كنت أراقب جارتي وهي تخطو بدأب نحو الجنون. كانت تتجه إليه بالبساطة نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقتها كل صباح، بالإتقان نفسه الذي تطهو به أصناف الطعام التي تغمرني روائحها الشهية كلما مررت بشقتها الواقعة أسفل شقتي مباشرة.
حين انتقلت للسكن في البناية، لم ألحظ أي شيء غريب أو حتى غير اعتيادي في ما يخصها، امرأة في أوائل الثلاثينات، ربة بيت، نشيطة، وأم، وحيدة، تبالغ قليلاً في رعاية أطفالها الثلاثة الذين يبلغ عُمر أكبرهم تسع سنوات كما أخبرتني.
تبتسم في وجهي كلما قابلتني على السلّم وأنا متجهة الى عملي أو عائدة منه، صوتها خافت وملامحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها، وعلى رغم ارتدائها العباءة كانت لا تحرمني من تعليق مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري."تحفة"تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متشوق الى التواصل مع الآخرين.
عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من التحفظ الذي يشعرني بالذنب بعدها، حرصت منذ البداية على أن أضع مسافة ملائمة بيني وبين جيراني، فنمط حياتي لا يسمح لي بتضييع أي وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين كليةً عني، أنا بالنسبة اليهم امرأة غريبة الأطوار تتعامل مع بيتها كمجرد مكان للنوم، إذ كنت أغادر في الواحدة ظهراً ولا أعود إلا مع اقتراب منتصف الليل.
لم يكن مألوفاً بالنسبة اليهم أن تعيش امرأة تعدت الثلاثين مثلي بمفردها: لا زوج، لا أولاد، ولا أقارب. لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن كل هذه المآخذ التي أخذها الجيران عليّ. كنت أرى في عينيها نوعاً من التوق الى التواصل معي، عزوتُ ذلك للاختلاف بيننا، فأنا بالنسبة اليها أشبه ذلك الغريب الذي نقابله في سفرة بعيدة ونفضي له بأدق أسرارنا لأننا ندرك أننا لن نراه مرة أخرى.
قد أكون جنحت كعادتي إلى المبالغة في تفسير نظراتها لي، لكنني كنت واثقة من أن هذه المرأة القصيرة ذات الملامح المنمنمة لديها ما تريد إخباري به.
عندما أسمع صراخها الهستيري وهي تعنّف أطفالها بشدة، ثم صوت نشيجها الذي يتلو وصلة التعنيف اليومية، كنت أصاب بالحيرة، إذ كيف للمرأة الهادئة، الهزيلة الجسم، الدقيقة الملامح، التي أصطدم بها من وقت لآخر على دَرَج البناية أن تتحول الى هذه المخلوقة الهستيرية التي تحول صباحاتي إلى جحيم بشجارها الدائم مع أولادها، وتضطرني للاستيقاظ مبكراً حتى في أيام العطل؟
لا أتذكر الآن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهي تقف على بسطة الدَرَج أمام شقتها مناديةً زوجة البواب كي تشتري لها ما تريده من الخارج على رغم وجود جهاز"الإنتركوم"الذي يمكنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهي جالسة في مكانها.
كنت أتعاطف مع امرأة البواب وأنا أسمع جارتي تسبّها متهمة إياها بتجاهلها، وأشفق على أطفال جارتي المشاغبين - الذين لم أرهم أبداً - حين تعاقبهم بأن تحبسهم في إحدى الغرف وتغلق الباب، من دون أن تكترث بتوسلاتهم أو بالجلبة التي يسببونها بطرقهم المتواصل على الباب.
بدأت أتخيل عقلها كقطعة أرض"شراقي"تشققت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء وقد أخذ يجري مغطياً إياها، الماء هو الجنون الذي يزحف ليغطي عقلها ويواريه في الخلفية.
لم أستطع أبداً أن أتخلص من صورة الأرض العطشى والماء يفيض عليها. كلما اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذي أصبح مبحوحاً بفعل الصراخ المتواصل لأتفه الأسباب، أرى شقوقاً تبتلع الماء.
ذات صباح فوجئت بها تطرق بابي. كانت مرتبكة. عيناها حمراوان كأنما قضت الليل كله في البكاء. أفسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ شقتي عن ظهر قلب. لم أكن قد أفقت تماماً من أثر النوم، فتبعتها بكسل وأنا أردد كلمات الترحيب المعتادة. عندما جلست في مواجهتها لاحظت أن نظراتها زائغة، وجسدها يرتعش بعض الشيء. أخذت تنظر حولها بتوتر لتتأكد من أننا وحدنا. ثم انتفضت فجأة متجهة الى جهاز التلفاز، وغطته بمفرش منضدة الصالون. ونظرت الى السقف والجدران بتمعن، ثم اقتربت لتجلس في جواري على الكنبة وهي تهمس: معلش، الاحتياط واجب.
لم أعلق واكتفيت بابتسامة مشجعة، فبدأت تحكي وهي ترجوني أن أصدقها وألا أتهمها بالجنون كالآخرين. قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو، وأن طليقها يراقبها ويرصد كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها للنوم وهي مرتدية العباءة. طلبت مني أن أنزل إلى شقتها لرؤية الكاميرات المزروعة في أركانها فتبعتها مضطرة. حين وصلنا باب شقتها وضعت سبابتها أمام فمها طالبة مني ألا أتكلم، دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها. بدا بيتها كأنه نسخة منقولة عن بيتي بكل تفاصيله: الأثاث، ألوان الستائر وحتى اللوحات المعلقة على الجدران، تلفازها كان مغطى هو الآخر... اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من عدم الفهم. نظرت حولي بحثاً عن أولادها، إلا أنني لم أعثر لهم على أي أثر، دخلت معها كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت، كنت مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر للأولاد الثلاثة المزعجين. تركتني دقائق للذهاب إلى الحمام، فتسللتُ الى غرفة نومها، كان هناك جهاز تسجيل كبير والى جواره شرائط كاسيت، ومن دون أن أفكر فتحت بابه وأخذت الشريط الموجود في داخله وأخفيته في ملابسي واتجهت الى الباب.
في شقتي رحت أستمع الى أصوات الأطفال المنطلقة من الكاسيت، مرة يطرقون على باب ما وهم يتوسلون من أجل إخراجهم، وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها فترات صمت تام.
كانت الأصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي، لكن من دون صوتها هي، يبدو أنها كانت تضيفه إلى الأصوات المسجلة.
لم أجد أطفالها الثلاثة حين دخلت شقتها لأنهم ببساطة غير موجودين من الأساس، تذكرت أنني لم أرهم أبداً، وكل معلوماتي عنهم كانت مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتي حين ألتقيها على بسطة السلّم. كونت عنها فكرة الأم التي تبالغ في الاهتمام بأطفالها لحرصها على الإشارة إليهم في ثنايا كل جملة توجهها لي، ولروائح أطعمتها الشهية التي ترشح من بيت أم حريصة على تزويد أبنائها تغذية سليمة، ولملابس الأطفال التي اعتادت أن تنشرها كل يوم تقريباً على حبل غسيلها.
شعرت بنوع من التعاطف معها وقررت أن أزورها في اليوم التالي متعللة بأي حجة، على رغم معرفتي بأنها نظراً لـپ"البارانويا"التى بدت واضحة عليها ونظراً لخروجي المفاجئ من شقتها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها.
في الصباح وجدت نفسي واقفة أمام الشقة الواقعة أسفل شقتي، طرقت الباب ثلاث طرقات خفيفة، ففتحت لي امرأة في الخمسين ترتدي ملابس بيت قطنية وتبتسم ابتسامة مرحبة. سألتها عن... عن ... اكتشفت أنني لا أعلم اسم جارتي فوصفتها لها وقلت انها تسكن هذه الشقة.
أخبرتني المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات، ولا تعرف عمن أتحدث. بدا عليها نفاد الصبر وهي ترمقني بنظرة متشككة، فاعتذرت وأنا أغادرها محرجة.
كنت أتابع المرأة الغريبة الأطوار التي تسكن في الشقة التي تعلو شقتي، من دون أن أتكلم معها، اعتدت أن أقابلها من وقت لآخر على دَرَج البناية، كانت دائماً في عجلة من أمرها، تهبط درجات السلّم أو تصعدها عدواً كأن هناك من يطاردها.
امرأة في الثلاثينات تقريباً بجسد ضئيل وملامح منمنمة، تترك شعرها الطويل منسدلاً على كتفيها، وترتدي ملابس قصيرة وأحذية ذات كعب عالٍ بدرجة ملحوظة.
حرصت على تجنبها منذ البداية، إذ بدت لي غير متزنة بعض الشيء. سمعتها أكثر من مرة تحادث نفسها وهي تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج، فترد من دون أن تنظر إليّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة.
كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة إلي، فعدم اتزانها يخصها وحدها طالما بقيت مسالمة وغير عدوانية، غير أنني بدأت أتضايق من الجلبة التي تصدر في شكل دائم من شقتها على رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها. كانت هناك ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم... وصوت امرأة تبدو كما لو كانت أمهم تعنّفهم وتصرخ بهم في شكل دائم.
حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من الأصوات المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار، فوجئت به يخبرني أن جارتي غير المتزنة نفسها اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!!
ذات يوم كنت على وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجي وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها، إلا أنني وجدتها هي من يطرق بابي لتسألني عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة مدعيةً أنها تسكن شقتي.
أصبت بالذهول، وأنا أراها تلفق هذه الادعاءات السمجة، فالمرأة ذات العباءة تشبهها هي تمام الشبه لدرجة تصورت معها حين رأيتها للمرة الأولى أنها توأمها وتسكن معها، إلا أن البواب أخبرني أنه لم ير الاثنتين معاً ولو لمرة واحدة، وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها.
تمالكتُ أعصابي واكتفيتُ بالقول إنني أسكن هنا مع ابنتي وحدنا منذ عشر سنوات ولا نعلم شيئاً عن المرأة التي تسأل عنها. بدا اندهاشها حقيقياً وهي تسمع مني ذلك. كانت على وشك أن توجه إليّ أسئلة أخرى، فأمسكتُ بالباب كأنني على وشك إغلاقه وأنا أبتسم لها بود مصطنع فغادرتْ محرجة.
لا أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح، لكنني أعتقد أن المهووسة ذات العباءة السوداء والملامح الدقيقة لها علاقة بالأمر، أو قد تكون المرأة الخمسينية التي وجدتها تسكن في شقتها بدلاً منها.
أريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد، لن أزعج أحداً مرة أخرى على رغم تيقني من أنني لم أزعج أي أحد في المرة الأولى، لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟ وجود عباءتها وملابس أطفالها في دولاب ملابسي لا يثبت أي شيء، يجب أن يصدقوني، يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة كي يؤكد لهم جنونها هي لا أنا. پ
حين انتقلت للسكن في البناية، لم ألحظ أي شيء غريب أو حتى غير اعتيادي في ما يخصها، امرأة في أوائل الثلاثينات، ربة بيت، نشيطة، وأم، وحيدة، تبالغ قليلاً في رعاية أطفالها الثلاثة الذين يبلغ عُمر أكبرهم تسع سنوات كما أخبرتني.
تبتسم في وجهي كلما قابلتني على السلّم وأنا متجهة الى عملي أو عائدة منه، صوتها خافت وملامحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها، وعلى رغم ارتدائها العباءة كانت لا تحرمني من تعليق مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري."تحفة"تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متشوق الى التواصل مع الآخرين.
عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من التحفظ الذي يشعرني بالذنب بعدها، حرصت منذ البداية على أن أضع مسافة ملائمة بيني وبين جيراني، فنمط حياتي لا يسمح لي بتضييع أي وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين كليةً عني، أنا بالنسبة اليهم امرأة غريبة الأطوار تتعامل مع بيتها كمجرد مكان للنوم، إذ كنت أغادر في الواحدة ظهراً ولا أعود إلا مع اقتراب منتصف الليل.
لم يكن مألوفاً بالنسبة اليهم أن تعيش امرأة تعدت الثلاثين مثلي بمفردها: لا زوج، لا أولاد، ولا أقارب. لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن كل هذه المآخذ التي أخذها الجيران عليّ. كنت أرى في عينيها نوعاً من التوق الى التواصل معي، عزوتُ ذلك للاختلاف بيننا، فأنا بالنسبة اليها أشبه ذلك الغريب الذي نقابله في سفرة بعيدة ونفضي له بأدق أسرارنا لأننا ندرك أننا لن نراه مرة أخرى.
قد أكون جنحت كعادتي إلى المبالغة في تفسير نظراتها لي، لكنني كنت واثقة من أن هذه المرأة القصيرة ذات الملامح المنمنمة لديها ما تريد إخباري به.
عندما أسمع صراخها الهستيري وهي تعنّف أطفالها بشدة، ثم صوت نشيجها الذي يتلو وصلة التعنيف اليومية، كنت أصاب بالحيرة، إذ كيف للمرأة الهادئة، الهزيلة الجسم، الدقيقة الملامح، التي أصطدم بها من وقت لآخر على دَرَج البناية أن تتحول الى هذه المخلوقة الهستيرية التي تحول صباحاتي إلى جحيم بشجارها الدائم مع أولادها، وتضطرني للاستيقاظ مبكراً حتى في أيام العطل؟
لا أتذكر الآن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهي تقف على بسطة الدَرَج أمام شقتها مناديةً زوجة البواب كي تشتري لها ما تريده من الخارج على رغم وجود جهاز"الإنتركوم"الذي يمكنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهي جالسة في مكانها.
كنت أتعاطف مع امرأة البواب وأنا أسمع جارتي تسبّها متهمة إياها بتجاهلها، وأشفق على أطفال جارتي المشاغبين - الذين لم أرهم أبداً - حين تعاقبهم بأن تحبسهم في إحدى الغرف وتغلق الباب، من دون أن تكترث بتوسلاتهم أو بالجلبة التي يسببونها بطرقهم المتواصل على الباب.
بدأت أتخيل عقلها كقطعة أرض"شراقي"تشققت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء وقد أخذ يجري مغطياً إياها، الماء هو الجنون الذي يزحف ليغطي عقلها ويواريه في الخلفية.
لم أستطع أبداً أن أتخلص من صورة الأرض العطشى والماء يفيض عليها. كلما اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذي أصبح مبحوحاً بفعل الصراخ المتواصل لأتفه الأسباب، أرى شقوقاً تبتلع الماء.
ذات صباح فوجئت بها تطرق بابي. كانت مرتبكة. عيناها حمراوان كأنما قضت الليل كله في البكاء. أفسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ شقتي عن ظهر قلب. لم أكن قد أفقت تماماً من أثر النوم، فتبعتها بكسل وأنا أردد كلمات الترحيب المعتادة. عندما جلست في مواجهتها لاحظت أن نظراتها زائغة، وجسدها يرتعش بعض الشيء. أخذت تنظر حولها بتوتر لتتأكد من أننا وحدنا. ثم انتفضت فجأة متجهة الى جهاز التلفاز، وغطته بمفرش منضدة الصالون. ونظرت الى السقف والجدران بتمعن، ثم اقتربت لتجلس في جواري على الكنبة وهي تهمس: معلش، الاحتياط واجب.
لم أعلق واكتفيت بابتسامة مشجعة، فبدأت تحكي وهي ترجوني أن أصدقها وألا أتهمها بالجنون كالآخرين. قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو، وأن طليقها يراقبها ويرصد كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها للنوم وهي مرتدية العباءة. طلبت مني أن أنزل إلى شقتها لرؤية الكاميرات المزروعة في أركانها فتبعتها مضطرة. حين وصلنا باب شقتها وضعت سبابتها أمام فمها طالبة مني ألا أتكلم، دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها. بدا بيتها كأنه نسخة منقولة عن بيتي بكل تفاصيله: الأثاث، ألوان الستائر وحتى اللوحات المعلقة على الجدران، تلفازها كان مغطى هو الآخر... اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من عدم الفهم. نظرت حولي بحثاً عن أولادها، إلا أنني لم أعثر لهم على أي أثر، دخلت معها كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت، كنت مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر للأولاد الثلاثة المزعجين. تركتني دقائق للذهاب إلى الحمام، فتسللتُ الى غرفة نومها، كان هناك جهاز تسجيل كبير والى جواره شرائط كاسيت، ومن دون أن أفكر فتحت بابه وأخذت الشريط الموجود في داخله وأخفيته في ملابسي واتجهت الى الباب.
في شقتي رحت أستمع الى أصوات الأطفال المنطلقة من الكاسيت، مرة يطرقون على باب ما وهم يتوسلون من أجل إخراجهم، وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها فترات صمت تام.
كانت الأصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي، لكن من دون صوتها هي، يبدو أنها كانت تضيفه إلى الأصوات المسجلة.
لم أجد أطفالها الثلاثة حين دخلت شقتها لأنهم ببساطة غير موجودين من الأساس، تذكرت أنني لم أرهم أبداً، وكل معلوماتي عنهم كانت مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتي حين ألتقيها على بسطة السلّم. كونت عنها فكرة الأم التي تبالغ في الاهتمام بأطفالها لحرصها على الإشارة إليهم في ثنايا كل جملة توجهها لي، ولروائح أطعمتها الشهية التي ترشح من بيت أم حريصة على تزويد أبنائها تغذية سليمة، ولملابس الأطفال التي اعتادت أن تنشرها كل يوم تقريباً على حبل غسيلها.
شعرت بنوع من التعاطف معها وقررت أن أزورها في اليوم التالي متعللة بأي حجة، على رغم معرفتي بأنها نظراً لـپ"البارانويا"التى بدت واضحة عليها ونظراً لخروجي المفاجئ من شقتها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها.
في الصباح وجدت نفسي واقفة أمام الشقة الواقعة أسفل شقتي، طرقت الباب ثلاث طرقات خفيفة، ففتحت لي امرأة في الخمسين ترتدي ملابس بيت قطنية وتبتسم ابتسامة مرحبة. سألتها عن... عن ... اكتشفت أنني لا أعلم اسم جارتي فوصفتها لها وقلت انها تسكن هذه الشقة.
أخبرتني المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات، ولا تعرف عمن أتحدث. بدا عليها نفاد الصبر وهي ترمقني بنظرة متشككة، فاعتذرت وأنا أغادرها محرجة.
كنت أتابع المرأة الغريبة الأطوار التي تسكن في الشقة التي تعلو شقتي، من دون أن أتكلم معها، اعتدت أن أقابلها من وقت لآخر على دَرَج البناية، كانت دائماً في عجلة من أمرها، تهبط درجات السلّم أو تصعدها عدواً كأن هناك من يطاردها.
امرأة في الثلاثينات تقريباً بجسد ضئيل وملامح منمنمة، تترك شعرها الطويل منسدلاً على كتفيها، وترتدي ملابس قصيرة وأحذية ذات كعب عالٍ بدرجة ملحوظة.
حرصت على تجنبها منذ البداية، إذ بدت لي غير متزنة بعض الشيء. سمعتها أكثر من مرة تحادث نفسها وهي تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج، فترد من دون أن تنظر إليّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة.
كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة إلي، فعدم اتزانها يخصها وحدها طالما بقيت مسالمة وغير عدوانية، غير أنني بدأت أتضايق من الجلبة التي تصدر في شكل دائم من شقتها على رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها. كانت هناك ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم... وصوت امرأة تبدو كما لو كانت أمهم تعنّفهم وتصرخ بهم في شكل دائم.
حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من الأصوات المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار، فوجئت به يخبرني أن جارتي غير المتزنة نفسها اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!!
ذات يوم كنت على وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجي وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها، إلا أنني وجدتها هي من يطرق بابي لتسألني عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة مدعيةً أنها تسكن شقتي.
أصبت بالذهول، وأنا أراها تلفق هذه الادعاءات السمجة، فالمرأة ذات العباءة تشبهها هي تمام الشبه لدرجة تصورت معها حين رأيتها للمرة الأولى أنها توأمها وتسكن معها، إلا أن البواب أخبرني أنه لم ير الاثنتين معاً ولو لمرة واحدة، وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها.
تمالكتُ أعصابي واكتفيتُ بالقول إنني أسكن هنا مع ابنتي وحدنا منذ عشر سنوات ولا نعلم شيئاً عن المرأة التي تسأل عنها. بدا اندهاشها حقيقياً وهي تسمع مني ذلك. كانت على وشك أن توجه إليّ أسئلة أخرى، فأمسكتُ بالباب كأنني على وشك إغلاقه وأنا أبتسم لها بود مصطنع فغادرتْ محرجة.
لا أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح، لكنني أعتقد أن المهووسة ذات العباءة السوداء والملامح الدقيقة لها علاقة بالأمر، أو قد تكون المرأة الخمسينية التي وجدتها تسكن في شقتها بدلاً منها.
أريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد، لن أزعج أحداً مرة أخرى على رغم تيقني من أنني لم أزعج أي أحد في المرة الأولى، لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟ وجود عباءتها وملابس أطفالها في دولاب ملابسي لا يثبت أي شيء، يجب أن يصدقوني، يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة كي يؤكد لهم جنونها هي لا أنا. پ