. وتعلمون أنهم قُتلوا بدون ألم ولكن بمواد شديدة السمية سريعة الفتك.. لذلك فأمامي تقرير أعدته منظمة خريجي الجامعة الكونية للعلوم والتكنولوجيا وقد وضح التقرير الآثار البيئية السالبة لإغراق هؤلاء في البحر.. هناك إذاً الخيار الأخير وهو حرقهم.. ونفس هذه الدراسة وضعت أن مخاطر التلوث البيئي من الحرق ستكون أكبر من مخاطر الإغراق.. وإذا كنا براغماتيين إلى أبعد درجة فيجب أن نرتب الخيارات، نستطيع أن نقول بأن خيار الدفن في اليابسة له إيجابيات بنسبة ثلاثين في المائة، أما إيجابيات الإغراق فعشرين في المائة وأما الحرق فعشرة في المائة.. لذلك يجب أن تصوتوا على الدفن.. وشكراً..
تشع عين برلماني فيقول:
- أشكركم جميعاً.. لكن دعوني أؤكد لكم أن المسألة لا تتعلق بمخاطر التلوث البيئي.. بل يجب أن ننظر لها اقتصادياً.. فليست المخاطر البيئية التعبير الأمثل عن البراغماتية.. لذلك دعونا نناقش المسألة من وجهة نظر اقتصادية .. إن هذه الكومة من اللحم ملوثة بالسم.. هذا تدمير للأرض والبحر والهواء.. هكتارات من الاراضي لن تكون صالحة للزراعة والرعي.. وتنقية الهواء ستكلفنا صناعة آليات تنقية بأعداد مضاعفة.. أما تلويث البحار فسيكلف آلاف من شركات الصيد خسارة أعمالهم وملايين الصيادين وظائفهم.. أنا أتحدث عبر إحصائيات سأوزعها عليكم.. تفضلوا.. (تتوهج صفحة ضوء زرقاء في الهواء وتتوالد متوزعة على البرلمانيين).. هل قرأتم.. حسن.. ربما لن أحتاج شرح كل تلك الأرقام المعقدة.. لكن.. دعوني فقط أشير إلى أنها خسائر بالقابليون.. هل تعلمون ما هو القابليون.. إنه عدد لا يمكن تصوره.. حسنٌ.. دعونا نفعل ما كان أجدادنا الإمبرياليون يفعلونه في سالف الزمان.. لقد كانوا يغزون الشعوب ولكنهم يعوضون نفقات غزوهم من أرباح ما يسلبونه من تلك الشعوب المهزومة.. نعم.. بكل تلك البساطة.. إذا كان علينا أن نحول خسارتنا لربح فيجب أن نعطي فرصة الربح للآخرين أيضاً.. إنني اقترح طرح مناقصة كونية للشركات الضخمة وأهمها شركة شركة مانكايند شافت والتي ستعمل على استخلاص السموم من الجثث وتحويل السموم إلى مُسلِّكات سباكة.. تعلمون اننا بأمس الحاجة إلى مسلكات السباكة بعد أن تضخمت أعداد البشر نتيجة الرعاية الصحية الممتازة.. وبعد استخلاص السموم والانتفاع بها ستعمل الشركة على فرم الجثث وتحويلها لطعام للكلاب وتبيعها بأثمان باهظة.. فأنتم تعلمون أن لحم الإنسان هو أفضل اللحوم طعماً .. لا اقصد بأنكم جربتم أكله فهذا مستحيل لأنكم بشر متحضرون ولكن كل الدراسات العلمية الحديثة أثبتت ذلك.. إن لحم الإنسان أفضل اللحوم من حيث القيمة الغذائية.. وخاصة للكلاب البوليسية وكلاب الزينة.. وباختصار حتى لمزارع الاسماك.. شركة مان كايند شافت ستدفع لصندوق البرلمان الكوني مليارات الوحدات النقدية.. مقابل منحها تلك الجثث.. إنني أود أن تحكموا على المسألة بدون أن تتأثروا بعواطفكم.. بل بعقولكم.. وأتمنى ان تصوتوا على اقتراحي بالإيجاب..
تشع عيون البرلمانين فيقول:
- حسنٌ يا سادة.. تصويت بالإجماع على بيع الجثث لشركة مان كايند شافت.. شكراً لكم..
تشع عين البرلماني الأول:
- يبدو أن توقعات الكيانة قد صدقت وكنت مخطئاً.. أبلغوها اعتذاراتي.. وتصبحون على خير..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى