في 29 تشرين الأول عام 1945 ، رفض سارتر ان يتسلّم وسام جوقة الشرف الذي منحه إياه ديغول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، لأن مثل هذه التكريمات بالنسبة له تقييد لحريته لكونها تجعل من الكاتب تابعاً . وفي الرسالة التي ارسلها سارتر كانت هناك عبارة تقول :"عند اختيار اي شيء على الإطلاق ، فإنني قبل أي شيء اختار الحرية" . كان سارتر قد نشر قبل أشهر آنذاك كتابه الشهير "الكينونة والعدم" ، هذا الكتاب الطويل والصعب ، والذي لم يحقق مبيعات كبيرة ، لكنه مايزال مثل كتب "أصل الأنواع" لداروين و"النسبية" لآينشتاين و"الوجود والزمان" لهيدغر ، حيث كانت يُقتبس منها أكثر مما تُقرأ .
لم تكن سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، سنوات الخوف من المجهول ، إلا على نحو سطحي ، فما حدث بعد الحرب هو العكس ، حيث هبّت رياح الحرية على العالم الغربي ، الحرية الفكرية ، حرية الوجود ، حرية المرأة ، الضجة التي احدثها كتاب سيمون دي بوفورا "الجنس الآخر"، ثم المثال الحي للموقف الحر الذي قدمه الثنائي سارتر وكامو .
في الفترة نفسها نشر المسرحي والفيلسوف جابريل مارسيل كتابه المثير"يوميات ميتافيزيقية"، والذي طالب فيه ان تعود الفلسفة الوجودية الى أصولها الأولى الى المعلم "سيرون كيركجورد" الذي ظل الدارسون منذ وفاته عام 1855 يعتبرونه مجرد مفكر ديني حاول إصلاح الأوضاع المتردية في عصره ، فيما عدّه آخرون ممثلاً للعدمية من خلال نصوصه الأدبية التي حاول من خلالها إقناع القراء بفقر الحياة وعدم جدواها ، غير ان مارسيل شكك بوجهات النظر هذه ، وكتب مقالاً في العدد الأول من مجلة "الأزمنة الحديثة" التي يصدرها سارتر يؤكد فيه: "أن لكيركجارد تاثيراً في عدد من التطورات الفلسفية الهامة ، بل ان تحدّيه لوجهة نظر هيغل الى العقل ، هي تحديات فلسفية بقدر ما هي دينية ، انها محاولات لنزال الفلاسفة على أرضهم" . كان كيركجورد نفسه يخشى ان يُنظر اليه بعد موته على انه فيلسوف، ونراه يعترف بصراحة ووضوح في كتابه "خوف ورعدة" :"كاتب هذه السطور ليس فيلسوفاً ، وهو لم يفهم (المذهب) بل لايدري ان كان هناك ما يسمى بالمذهب الفلسفي ام لا ، ولا يدري ان كان قد اكتمل ، يكفيه ما لديه فعلا في رأسه الهزيلة من تفكير" .
وصاحب الرأس الهزيلة هذه لم يكن يعيه من الفلسفة سوى الرد على الألماني هيغل الذي اراد ان يفسر كل شيء تفسيراً عقلياً خالصاً ، مع ان حياة الانسان ،على حد تعبير كيركجارد، مليئة بألوان كثيرة من الغموض والألغاز يعجز العقل البشري عن تفسيرها ، لأنها تحتاج الى منهج آخر يختلف عن منهج هيغل : " فالخلط الذي احدثه هيغل في الحياة الإنسانية أمر لايصدق". ومن هنا كان كيركجورد يريد ان يحلّ الوجود الأنساني بكلّ ما يحيط به من قلق وصراع وتوتر ويأس وإيمان وخطيئة ومعاناة ، محل الوجود العقلي الذي حوّل الواقع الانساني الى مجموعة هائلة من التصورات العقلية:" اية فائدة يمكن ان ترتجى اذا درست جميع المذاهب الفلسفية واظهرت ما في كل هذه المذاهب من تناقضات ، اية فائدة تعود علي لو انني استطعت تطوير نظرية في الدولة ورتبت جميع التفصيلات في كلّ واحد ، وبنيت بهذا الشكل عالماً لن اعيش فيه ، ان ما ينقصني في الحقيقة هو أن أرى نفسي بوضوح ، أن أعرف ما يجب علي ان أعمله ، لا ما ينبغي علي ان أعرفه الا بمقدار ما تسبق المعرفة العمل بالضرورة ، ان المهم ان أفهم مهمتي في هذه الدنيا". كانت هذه هي بداية الوجودية ،كما يقول جون ماكوري في كتابه "الوجودية " ، انها فلسفة تدور حول الانسان ، فكيركجورد يقدم للإنسان وجهة نظر عامة عن المنهج الذي ينبغي ان يسير عليه وهو يقول له : لاتبحث عن الحقيقة خارج نفسك ، ان الحقيقة لكي تكون جديرة بهذا الاسم لابد ان تكون ذاتية : "ان ما أريده وما أبحث عنه في كل انسان ، هو ألا يفكر بالنهار إلا في مقولات حياته ، وان يحلم بها في الليل".
التقط سارتر عبارة كيركجورد هذه ليقدم اول محاضرة عن الوجودية بعنوان "الوجودية مذهب انساني" ، اي انها تضع الإنسان في مركز اهتمامها ، وعلى قمة هرم اولوياتها ، ونجد هيدجر يقدم التحية لكيركجورد في مقاله الشهير "رسالة في النزعة الانسانية" حيث يرى ان كيركجورد استطاع ان يقدم فلسفة قادره على الانفتاح على الوجود الإنساني ، وفي تعبير شهير يكتب هيدجر عن هذا الانسان الوجودي انه "راعي الوجود".
بعد 60 عاماً على وفاة كيركجورد يكتب الوجودي الروسي نيقولاى بِرديائف :"ان كيركجورد يريد ان تكون الفلسفة نفسها وجوداً بدلاً من ان تكون مجرد بحث في الوجود" . كان برديائيف تلميذاً مخلصاً لأفكار المعلم النمساوي الذي طالب بأن على الإنسان ان يغيّر نفسه أولاً قبل ان يغير العالم ، ويعلنها برديائيف صريحة في كتابه الشهير الحلم والواقع : "غيّر نفسك يتغير العالم لك وبك ومن حولك" .
************
كان في السادسة من عمره حين أدرك أنه لن يتمكّن من تذوّق صحبة أقرانه في المدرسة الذين كانوا يسخرون من هذا الصبي ناحل الجسم ، فالطفل الذي ولد لأب يبلغ من العمر السادسة والخمسين ، جمع مالاً كثيراً ، لكنه ايضاً جمع نظرة متشائمة الى الحياة ، يتصور ان لعنة الله قد حلّت به وبعائلته ، كان أصغر الأبناء السبعة للأسرة ، وقد هيمنت على البيت النزعة الأبوية الصارمة ، فقد كانت للأب نظرة كئيبة الى الحياة ، وكان يعاني من نوبات متقطعة من الاكتئاب واليأس والشعور بأنه ارتكب خطيئة كبيرة ، وقد ورث الابن عن أبيه الاكتئاب والسوداوية التي كانت تنتابه بين الحين والآخر، فنراه يكتب في مؤلفه "وجهة نظر" والذي هو اشبه بالسيرة الذاتية : "وانا طفل تربيت على المسيحية بصرامة وشدة ، واذا جاز لي أن أعبّر عن نفسي بانسانية ، لقلت إنني تربيت على نحو جنوني ، وحتى في طفولتي المبكرة ، قيدتني انطباعات حطّت عليّ من سوداوية الرجل العجوز الذي كان هو نفسه محاصراً بها ، لقد كنت طفلاً تربّى على انه رجل عجوز سوداوي".
ولد سورين كيركجورد في كوبنهاغن في الخامس من أيار عام 1813 ، حاول في سن الشباب ان يتخلص من جو الكآبة الذي عاشه مع أبيه ، فأقبل بكل قوة على حياة اللهو ، ورفع شعار "تلذذ بكل ما هو حسي" ، ونراه يحاول ايجاد اعذار لهذه المرحلة من حياته، فيكتب في يومياته :"لقد ولدت كهلاً حين أتيت الى الوجود ، ولكن يعزى إلي الفضل في إخفاء أحزاني بسعادة ظاهرة" .
يرسم جون ماكوري في كتابه الممتع "الوجودية" صورة طريفة لصبي منعزل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً ملوناً ، وجوارب طويلة ، حتى اطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب "صبي الجوارب" ، لم يكن يملك اية لعبة في منزله ، وحين كان يطلب الخروج من البيت كان والده يمنعه ، فالاختلاط خطر :"لقد سرقوا طفولتي ، وأعطوني وانا طفل هيئة رجل عجوز ، كان ذلك رهيباً". كانت تسيطر على ابيه فكرة الخطيئة ، وقد قال لأولاده انه عندما كان شاباً يرعى الأغنام ، شعر باليأس والضجر ، فأنكر الله الذي لم يساعده في الحياة ، وانه رأى بعد ذلك في المنام ان عاصفة رعدية ضربته ، ومنذ ذلك التاريخ وهو يظن ان الله سينزل عليه في يوم من الأيام عقاباً رهيباً ، وحين ازدهرت تجارته ، بدت له الثروة والحياة المرفهة كنوع من الاختبار ، وحين وقع لابنه الأصغر سورين عدد من الحوادث ، اعتقد الأب ان لحظة سداد الدين قد حانت ، وان عليه ان يقدم آخر أبنائه قرباناً كما فعل النبي ابراهيم مع آخر أبنائه . ولعبت الأقدار دوراً في ازدياد كآبة الأب الذي دفن خمسة من أبنائه بالاضافة الى زوجته ، هذا المزاج السوداوي يصفه لنا كيركجورد في يومياته :" تلك الحياة هي العالم معكوساً ، حياة قاسية وغير محتملة ، احيانا نقول الوقت يمر ، والحياة تتدفق ، ولكني لا أرى ذلك ، بل يبقى الوقت ساكناً ، وانا كذلك ، كل خطط المستقبل التي ارتبها ترتد الي ، وحين أرغب ان أبصق ، فأنا أبصق في وجهي".
وكان كيركجورد يذكر الماضي الذي عاشه مع أبيه ويتعذب ، لكنه لايريد ان يغادر هذا الماضي ، انه يصر ان يجعل من عذابه نقطة انطلاق نحو فهم للحياة :"مهمتي ان أصرخ وأدعو الناس ، ان أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان".
في السابعة عشرة من عمره ينهي تعليمه الثانوي ويستجيب لرغبة والده بدراسة اللاهوت ، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها مولعاً بقراءة اعمال الفلاسفة المثاليين الألمان، فنراه يبدي سعادة كبيرة حين يلتقي الفيلسوف الألماني شيلينغ :" انا سعيد سعادة لاتوصف لسماعي محاضراته ، حتى انني تنهدت طويلاً بما فيه الكفاية ، وتنهدت الأفكار بداخلي". وقد اتفق مع هجوم شيلينغ على هيغل .
عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفى والده ، الأمر الذي أحدث تحولاً كبيراً في حياته ، :" لقد توفى والدي قبل ان يتم العقاب حباً لي ، وذلك حتى اتحمل وحدي العقاب " .وبعد عامين حصل على شهادة في اللاهوت وخطب "رجينا اولسن" ، لكنه فسخ خطوبته بعد عام ، معلناً بوضوح انه لاينفع للحياة الزوجية ، فقد اصبح مقتنعاً بأنه انسان لديه رسالة عظيمة ، وان الزواج والعائلة يتعارضان مع هذا الهدف .
في العام 1843 ينشر اول كتبه "إما – أو" وفيه يعبر للمرة الاولى عن موقفه من الحياة ، وهو موقف المتشائم :"لندع الآخرين يشتكون من هذا العصر الذي هو عصر الشر ، إنني اشكو لأنه عصر تعس ، عصر بلا عاطفة ، وافكار الناس نحيلة وهشة كرباط الحذاء ، ان نفسي مثقلة حتى انه ما من فكرة بقادرة على تعزيتها ". بعدها بأشهر ينشر كتابه الثاني "خوف ورعدة" ، وتبع هذين العملين في عام 1844 كتاباه "مفهوم التهكم" و "شذرات فلسفية". وبعد عام نشر كتابه الخامس "مراحل على طريق الحياة" ، ويبدو انه كان يشعر ان حياته قصيرة فأخذ يكتب بشكل محموم ، فنشر خلال ثلاثة أعوام أكثر من مؤلف واصدر مجلة خاصة حاول من خلالها ان يبث افكاره التي اراد ان يقول من خلالها ان على الكنيسة ان تعود الى جوهر المسيحية ، اذ يجب على المسيحية الكنسية ان تعترف بأنها ليست مسيحية .. وقد اتهم الكهنة بأنهم يتلاعبون بالدين ، وجعلوا من الكنيسة مصدر كسب للعيش ، لكنهم لم يفهموا ان الدين هو الولاء ، وقبل كل شيء "في الارتفاع عن هذا" ، وعن الكهنة الذين وصفهم بأنهم :"أكلة لحوم البشر" .
بعد نشر هذه المقالات التي اثارت عليه حفيظة الكنيسة الدنماركية ، كان في احد الأيام يسير باتجاه الصحيفة ، وكان ذلك في اليوم الثاني من تشرين الاول 1855 حين نقل الى المستشفى ،حيث رقد شهرا كاملا ، والغريب ان اول عبارة قالها عند دخوله المستشفى :" لقد جئت هنا لاموت " .
وفي المستشفى طُلب منه صديقه المقرب ان يتراجع عن هجومه ضد الكنيسة فكان جوابه :"لقد أردت ان اموت وحينئذ استطيع ان أتاكد انني قد أنجزت مهمتي ، وسوف يكون الناس أكثر إنصاتا الى كلمات انسان ميت عن الإنصات الى كلمات الانسان الحي". وحين يسأله الطبيب المعالج اذا ما كان يريد ان يتلقى المغفرة ، فيجيب "نعم، ولكن ليس من قس ، بل من انسان عادي ، ان الكهنة موظفون رسميون ، والموظفون ليست لهم علاقة بالكنيسة" ، ويوصي الطبيب قائلاً : لو سئلت عن العبارة التي اتمنى ان تكتب على قبري ، فلن أطلب إلا عبارة واحدة هي : "ذلك الفرد".
************
كانت نتاج كيركجورد على الرغم من وفاته في سن الحادية والاربعين ، انتاجاً ضخماً وميادين البحوث التي تعرض لها تبلغ من الاتساع ما بلغته تلك التي ناقشها هيغل ، وبما ان الوجود يعني القبام باختبارات اخلاقية فهو " إما- أو " مستمر وحياة عمل ، خلال سنوات عمره التي لم تتجاوز الواحد واربعين عاما قضى الجزء الاكبر منها في صراع مع هيغل ، ذلك ان نظرة كيركجورد للفلسفة تعتقد انه لاتوجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم للحياة ، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة ، ولعل اولى السمات واوضحها في فكر هيجل ان التفلسف يجب ان يبدا من الانسان ، لا من الطبيعة ، فالوجودية فلسفة عن الذات اكثر منها فلسفة عن الموضوع ، وان الانسان عند كيركجورد هو الموجود في نطاق تواجده الكامل ، فهذا الموجود ليس ذاتاً مفكرة فحسب ، وانما هو الذات التي تاخذ المبادرة في الفعل وتكون مركزا للشعور والوجدان ، ولهذا فإن الفيلسوف الوجودي حسب كيركجورد هو الذي يندمج في الوقائع الفعلية للوجود . ويصرح سارتر بأن :" الفلسفة هي نتاج لانسانية كل فيلسوف ، فالانسان هو الذي يتفلسف " .، لقد رفض كيركجورد كل محاولات الفلاسفة في خلق تفسيرات عن الانسان والعالم ، ووقف بوجه هيغل الذي اراد ان يفسر الوجود من خلال العقل ، لقد اكد كيركجورد على ان الفلسفة لايجب ان تكون مجردة ، بل على العكس من ذلك يجب ان ترتكز على تجربة شخصية ، وعلى موقف تاريخي يجد الفرد فيه نفسه ، ومن هنا كانت الفلسفة عند كيركجورد بمثابة نقطة ارتكاز لكل حياة فردية ، وليست وسيلة للتامل العقلي المجرد .
ربما تكون رسالة كيركجورد الأكثر اهمية هي أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل.لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب فيض من المرح، والسخرية،.بالنسبة لكيركجورد، كانت السخرية هي الأداة التي من خلالها نستطيع أن ندخل في فحص ذاتي دون غطرسة وتكبر"فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية " .
اليوم وعلى الرغم من ان الوجودية تظل مصطلحاًكثير التداول ، وعلى الرغم من ان سارتر لايزال هو اشهر فلاسفتها ، فغالبا ما يتذكر مؤرخوا الفلسفة الفيلسوف الدنماركي كيركجارد الذي جعل من الفلسفة ظاهرة ثقافية تترك اثارها في فروع الثقافة الاخرى ، واستطاعت منذ الكتابات الاولى لكيركجوردصياغة مصطبحات من عينة القلق وخداع الذات والالتزام والصدق ، والكثير من المصطلحات التي ما تزال تتداخل في احاديثنا اليومية ، ولعبت الوجودية وخصوصا في السنوات الاخيرة من القرن العشرين دورا رئيسيا في الفلسفة الاوربية ، وساهمت في الحوار الفلسفي المستمر ، وكانت تعبر بصدق عن الهموم الاخلاقية الدائمة للوضع الانساني ، وما زالت كتابات روادها الاوائل تدافع عن الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية .
قبل يوم من وفاة كيركجورد يكتب رسالة الى خطيبته السابقة ريجينا اولسن : " سلامي الى جميع البشر لقد احببتهم وحرصت عليهم كثيرا ، قولي لهم ان حياتي كانت عذابا هائلا لم يعرفه ولم يفهمه الاخرون ، ربما كانت تبدو كبرياء وغرور ، لكنها لم تك قط شيئا من ذلك ، لقد استنتجت طوال حياتي ان مهمتي غير عادية ولقد حاولت ان اقوم بهذه المهمة قدر استطاعتي".
لم تكن سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، سنوات الخوف من المجهول ، إلا على نحو سطحي ، فما حدث بعد الحرب هو العكس ، حيث هبّت رياح الحرية على العالم الغربي ، الحرية الفكرية ، حرية الوجود ، حرية المرأة ، الضجة التي احدثها كتاب سيمون دي بوفورا "الجنس الآخر"، ثم المثال الحي للموقف الحر الذي قدمه الثنائي سارتر وكامو .
في الفترة نفسها نشر المسرحي والفيلسوف جابريل مارسيل كتابه المثير"يوميات ميتافيزيقية"، والذي طالب فيه ان تعود الفلسفة الوجودية الى أصولها الأولى الى المعلم "سيرون كيركجورد" الذي ظل الدارسون منذ وفاته عام 1855 يعتبرونه مجرد مفكر ديني حاول إصلاح الأوضاع المتردية في عصره ، فيما عدّه آخرون ممثلاً للعدمية من خلال نصوصه الأدبية التي حاول من خلالها إقناع القراء بفقر الحياة وعدم جدواها ، غير ان مارسيل شكك بوجهات النظر هذه ، وكتب مقالاً في العدد الأول من مجلة "الأزمنة الحديثة" التي يصدرها سارتر يؤكد فيه: "أن لكيركجارد تاثيراً في عدد من التطورات الفلسفية الهامة ، بل ان تحدّيه لوجهة نظر هيغل الى العقل ، هي تحديات فلسفية بقدر ما هي دينية ، انها محاولات لنزال الفلاسفة على أرضهم" . كان كيركجورد نفسه يخشى ان يُنظر اليه بعد موته على انه فيلسوف، ونراه يعترف بصراحة ووضوح في كتابه "خوف ورعدة" :"كاتب هذه السطور ليس فيلسوفاً ، وهو لم يفهم (المذهب) بل لايدري ان كان هناك ما يسمى بالمذهب الفلسفي ام لا ، ولا يدري ان كان قد اكتمل ، يكفيه ما لديه فعلا في رأسه الهزيلة من تفكير" .
وصاحب الرأس الهزيلة هذه لم يكن يعيه من الفلسفة سوى الرد على الألماني هيغل الذي اراد ان يفسر كل شيء تفسيراً عقلياً خالصاً ، مع ان حياة الانسان ،على حد تعبير كيركجارد، مليئة بألوان كثيرة من الغموض والألغاز يعجز العقل البشري عن تفسيرها ، لأنها تحتاج الى منهج آخر يختلف عن منهج هيغل : " فالخلط الذي احدثه هيغل في الحياة الإنسانية أمر لايصدق". ومن هنا كان كيركجورد يريد ان يحلّ الوجود الأنساني بكلّ ما يحيط به من قلق وصراع وتوتر ويأس وإيمان وخطيئة ومعاناة ، محل الوجود العقلي الذي حوّل الواقع الانساني الى مجموعة هائلة من التصورات العقلية:" اية فائدة يمكن ان ترتجى اذا درست جميع المذاهب الفلسفية واظهرت ما في كل هذه المذاهب من تناقضات ، اية فائدة تعود علي لو انني استطعت تطوير نظرية في الدولة ورتبت جميع التفصيلات في كلّ واحد ، وبنيت بهذا الشكل عالماً لن اعيش فيه ، ان ما ينقصني في الحقيقة هو أن أرى نفسي بوضوح ، أن أعرف ما يجب علي ان أعمله ، لا ما ينبغي علي ان أعرفه الا بمقدار ما تسبق المعرفة العمل بالضرورة ، ان المهم ان أفهم مهمتي في هذه الدنيا". كانت هذه هي بداية الوجودية ،كما يقول جون ماكوري في كتابه "الوجودية " ، انها فلسفة تدور حول الانسان ، فكيركجورد يقدم للإنسان وجهة نظر عامة عن المنهج الذي ينبغي ان يسير عليه وهو يقول له : لاتبحث عن الحقيقة خارج نفسك ، ان الحقيقة لكي تكون جديرة بهذا الاسم لابد ان تكون ذاتية : "ان ما أريده وما أبحث عنه في كل انسان ، هو ألا يفكر بالنهار إلا في مقولات حياته ، وان يحلم بها في الليل".
التقط سارتر عبارة كيركجورد هذه ليقدم اول محاضرة عن الوجودية بعنوان "الوجودية مذهب انساني" ، اي انها تضع الإنسان في مركز اهتمامها ، وعلى قمة هرم اولوياتها ، ونجد هيدجر يقدم التحية لكيركجورد في مقاله الشهير "رسالة في النزعة الانسانية" حيث يرى ان كيركجورد استطاع ان يقدم فلسفة قادره على الانفتاح على الوجود الإنساني ، وفي تعبير شهير يكتب هيدجر عن هذا الانسان الوجودي انه "راعي الوجود".
بعد 60 عاماً على وفاة كيركجورد يكتب الوجودي الروسي نيقولاى بِرديائف :"ان كيركجورد يريد ان تكون الفلسفة نفسها وجوداً بدلاً من ان تكون مجرد بحث في الوجود" . كان برديائيف تلميذاً مخلصاً لأفكار المعلم النمساوي الذي طالب بأن على الإنسان ان يغيّر نفسه أولاً قبل ان يغير العالم ، ويعلنها برديائيف صريحة في كتابه الشهير الحلم والواقع : "غيّر نفسك يتغير العالم لك وبك ومن حولك" .
************
كان في السادسة من عمره حين أدرك أنه لن يتمكّن من تذوّق صحبة أقرانه في المدرسة الذين كانوا يسخرون من هذا الصبي ناحل الجسم ، فالطفل الذي ولد لأب يبلغ من العمر السادسة والخمسين ، جمع مالاً كثيراً ، لكنه ايضاً جمع نظرة متشائمة الى الحياة ، يتصور ان لعنة الله قد حلّت به وبعائلته ، كان أصغر الأبناء السبعة للأسرة ، وقد هيمنت على البيت النزعة الأبوية الصارمة ، فقد كانت للأب نظرة كئيبة الى الحياة ، وكان يعاني من نوبات متقطعة من الاكتئاب واليأس والشعور بأنه ارتكب خطيئة كبيرة ، وقد ورث الابن عن أبيه الاكتئاب والسوداوية التي كانت تنتابه بين الحين والآخر، فنراه يكتب في مؤلفه "وجهة نظر" والذي هو اشبه بالسيرة الذاتية : "وانا طفل تربيت على المسيحية بصرامة وشدة ، واذا جاز لي أن أعبّر عن نفسي بانسانية ، لقلت إنني تربيت على نحو جنوني ، وحتى في طفولتي المبكرة ، قيدتني انطباعات حطّت عليّ من سوداوية الرجل العجوز الذي كان هو نفسه محاصراً بها ، لقد كنت طفلاً تربّى على انه رجل عجوز سوداوي".
ولد سورين كيركجورد في كوبنهاغن في الخامس من أيار عام 1813 ، حاول في سن الشباب ان يتخلص من جو الكآبة الذي عاشه مع أبيه ، فأقبل بكل قوة على حياة اللهو ، ورفع شعار "تلذذ بكل ما هو حسي" ، ونراه يحاول ايجاد اعذار لهذه المرحلة من حياته، فيكتب في يومياته :"لقد ولدت كهلاً حين أتيت الى الوجود ، ولكن يعزى إلي الفضل في إخفاء أحزاني بسعادة ظاهرة" .
يرسم جون ماكوري في كتابه الممتع "الوجودية" صورة طريفة لصبي منعزل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً ملوناً ، وجوارب طويلة ، حتى اطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب "صبي الجوارب" ، لم يكن يملك اية لعبة في منزله ، وحين كان يطلب الخروج من البيت كان والده يمنعه ، فالاختلاط خطر :"لقد سرقوا طفولتي ، وأعطوني وانا طفل هيئة رجل عجوز ، كان ذلك رهيباً". كانت تسيطر على ابيه فكرة الخطيئة ، وقد قال لأولاده انه عندما كان شاباً يرعى الأغنام ، شعر باليأس والضجر ، فأنكر الله الذي لم يساعده في الحياة ، وانه رأى بعد ذلك في المنام ان عاصفة رعدية ضربته ، ومنذ ذلك التاريخ وهو يظن ان الله سينزل عليه في يوم من الأيام عقاباً رهيباً ، وحين ازدهرت تجارته ، بدت له الثروة والحياة المرفهة كنوع من الاختبار ، وحين وقع لابنه الأصغر سورين عدد من الحوادث ، اعتقد الأب ان لحظة سداد الدين قد حانت ، وان عليه ان يقدم آخر أبنائه قرباناً كما فعل النبي ابراهيم مع آخر أبنائه . ولعبت الأقدار دوراً في ازدياد كآبة الأب الذي دفن خمسة من أبنائه بالاضافة الى زوجته ، هذا المزاج السوداوي يصفه لنا كيركجورد في يومياته :" تلك الحياة هي العالم معكوساً ، حياة قاسية وغير محتملة ، احيانا نقول الوقت يمر ، والحياة تتدفق ، ولكني لا أرى ذلك ، بل يبقى الوقت ساكناً ، وانا كذلك ، كل خطط المستقبل التي ارتبها ترتد الي ، وحين أرغب ان أبصق ، فأنا أبصق في وجهي".
وكان كيركجورد يذكر الماضي الذي عاشه مع أبيه ويتعذب ، لكنه لايريد ان يغادر هذا الماضي ، انه يصر ان يجعل من عذابه نقطة انطلاق نحو فهم للحياة :"مهمتي ان أصرخ وأدعو الناس ، ان أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان".
في السابعة عشرة من عمره ينهي تعليمه الثانوي ويستجيب لرغبة والده بدراسة اللاهوت ، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها مولعاً بقراءة اعمال الفلاسفة المثاليين الألمان، فنراه يبدي سعادة كبيرة حين يلتقي الفيلسوف الألماني شيلينغ :" انا سعيد سعادة لاتوصف لسماعي محاضراته ، حتى انني تنهدت طويلاً بما فيه الكفاية ، وتنهدت الأفكار بداخلي". وقد اتفق مع هجوم شيلينغ على هيغل .
عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفى والده ، الأمر الذي أحدث تحولاً كبيراً في حياته ، :" لقد توفى والدي قبل ان يتم العقاب حباً لي ، وذلك حتى اتحمل وحدي العقاب " .وبعد عامين حصل على شهادة في اللاهوت وخطب "رجينا اولسن" ، لكنه فسخ خطوبته بعد عام ، معلناً بوضوح انه لاينفع للحياة الزوجية ، فقد اصبح مقتنعاً بأنه انسان لديه رسالة عظيمة ، وان الزواج والعائلة يتعارضان مع هذا الهدف .
في العام 1843 ينشر اول كتبه "إما – أو" وفيه يعبر للمرة الاولى عن موقفه من الحياة ، وهو موقف المتشائم :"لندع الآخرين يشتكون من هذا العصر الذي هو عصر الشر ، إنني اشكو لأنه عصر تعس ، عصر بلا عاطفة ، وافكار الناس نحيلة وهشة كرباط الحذاء ، ان نفسي مثقلة حتى انه ما من فكرة بقادرة على تعزيتها ". بعدها بأشهر ينشر كتابه الثاني "خوف ورعدة" ، وتبع هذين العملين في عام 1844 كتاباه "مفهوم التهكم" و "شذرات فلسفية". وبعد عام نشر كتابه الخامس "مراحل على طريق الحياة" ، ويبدو انه كان يشعر ان حياته قصيرة فأخذ يكتب بشكل محموم ، فنشر خلال ثلاثة أعوام أكثر من مؤلف واصدر مجلة خاصة حاول من خلالها ان يبث افكاره التي اراد ان يقول من خلالها ان على الكنيسة ان تعود الى جوهر المسيحية ، اذ يجب على المسيحية الكنسية ان تعترف بأنها ليست مسيحية .. وقد اتهم الكهنة بأنهم يتلاعبون بالدين ، وجعلوا من الكنيسة مصدر كسب للعيش ، لكنهم لم يفهموا ان الدين هو الولاء ، وقبل كل شيء "في الارتفاع عن هذا" ، وعن الكهنة الذين وصفهم بأنهم :"أكلة لحوم البشر" .
بعد نشر هذه المقالات التي اثارت عليه حفيظة الكنيسة الدنماركية ، كان في احد الأيام يسير باتجاه الصحيفة ، وكان ذلك في اليوم الثاني من تشرين الاول 1855 حين نقل الى المستشفى ،حيث رقد شهرا كاملا ، والغريب ان اول عبارة قالها عند دخوله المستشفى :" لقد جئت هنا لاموت " .
وفي المستشفى طُلب منه صديقه المقرب ان يتراجع عن هجومه ضد الكنيسة فكان جوابه :"لقد أردت ان اموت وحينئذ استطيع ان أتاكد انني قد أنجزت مهمتي ، وسوف يكون الناس أكثر إنصاتا الى كلمات انسان ميت عن الإنصات الى كلمات الانسان الحي". وحين يسأله الطبيب المعالج اذا ما كان يريد ان يتلقى المغفرة ، فيجيب "نعم، ولكن ليس من قس ، بل من انسان عادي ، ان الكهنة موظفون رسميون ، والموظفون ليست لهم علاقة بالكنيسة" ، ويوصي الطبيب قائلاً : لو سئلت عن العبارة التي اتمنى ان تكتب على قبري ، فلن أطلب إلا عبارة واحدة هي : "ذلك الفرد".
************
كانت نتاج كيركجورد على الرغم من وفاته في سن الحادية والاربعين ، انتاجاً ضخماً وميادين البحوث التي تعرض لها تبلغ من الاتساع ما بلغته تلك التي ناقشها هيغل ، وبما ان الوجود يعني القبام باختبارات اخلاقية فهو " إما- أو " مستمر وحياة عمل ، خلال سنوات عمره التي لم تتجاوز الواحد واربعين عاما قضى الجزء الاكبر منها في صراع مع هيغل ، ذلك ان نظرة كيركجورد للفلسفة تعتقد انه لاتوجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم للحياة ، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة ، ولعل اولى السمات واوضحها في فكر هيجل ان التفلسف يجب ان يبدا من الانسان ، لا من الطبيعة ، فالوجودية فلسفة عن الذات اكثر منها فلسفة عن الموضوع ، وان الانسان عند كيركجورد هو الموجود في نطاق تواجده الكامل ، فهذا الموجود ليس ذاتاً مفكرة فحسب ، وانما هو الذات التي تاخذ المبادرة في الفعل وتكون مركزا للشعور والوجدان ، ولهذا فإن الفيلسوف الوجودي حسب كيركجورد هو الذي يندمج في الوقائع الفعلية للوجود . ويصرح سارتر بأن :" الفلسفة هي نتاج لانسانية كل فيلسوف ، فالانسان هو الذي يتفلسف " .، لقد رفض كيركجورد كل محاولات الفلاسفة في خلق تفسيرات عن الانسان والعالم ، ووقف بوجه هيغل الذي اراد ان يفسر الوجود من خلال العقل ، لقد اكد كيركجورد على ان الفلسفة لايجب ان تكون مجردة ، بل على العكس من ذلك يجب ان ترتكز على تجربة شخصية ، وعلى موقف تاريخي يجد الفرد فيه نفسه ، ومن هنا كانت الفلسفة عند كيركجورد بمثابة نقطة ارتكاز لكل حياة فردية ، وليست وسيلة للتامل العقلي المجرد .
ربما تكون رسالة كيركجورد الأكثر اهمية هي أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل.لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب فيض من المرح، والسخرية،.بالنسبة لكيركجورد، كانت السخرية هي الأداة التي من خلالها نستطيع أن ندخل في فحص ذاتي دون غطرسة وتكبر"فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية " .
اليوم وعلى الرغم من ان الوجودية تظل مصطلحاًكثير التداول ، وعلى الرغم من ان سارتر لايزال هو اشهر فلاسفتها ، فغالبا ما يتذكر مؤرخوا الفلسفة الفيلسوف الدنماركي كيركجارد الذي جعل من الفلسفة ظاهرة ثقافية تترك اثارها في فروع الثقافة الاخرى ، واستطاعت منذ الكتابات الاولى لكيركجوردصياغة مصطبحات من عينة القلق وخداع الذات والالتزام والصدق ، والكثير من المصطلحات التي ما تزال تتداخل في احاديثنا اليومية ، ولعبت الوجودية وخصوصا في السنوات الاخيرة من القرن العشرين دورا رئيسيا في الفلسفة الاوربية ، وساهمت في الحوار الفلسفي المستمر ، وكانت تعبر بصدق عن الهموم الاخلاقية الدائمة للوضع الانساني ، وما زالت كتابات روادها الاوائل تدافع عن الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية .
قبل يوم من وفاة كيركجورد يكتب رسالة الى خطيبته السابقة ريجينا اولسن : " سلامي الى جميع البشر لقد احببتهم وحرصت عليهم كثيرا ، قولي لهم ان حياتي كانت عذابا هائلا لم يعرفه ولم يفهمه الاخرون ، ربما كانت تبدو كبرياء وغرور ، لكنها لم تك قط شيئا من ذلك ، لقد استنتجت طوال حياتي ان مهمتي غير عادية ولقد حاولت ان اقوم بهذه المهمة قدر استطاعتي".