عبد الرزّاق بوتمزّار - يوماً ما سأقتل "غ. س." كافكا!

الخامسة وخمسٌ وأربعون دقيقة.. وأنا أهُمّ بإطفاء الحاسوب، لاح لي طيفه مارقاً على بُعد خطوتين من حيث أجلس. كنتُ قد تأخّرتُ في اللحاق بكرسيَ المحجوز في المقهى. أتوجّس من الصّراصير على الدّوام. كأنّ الحشرة استشعرَتْ نية السّوء التي أضمرتُ. وأنا أطوي ركبتَيّ الثقيلتين لأقوم، حاولتِ الاحتماءَ بفردةِ حذاء. لمْ أمهلها. اقتربتُ بسرعة وبتصميم على القتل. حوّلتْ اتجاه زحفِها بمكر. كادتْ تغافلني وتختفي خلف قدم الطاولة، لكني عـالجتها بضربة قاتلة بصندل بلاستيكيّ أسْود. نظرتُ إلى ما تبقى من جسمها الضّئيل وقد اختلط بدماء شديدة السّواد. بين بطنِ الصّندل وقطعة الزلّيج البيضاء تَوزّعَ جسم كان، قبل لحظات، يُشاغبني. أحسستُ بارتياح مَن انتصر في معركة حاسمة. أُفضّل هذه النهاية على أن تعود لزيارتي لاحقاً وقد استسلمتُ للنوم. بل مَن يدري، قد تتحول إلى مسخ، كما غريغور سامسا، في أحد أحلامي، التي لم أعد أرى فيها غير الكوابيس.
كثيراً ما أفلتتْ هذه الحشرات الماكرة من هجومي. تختفي إحداها في مكان ما في الهُنيهة الفاصلة بين قيامِي من مجلسي وبين وصول يدي إلى أقرب سلاح؛ ويكون، في العادة، فردةَ صندل أو حذاء. وبمرور الأيام، استوعبتُ إستراتيجية الصّراصير في الهروب. لهذه الحشرات طرُق ذكية في مُراوغة الموت على يد عدُوها الأوحد، الإنسان. السّبيلُ الوحيد لإفشال خُطّتها: ألاترفع عنها عينيك أبداً بعد أن تراها للمرّة الأولى. حتّى وأنتَ تبحث عن أداة محْقها لا ترِفَّ أو تنظرْ إلى مكان آخَر؛ ففي تلك الجزيئة الضّئيلة من الزّمن ستختفي!
رغم أني أحرص كثيراً على نظافة الغرفة وبهو الدّار وأضع، دوماً، حاجزاً من قماش تحت الباب قبل أن أغادر، كثيراً ما كانتْ صرصورة أو أكثر تتمكن من الانسلال إلى الداخل. ولأنّني أكرهُها، لمْ أكن أتوانى في دعسها أو سحقها بضربة مُباغتةٍ شرّيرة. ثمّ، وكخطّة مُعاكِسة لكسر تشابُه لحظات الوحدة ورتابة الحياة بين الجدران الأربعة الباردة، صار قتلُ الصّراصير إحدى هواياتي. كرعتُ ما تبقّى في قنينة النبيذ دفعة واحدة وانتعلتُ الصّندل وخطوتُ خطوتين نحو الباب. سحبتُ سروالي المعلّق وارتديته وقميصا رياضياً. دسستُ في جيبي هاتفي، علبة السّجاير، و17 درهماً كانت قطَعُها مُلقاة قرب المفاتيح فوق السرير الأعزب. وحين هممتُ بإقفال الباب شعرتُ به يندفع عبر الفجوة. نزل الأدراج معي. كانت ابتسامته الشّامتة دليلاً على أنه حقيقيّ؛ على أنّ ما أرى ليس هلوسات بسبب الإفراط في الشرب مثلا. لم أشرب اليوم بما يكفي لأن أتخيّل أي شيء غير حقيقي، فما بالك بشخص من لحم ودم يمشي إلى جانبي. أدرتُ المفتاح في الباب الخارجي للدّار وهو يقف في الزّنقة الضيّقة، يُتابع بابتسامته الماكرة وفي صمت، حركاتي المتوترة.
في السّْويقة كان التدافع على أشدّه. تساءلتُ، مُستاءً، وأنا أراوغ الأجساد المارقة في كلّ اتّجاه: إلى أين نسير، جميعاً، بسرعة؟ هل نسعى حقا إلى هدف محدد يتطلب منا هذه العجلة؟
تحدَّثَ لأول مرّة، بعدَ أن تمتمتُ بتعليق غاضب، وأنا أتفادى صدْرَ بغْل آدَميّ كان يسيرُ في الاتجاه المعاكس وعيناه على مؤخّرةِ فتاة إفريقيّةٍ سمراء. كانت تسيرُ أمامي مُباشَرة. وللأمانة، كانت تجُرّ خلفها "حقيبة" غيرَ عادية. وجدتُ للبغلِ بعضَ العُذر.. تخطّيتُها أخيراً، بحقيبتها المغرية. تستر مؤخرتها، التي كانت تتمايل يمينا ويسارا مع كل خطوة، قطعةُ قماشٍ بألوانِ إفريقيا. سمعتُه يقول:
-هل تسمحُ لي بسُؤال؟
اكتفيتُ بأنْ نظرتُ إليه ببُرود. تشجَّعَ:
-كنا هانئَيْن هناك، في الغرفة، قبل أنْ تظهر تلك الصّرصورة.. صارت بعضُ هواياتك مؤخرا تثيرُ استغرابي.
قاطعتُه، وقد بدأ الزّحام يخفّ حين شارفْنا على تجاوُز السّور:
-ههههه وماذا تظنّ نفسَك أنت، شيئاً آخرَ غيرَ صرصور!؟ أرجوك، اغرُبْ عن وجهي الآن، ليس لديّ وقتٌ ولا رغبة في سماع كلام حشرة مثلك، أريد مشاهدة مُباراة واحتساء فنجاني وحيداً.
قاطعَني:
-وحيداً، نعم، وحيداً كنتَ قبلَ سنوات، لكنّك الآن لم تعد كذلك. أنا شريكك الآن في تلك الغرفة البئيسة.
-يا مخلوق..
قاطعتُه، وأنا أقعد على كُرسيّ المُعتاد في إيموزار.
-ذلك الصّـرصور الذي محقتُ قبل أن أغادر قد يكون أخاك أو أختَك! يبدو أنك نسيتَ أصلك وبدأتَ تتخيل أنك أكثر من حشرة.
-لا، لم أنسَ أصْلي ولن أنساه، لكنّي الآن صرتُ شيئاً آخر.. أقصد، شخصا آخر! ولا يمكنك إنكارُ ذلك ولا تغيير شيء في هذه الحقيقة. ثم اُنظر إليّ جيدا، ألستُ أبدو بشرياً مثل كل هؤلاء؟ بل ربّما أفضلَ من كثير منهم!؟
اكتفيتُ بابتسامة ساخرة، وأنا أفكر "نعم، عندك حقّ، لو كنتُ سحقتُك فياليوم الأول ما كنتَ لتدّعي اليوم أنك صرتَ بشريا، بل وأكثر من بعض البشر". تركزتْ عينايَ على جهاز التلفزيون. كانت قد مرّتْ تسعُ دقائق علىانطلاق المباراة. لمْ أعد أسمع ما كان يقول.
عندما انتبهتُ إلى نفسي لم يكن يتبقّى غير دقائقَ في زمن المُباراة. رشفتُ من كأس القهوة البارد وأشعلتُ سيجارة. لم يكن هُناك. أمضيتُ ما تبقى مِـن دقائقِ المُباراة فـي البحث عنه بعينَيّ خلف الكراسي. لكنّ بعض الزبائن أخذوا يتوجّسون من نظراتي المُتلصّصة إلى ما وراء ظهُورهم. رشفتُ ما بقيّ في الكأسِ دفعة واحدة وسحقتُ عقب السّيجارة. أفرغتُ كوبَ ماء كان فوق "الكـُونتوارْ" في جوفي، وأنا أسير خلف حشود المُغادرين، في صفّ ينتهي إلى النادل. اعتاد الوقوف هناك، قرب طاولة. يتلقف منهم الأوراق بسرعة عجيبة ويردّ عليهم بعض القطع. تركتُ المقهى دون أن ألمح طيفه. لففتُ يميناً وخطوتُ نزولاً نحو الأحياء الخلفية، عندما سمعتُ النادل يُنادي عليّ:
-أستادْ، أ وْستادْ..
التفتّ وعدتُ إليه.
-ياك شي باسْ ما كايْن أ بّا صْطّوفْ؟.. خْلّصتك، ياكْ؟
سألتُه، وأنا أتحسّس جيبَيّ. رُبّما نسيتُ أن أدفع. حدَث لي ذلك سابقاً، لا أتذكر في أيّ مقهى، لكنْ كم كان الموقفُ سخيفاً. أرجو ألا يكون قد تكرّراليوم.
-لقد دفعتَ لي ثمنَ مشرُوبَين!؟
-وهل أدى لك ثمنَ ما شرب؟ أنا لم أنتبه إليه حين غادر ولم أعرفْ إن كان قد دفع أمْ لا.. يحبّ دائما أن يضعَني في مواقفَ مثل هذه، وفي الحقيقة...
-أستاذ، لقد تابعتَ مباراة اليوم وحيداً!
صفعتني جُملتُه. تابَع وهو يُعيد إليّ سبعة دراهم:
-مالْ لُونْك مْخطوفْ اليُومْ أسّي عْبد العاطي؟ ياكْ ما عيّانْ؟..
-لا، لا.. أنا؟ شْكون؟ بخيرْ، شْويّة.. شكراً.
في طريقي إلى "الزّاوية"، غرفتي، خطّطتُ لأن أفتك به. لا أدري كيف استبدّت بي رغبة جارفة في القتل. شعرتُ بي أتجرّد، شيئا فشيئا، من إنسانيتي. تملّكتني نزعة حيوانية بدائية. لن أرحمه! أقنعتُ نفسي. عليّ إيجاد طريقة للتخلّص من هذا الصرصور الذي كبر معي /فيَ وصار يتخيّل نفسه بشراً، يشرب النصّ -نص ويتابع مباريات الكرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى